الفساد والقمع بمقابل الدم والآلام.. شيعة السلطة وشيعة الشعب العراقي

علي عبدالأمير عجام

إذا كان الانتفاضة السليمة العراقية بجمهور وتضحيات وزخم المناطق الشيعية، فانها تقمع فعليا على يد سلطات شيعية (الحكومة والميليشيات). هذا يعني اننا حيال انقسام فعلي بين شيعة السلطة وشيعة الشعب العراقي.

آراء وقراءات حصرية من كتاب وأكاديميين عراقيين، تناولت هذا المنعطف الحاسم بل آخر التصدعات كما يقول مدير “معهد تطوير الجنوب” والناشط رمضان البدران.

ويعتقد البدران أن “آخر التصدعات في مكونات الشعب العراقي، يمر به الشيعة، حيث مفترق انتفاضة تشرين في العراق، وقد وضع (ذلك التصدع) اخر مفترقات التداخل بين مفهومي الدولة والحكومة”.

لكن كيف ظهر هذا التصدع؟ وكيف بدا مفهوما الدولة والحكومة بعد السيطرة الشيعية على السلطة في العراق؟

المستقبل الآمن.. الدولة عاجزة

هنا يوضح البدران “جيلٌ جديد واجه الحقيقة وأدرك أن الدولة أصبحت عاجزة عن تقديم وعود كافية لمستقبل آمن. جيلٌ أدرك أن الأجيال السابقة استحوذت على كل المتاح من الموارد حتى لم يعد هناك متبق يوفر مصدر قوت أو رزق. مارست الاحزاب سياسات ماكرو ومتمرسة قوامها شعب مدرب على الانصياع. في ذات الوقت لعبت إيران دوراً ماكراً في إدارة ملف بناء السلطة على قياساتها، هذه الخبرة نتاج ٢٥ سنة من التعاطي مع المجتمع الإيراني من خلال تسويق ديمقراطية مزيفة وانتخابات شكلية يقابلها غسيل دماغ وترويض بشتى الوسائل”.

وقراءة البدران لجوهر التجربة السياسية الإيرانية تبدو مهمة لقراءة تجربة بلاده بعد 2003 لجهة أن القوى المتنفذة التي شكّلت تلك التجربة توالي طهران وفكر نظامها “الأحزاب والتشكيلات التي تبلورت في ايران ودخلت العراق، حملت ذلك الميراث كوسيلة وأهداف. وكما مرّ المجتع السني العراقي في مراحل انقسام بين الموالين لمدرسة السلف واعادة بناء دولة الخلافة وبين دعاة الدولة المدنية الوطنية، انقسم المجتمع الشيعي بين دعاة دولة الولاية والتي تمثل ايران إنموذجها الحي وبين تيار مدني وطني”.

على منهج طهران.. الإستئثار بالسطة

في كلا الموضعين انقسم المجتمع (العراقي) في متبنياته ولكن “ذلك الانقسام تعدى الفكري الى التعبوي، فأحزاب السلطة وخاصة الشيعية الاسلامية منها، نهجت منهج الاستئثار في الحكم واحتكار الوظائف الحكومية والفرص، وبالتالي نسجت لنفسها شبكة واسعة نفذت داخل النسيج المجتمعي الشيعي وتحولت إلى جزء مهم من قاعدة الماكنة الانتخابية” يوضح البدران مواصلاً فكرته بالقول “هذا التبادل في المنفعة أنتج كتلةً مجتمعية مستفيده وموالين يتنشرون في كل مفاصل الجهاز الحكومي والأمني خاصة وبين النسيج المجتمعي أيضا، تجربة مستنسخة من تجربة دولة الفقيه والحرس الثوري ولكن على أرضية أكثر خصوبة تركتها النظام الشمولي لمرحلة البعث الاشتراكي والتفرد الصدامي”.

