الانقلاب المخملي الذي يقوده السيستاني

د. أياد العنبر*

تُعد مكانة الجمهور من أهم الإشكاليات المتعارضة بين الفكر الديني والديمقراطية. والفكر الإسلامي لا يختلف عن هذه القاعدة، رغم محاولة الكثير مقاربة موضوع الديمقراطية من خلال مفاهيم البيعة العامة أو الشورى وغيرها من المفاهيم. لكن موضوع الجمهور عند الفقهاء الشيعة معقّد ومتداخل، إذ يمكن القول أن موقف المعارضة لنظام الحكم الذي اتسم به الأعم الأغلب من تاريخ الشيعة السياسي، جعل علاقة فقهاء الشيعة وثيقةً بالجمهور أكثر من العلاقة مع السلطة، مع وجود بعض الاستثناءات. ونجد أن مواقف وفتاوى فقهاء الشيعة تراعي جمهور العامة، أكثر من مراعاتها رضا الحكام السياسيين.

وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه العامة، تعد تطورا في الفكر السياسي الشيعي المعاصر من ناحية تجاوزها حالة الاستلاب الفكري الذي كان يُسيطر على الفقه السياسي الشيعي في موقفه إزاء السلطة والدولة، لكنها لم تتجاوز مشكلة الفقه السياسي التقليدي الذي كان ينكر ويرفض الاعتراف بالمضمون التعاقدي بين السلطة والمجتمع، والذي يرفض اعتبار الجمهور مؤهلاً لتفويض السلطة لمن يمثله. بموازاة ذلك، كانت محاولات المدرسة الفقهية النجفية ترمي إلى ترسيخ مبادئ وأسس ولاية الأمة في إدارة الشأن العام، والذي كان الشيخ المحقق محمّد حسين النائيني (ت1936) صاحب كتاب (تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة)، أوّل من تبنى هذه الدعوة، والتي كانت تشكّل بدايةً لتجاوز أطر الفكر الديني بالنظر إلى الجمهور، وتأسيس الدعوة إلى شرعية السلطة السياسية المنتخبة من قبل الأمة.

وإذا كان الشيخ النائيني قد أعاد الاعتبار إلى الأمة، فإن المرجع الديني الأعلى السيّد علي الحسيني السيستاني يتجاوز هذا المفهوم التقليدي مؤكّداً مفهومَ (الشعب)، إذ يعمل منذ 2003 من خلال الخطب والبيانات وردوده على مقلديه، بتجاوز جميع المفاهيم السياسية التقليدية التي تتحكم بمنظومة الفقه السياسي الشيعي. ومن خلال مطالعة بسيطة لكتاب (النصوص الصّادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقيّة)، والذي عمل على إعداده (حامد الخفاف)، نجد أن السيستاني يتماهى مع مفاهيم من قبيل: (الشعب هو مصدر السلطات)، و(الانتخابات العامة التي تعبر عن إرادة الشعب)، و(الدستور الذي يصوت عليه الشعب).

الانقلاب الذي يصنعه السيد السيستاني يقوم بترسيخ المبدأ العام الذي يعد الشعبَ مصدراً للسلطات، ومنه تستمد شرعيتها، متجاوزاً البقاء ضمن الخطاب الفقهي الذي يتمحور حول الواجبات والتكاليف، على حساب الحقوق، والتي تمثل المرتكز الأساس في توثيق العلاقة بين الشعب والدولة. ومن هنا نجد أن السيد السيستاني لا يؤسس لنظريةٍ سياسية من خلال الاستدلال الفقهي، لكنه يرسّخ من خلال البيانات التي يصدرها عبر مواقف تتجاوز نمط التفكير الفقهي التقليدي في التعاطي مع الشأن السياسي. ولكنه بالمقابل يشرّع لتأصيل فقه سياسي يتلاءم مع منطق الدولة المعاصر، باعتبارها مخلوقا أرضيا تابعا للمجتمع، وليس مستقلاً عنه أو سيّداً فوقه، ويتم إدارة الشأن العام فيها على أساس الرضا والقبول الشعبي، ويستمد الحكم فيها شرعيته من تمثيله للمجتمع وليس لأيديولوجيا معينة.

