الأحزاب العراقية و”وزراء الطائفة”؟

مشرق عباس*

أجابني وزير عراقي يوما بنصف جواب حول أسباب تهافت الأحزاب للحصول على وزارات في أية حكومة عراقية، فقال إن الوزير في العراق يمتلك صلاحيات مركزية على وزارته، تتيح له إحداث تغييرات جذرية فيها، وإضفاء سمته أو سمة حزبه على مراكزها المؤثرة وعلى سياساتها وطبيعة عملها، ولهذا أصبحت الوزارات في الحكومات العراقية المتلاحقة منصة للأحزاب، لا للاستيلاء على العقود والمناقصات فقط، بل أيضا لفرض نمط حزبي في سلوكها يتحول في فترة الانتخابات إلى أصوات مضمونة.

الأمر يفسر جزئيا التكالب الحزبي المستمر للحصول على الوزارات، كما يفسر لماذا تنطلق مع كل مفاوضات لتشكيلة حكومة عراقية شائعات وتسريبات حول بيع وشراء الوزارات والمناصب بمبالغ مهولة، وهي شائعات لم يتم تأكيدها إلا باعترافات متناثرة لبعض السياسيين لم يتم التعامل معها بجدية على المستوى القانوني طوال 16 عاما مضت.

مؤخرا تعاني حكومة محمد علاوي، التي تكابد كما يبدو لتغيير منهج التقاسم الحزبي هذا، من ممانعات حزبية متواصلة، على رغم أن التسريبات حولها متضاربة، بالإضافة إلى أن الحكومة المنتظرة نفسها ما زالت تواجه ممانعات شعبية إثر اعلان ساحات التظاهر الرفض المسبق لها.

ويبدو أن الرفض الشعبي هو نوع من الضغط على الجميع، فلسان حال المتظاهرين يقول إن أية حكومة لن تنال قبول الجمهور المنتفض حتى تثبت أقوالها بأفعال على عدة مستويات، لا تبدأ بتشكيلتها التي يطالب الشارع بأن تكون مستقلة تماما عن الأحزاب، ولا تنتهي بمهماتها التي يجب أن يتصدرها محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين واختطافهم وتعذيبهم، واستعادة قرار الدولة من المليشيات المسلحة التي اختطفته، قبل الإعداد للانتخابات المبكرة عبر قانون نافذ ومفوضية مكتملة ونزيهة وإشراف دولي كامل.

لكن هذه المهمات تصطدم بعوائق، أبرزها انتزاع الوزارات من الأحزاب فعليا، فليس بالضرورة أن يكون الوزير مستقلا ليكون منزها عن الضغوط الحزبية، ناهيك عن أزمة أخرى تخص طبيعة القرار الذي سوف يتخذ في مجلس الوزراء للحكومة الانتقالية، وإذا كان قرارا مستقلا فعلا، أم أنه كما تبث قوى سنية وكردية مخاوف من كونه يمثل بشكل مباشر أو غير مباشر إرادة القوى الشيعية التي اختارت رئيس الوزراء.

طوال التجارب السابقة جربت الأحزاب طرقا مختلفة للتمثيل، فكانت تختار في حكومتي الجعفري والمالكي وزراء حزبيين صريحين لتمثيلها تحت ظل ما بات يسمى “وزارات الطائفة”، ومن ثم انتقلت في حكومة حيدر العبادي ومن ثم حكومة عادل عبد المهدي إلى ترشيح شخصيات غير حزبية بشكل واضح لكنها ممثلة بشكل وآخر للأحزاب التي رشحتها ودخلت في اتفاقات حول آليات إدارة الوزارات مع الأحزاب قبل ترشيحها.

حتى الآن يبدو أن مفهوم “وزارات الطائفة” يهيمن على النقاش السياسي، فهناك تقسيمة أساسية ثلاثية “سنية وشيعية وكردية” يجب أن تكون حاضرة في جوهر التشكيلة الوزارية تبدأ من تقسيم الوزارات السيادية بنسب متفاوتة.

ويبدو الحق بـ”وزراء الطائفة” مغريا حتى على المستوى الشعبي، وهناك تسويق جيد لفكرة أن من حق الطوائف أن يكون لها تمثيل حسب نسبها السكانية في أية حكومة عراقية كنوع من العرف الراسخ غير القابل للنقاش، وأن الجدل الدائر حول حكومة علاوي الآن لا يخص الطعن بهذا المبدأ، وإنما الطعن بحق رئيس الحكومة باختيار شخصيات شيعية أو سنية أو كردية قد تعتبرها الأحزاب الموجودة فعليا في البرلمان الحالي غير ممثلة حقا لطوائفها.

ولكن وسط هذا التدافع المستمر حول التعريفات، وحقوق الطوائف، لا تقدم أي من القوى المتنازعة إجابة دقيقة لحقيقة المصالح التي قدمها وزراء الطائفة لطوائفهم خلال تجارب الحكومات العراقية المتلاحقة، فليس هناك إشارة مثلا إلى أن وزيرا “سنيا” كان وجوده في الحكومة حاسما في خدمة قضية ما لسنة العراق، والحال ينطبق على الكرد والشيعة، ناهيك عن العجز عن تقديم تعريف لمفهوم “مصالح الطائفة” وإذا كانت تلتقي أو تتقاطع مع مصالح الدولة.

واقع الحال أن النقاش الذي يجري في ساحات التظاهر العراقية مختلف إلى حد بعيد عن نقاشات الصالونات السياسية، فالمتظاهرون ومعظمهم قادمون من مدن بغالبية شيعية لا يعتبرون أن من الضروري أن يخصص منصب رئيس الحكومة للشيعة، لا عرفا ولا دستورا، ويستعينون بإحصاءات وزارة التخطيط العراقية حول مستويات الفقر في العراق والتي أثبتت غرق محافظات الوسط والجنوب بالفقر المدقع، على رغم أن كل رؤساء الحكومات منذ العام 2003 حتى اليوم هم من الشيعة، ويتحدثون بالمقابل عن الكفاءة والنزاهة والوطنية كمعايير بديلة.

القضية بالنسبة لمبدأ الاحتجاج العراقي المتواصل الذي رفع شعار “نريد وطنا” هي وضع عدسة مكبرة على كل مسيرة العملية السياسية التي بدأت بحقوق الطوائف، وانتهت إلى محاصصة التجار، مرورا بتغانم الأحزاب، وهذه العدسة تكشف بما لا يقبل اللبس، أن “الخريطة الجينية” لإدارة العراق فشلت بإنتاج دولة بالأمس، ولن تنجح اليوم أو غدا، وأن استعادة الوطن تبدأ من اعتماد معيار “المواطنة” في أعلى هرم السلطة أولا قبل قواعدها.

*كاتب وصحافي عراقي والمقال عن “الحرة” 

Related Posts