وسط هذه الفوضى وإن كانت تبدو شديدة التنظيم “أهمل جيلٌ كان ينشأ ويترعرع على ما تدر به شبكة المعلوماتية وفسحة الرخاء الاقتصادي التي اتاحت للعراقيين السفر والاحتكاك بتجارب دول مناظرة عدة. هذا الوعي قابلة عجز تام في امكانات الدولة الاقتصادية وترهل كبير في كيانها الوظيفي إلى الحد الذي استنفذ كامل الوفرات والفوائض المتأتية من موارد النفط رغم التوسع الذي جرى على سقف انتاجه. إنه الانقسام الشيعي اليوم، انقسام يحدث للمرة الأولى ويفضح الفجوة بين مشروعي بناء الحكومة وبناء الدولة” يؤكد البدران.

الجيل الثائر بمقابل صنوه القاتل؟

هذا “جيلٌ ثائر يريد وطناً ودولة مستقرة ورحبة تقدم له مستقبلاً آمناً وفرصة حياة عادلة وتقلص حجم الحرمان والطبقية والتمييز وكما يراها في بعض نماذج الدول المجاورة” يقابله “جيلٌ تربى وتورط مع أحزاب السلطة وانخرط في المنظومة الفكرية المستمدة من نظرية وتجربة الفقية في ايران”، وحيال هذا الانقسام بحسب البدران، فنحن “ظاهرياً نرى صراعاً بين شيعة الجيل الجديد وجيل الأحزاب والولاء لدولة الفقيه الذي أدمن الامتيازات والمكاسب السهلة وغرق في الفساد وتحول إلى قاتل جاهز للدفاع عن هذه المكتسبات بلا أي تردد”.

“علاقة تقاطعية”

ويعتقد أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكوفة د. أياد العنبر أن العلاقة بين شيعة السلطة وشيعة الشعب هي علاقة تقاطعية ولم تكن بأي حال من الأحوال علاقة تكاملية، لأن أغلب أحزاب الإسلام السياسي الشيعي لا يمكن وصفها بالأحزاب الجماهيرية، وإنما هي أحزاب هيكلية و”نخبوية” تعتبر نفسها هي وحدها لها حق القيادة والتصرف، وأما الجمهور المطلوب منه السمع والطاعة”.

ويضيف العنبر  أن “بقية العناوين السياسية الشيعية التي ظهرت بعد ٢٠٠٣ فهي ينطبق عليها وصف الجماعات الخاضعة لإرادة الزعيم، ووجدت في الدخول بالعلمية السياسية وسيلة لتوسيع نفوذها من خلال الحصول على مغانم المشاركة بالحكم وتقاسم الاقتصاد الريعي للدولة من أجل كسب الزبائنية”.

وتأسيساً على ذلك “وجدت هذه القوى والأحزاب عنوان الطائفة والمظلومية الشيعية بمثابة حصان طروادة للدخول في اللعبة الديمقراطية ومن ثم الوصول إلى الحكم. المفارقة أن هذه القوى والاحزاب تعترف بالفشل والفساد وسوء الإدارة الذي كانت نتيجته غياب تام للمنجز الاقتصادي والخدمي للمحافظات الجنوبية الشيعية، وفي نفس الوقتِ لم يتركوا وسيلة ولا دعاية في تخوين التظاهرات واعتبارها مؤمراة على حكم الشيعة” يؤكد العنبر.

ومن هنا تدرك جيداً الأحزاب السلطوية الشيعية بأن هذه التظاهرات هي تعبير عن رفض حكم الأحزاب وسلطتها “الفاسدة” الأحزاب، وهي (التظاهرات) تعني “خسارة لرمزيات السلطة التي كانت تستثمرها في التحشيد الانتخابي، ومن ثم هي تارة تستخدم السلاح والبطش وتارة أخرى تستخدم الوسائل الإعلامية والجيوش الأليكترونية للتخوين”.