ويؤسس السيد السيستاني لتوجه تجديدي في الفكر السياسي الشيعي، وهذا التوجه ليس على مستوى المباني والأصول، وإنما من خلال التأكيد على أن القضايا والمستجدات في المواضيع المتعلقة بإدارة شؤون المجتمع لا يتم التعامل معها على أساس أنها (مورد ابتلاء) كما يصطلح عليها الفقهاء، بل إنها تحتاج إلى التعاطي معها بعيدا عن منطق الولاية الفقهية. إذاً، مواقف السيستاني يمكن أن تشكّل فرصةً للتأمل، وإنتاج نظرية للحكم قادرة على كسر (الدورة الكاملة) للفقه السياسي الشيعي -كما وصفها فؤاد إبراهيم في كتابه الفقيه والدولة- التي “بدأت الدورة عند نقطة تحريم الدولة وانتهت عند نفس النقطة، ولكن من منطلقين مختلفين، الأول: تحريم دولة غير الإمام المعصوم، والثاني: تحريم دولة غير الفقيه الجامع للشرائط.”

مواقف السيد السيستاني كانت منذ بداية تغيير النظام الدكتاتوري في العراق، أكثر مصداقية في تبني خيار اعتماد النظام الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات، كونها الطريقة الوحيدة للتعبير عن إرادة الشعب. على خلاف القوى السياسية التي استملت السلطة فهي كانت تتعامل مع الديمقراطية وفق منطق البراغماتية كونها الوسيلة للوصول للحكم؛ لأن المباني الفكرية والخطاب لأحزاب الإسلام السياسي هو نتاج الإحيائية الدينية في منتصف القرن العشرين، وسيطر فيها التفكير بأزمة الهوية.

ويبقى الموضوع الأكثر أهمية، هو موقف السيد السيستاني من التظاهرات التي بدأت في أكتوبر، إذ كانت البيانات التي تصدر من مكتبه ويتم قراءتها من قبل ممثليه في كربلاء في صلاة الجمعة، تحاول التوفيق بين الدعوة إلى حفظ النظام العام وتحقيق مطالب المتظاهرين. لكن مواقف المرجع الشيعي الأعلى أخذت تتماهى تماما مع التظاهرات وتعبر عن مطالبها ومواقفها وتدعو إلى استمرارها وديمومة زخمها، وهذا ما أعلنتُه صراحةً ممثلةُ بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بعد لقائها بالسيد السيستاني في النجف الأشرف. وجاءت خطبة الجمعة في 15 تشرين الثاني/نوفمبر واضحة وصريحة بالتأكيد على (أن الحكومة إنما تستمد شرعيتها من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره)، وعدَّت خروج المواطنين بتظاهرات مطالبة بالإصلاح هي خيار الشعب (للخلاص من الفساد المتفاقم يوماً بعد يوم، والخراب المستشري على جميع الأصعدة بتوافق القوى الحاكمة). وحتّى مطالبتها بإقالة الحكومة لم تكن بتوجيهٍ مباشر إلى رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، الذي يدعي بتبجح بعد كل خطاب تصدره المرجعية الالتزام به، بل توجّه إلى مجلس النوّاب الذي منح الشرعية للحكومة بإعادة النظر في هذا الموضوع لعجزها وسوء إدارتها للدولة. فهي كانت دعوة صريحة لاحترام المؤسسات السياسية التي توصف بأنها ممثلة للشعب.

صحيح أن الديمقراطية في العراق لم تصل إلى مرحلة (الديمقراطية الناضجة) كما في البلدان الأوربية، وهي لا تزال ديمقراطية هشّة، بيد أن موقف السيد السيستاني وتظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر التي قادها شباب العراق، يمكن لها تجاوز وصف الهشاشة، والتعويل عليها كثيراً كونها تشكّل حركة تصحيحية تسعى إلى قلب الهرم في المعادلة السياسية بجعل الشعب هو من يقود الإصلاح وليس الطبقة السياسية.

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكوفة والمقال عن موقع “الحرة”

Related Posts