“المظلومون” وقد صاروا ظالمين

هي إذن حال من فقدان التوازن أصيبت بها الطبقة السياسية الشيعية، كما يحدد الكاتب والشخصية الإعلامية المعروفة د. حميد عبد الله “حال من الدوار إثر انفجار الشارع الشيعي الذي أمضّ به ظلم ذوي القربى فتحولت المظلومية التي تستر بها الفاسدون إلى ظلم وقع على ابناء الطائفة الشيعية الذين لم يعرفوا مثيلاً له” يقول عبد الله .

لقد أسقط بايدي الماسكين بالسلطة وهم يرون جمهوراً شيعياً غاضبا ينتفض على سلطتهم، وازادادت حيرتهم عمقاً بعد ان تيقنوا أن “المنتفضين هم فتية لم يتجاوز أكبرهم سناً الخمسة والعشرين، بمعنى انهم لم يدركوا حكم البعث، ولم يتاثروا بصدام، بل  أن عقولهم تفتحت على واقع مزر أسس له القادمون من دول المنافي لحكم العراق بعد 2003”.

لائحة طويلة من الاتهامات

وبحسب د. عبدالله الذي خبر فنون الإعلام وأشكاله “حاول الإعلام البائس لأحزاب السلطة أن يتجاهل التظاهرات قبل أن يصفها بـ “الفتنة”، وحين اخذت بالاتساع، بما يهدد عروش الطغيان والفساد، راحوا يبحثون عن اتهامات لإلصاقها بالشباب المنتفض فنعتوهم بـ “عملاء السفارات”  متناسين أن قوى المعارضة التي وصلت إلى السلطة بفعل الاحتلال الامريكي كانت  بأجمعها  تمارس أحط أنواع التسول عند أبواب السفارات  بدون استثناء، وفاتهم أن “العمالة” انما هي براءة اختراع، بل سنّة سيئة سنتها أحزاب السلطة، وأصبحت  وصمة عار لن تمحى في تاريخها”.

وينبه عبد الله إلى مسألة اغتراب أحزاب السلطة العراقية وعزلتها عن الجمهور فـ “الذين تسلموا السلطة  من المحتل الأمريكي يعيشون حالة من الاغتراب والعزلة معاَ. أما الاغتراب فمردّه انقطاع تلك الأحزاب عن العراق عقوداً طويلة، وحين عادوا إليه بعد 2003 كان العراق غير العراق بفعل الحروب والتصدعات والحصار، وأحزابهم هي الأخرى غير تلك التي كانت تعمل في الساحة العراقية في الستينات والسبعينات  من القرن الماضي. أما العزلة فمصدرها ان الطبقة السياسية المغتربة عزلت نفسها في مربع لاترى فيه شمساَ ولا زمهريرا، تحجبها عن الجمهور حواجز من الترف ماكانوا يحلمون بالتمتع بها ذات يوم”.

“زهايمر” سياسي سيقوضه جيل بناء الدولة؟

وحيال ما تقدم “لم يعد أمام المغتربين والمعزولين من خيار في التعامل مع التظاهرات الا طريقين هما التجاهل والقمع وكلاهما لم يجديا نفعا مع جيل سبق بوعييه وتطلعاته جميع قادة الاحزاب الذين يعيشون حالة من الزهايمر السياسي والشيخوخة الفكرية والخرف الآيديولوجي” ينهي عبد الله حديثه، بينما ورغم كل اختلافات المظهر وشكل الصراع، تبقى الحقيقة التي أظهرتها انتفاضة تشرين، هي صراعُ بين جيل مدرسة السلطة وجيل مدرسة الدولة كما يقول السياسي المستقل والناشط  رمضان البدران في رؤيته  إلى ما يجري في المنطقة الشيعية، وقناعته في أن “هذا الجيل المفلس هو من سيتبنى مشروع بناء الدولة الذي غادرة العراق بعد الانقلاب الجمهوري 1958 وتقويض الحكم الملكي. نحن بانتظار عودة للدولة العراقية ولو بعد حين”.

Related Posts