العراق: التظاهرات وخطر الردّة عن الديمقراطية

د. أياد العنبر*

كشفت تظاهرات أكتوبر في العراق عن الوجه الحقيقي للفاعلين في السّلطة، وأثبتت هشاشة ديمقراطيتنا التي يتبجح بها قيادتنا في خطاباتهم الرنانة التي تدعو إلى ضرورة الحفاظ على “نظامنا الديمقراطي”.

وكشفت أيضا، وجود صراعٍ بين قوتين؛ الأولى يجسّدها شباب نشأ في ظل فسحة التحوّل الديمقراطي التي توافرت بعد سقوط النظام الدكتاتوري في أبريل 2003، وهو جيل لم يجرِ تنميطه وفقا لمبدأ الخوف من الحكومة وبطشها، كما كان أهلنا يلقنوننا محاذير ومخاوف نقد النظام وشخوصه.

أما القوة الثانية، فيمثّلها جيل من طبقة سياسية كانت خارج العراق تعمل بعنوان معارضة، وقد هيمنت على مقاليد السلطة وجعلت النظام ومؤسسات الدولة اقطاعيات حزبية وعائلية، ووظفت كل أشكال الفساد والطائفية لترسيخ بقائها وقد تتجدد هيمنتها في مواسم يطلق عليها مجازا انتخابات.

بيد أن خطاب الحكومة والطبقة السياسية لم يقرأ التظاهرات وفق هذا المنظور، وإنما قرأها وروّج في وسائل إعلامه وتابعيه من “الإعلاميين والنُّخب” على أن التظاهرات مؤامرة على النظام السياسي والدولة، وإلا لماذا يرفع المتظاهرون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”؟

لذلك، اختزلوا التظاهرات بهذا الشعار فقط! كيف لا يفكر من هم في السلطة بنظرية المؤامرة، وهم يتآمرون على الشعب العراقي كل يوم؟ وقبل ذلك، تآمر بعضهم على بعض. ولم يجمعهم إلا منطق التخادم المصلحي وكارتلات الفساد.

وعليه، لم يتركوا وصفا لتخوين التظاهرات والمتظاهرين إلا أطلقوه: “مندسين”، و”متآمرين”، “تقودهم أجندة أجنبية”، و”تابعين لاستخبارات أجنبية”.

وبعد عمليات البطش والقتل ضد المتظاهرين، وفي موقف متناقض اعتبرت الحكومة قتلى المتظاهرين شهداء! وأعلنت الحداد ثلاثة أيام. ولم ينتهِ اتهام المتظاهرين وبالتخوين والتآمر حتى تدخلت مرجعية السيد السيستاني في خطبة صلاة الجمعة (11 أكتوبر 2019) بتحميلها الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولية “الدماء الغزيرة التي أريقت في مظاهرات الأيام الماضية، سواء من المواطنين الأبرياء أو من العناصر الأمنية المكلفة بالتعامل معها”.

إذا، المشكلة والخطورة تكمن في فهم الديمقراطية لدى الطبقة الحاكمة في العراق، فهي كانت، ولا تزال، تنظر إليها من خلال بُعدٍ واحد وهو الانتخابات فقط. لو كانت الانتخابات سببا في خروجهم من السلطة لاعتبروها بدعة وضلالة. فعلى مدار ستة عشر عاما لا نجد مظاهر الديمقراطية واضحة المعالم في المؤسسات السياسية، ولا في الاستجابة للرأي العام في صنع السياسات العامة كما تفعل الحكومات الديمقراطية.

الأزمة السياسية في العراق باتت أكثر تعقيدا، إذ تفوق خطورتها تحدي الإرهاب ومواجهته. فالأزمة الآن بين الشعب وحكومته وسياسيّه، ولم تعد تنحصر بعنوان أزمة الثقة بين هذه الأطراف. بل إن المشكلة باتت في فقدان خطوط التواصل والالتقاء بين الشّعب والطبقة السياسية الحاكمة والمتنفذة، ودخلت في مأزق التفكير بالديمقراطية.

فالحكومة والطبقة السياسية تتمسك بمفهوم الشرعية السياسية من زاوية الانتخابات، وتتجاهل شرعية المنجَز المفقودة طوال ستة عشر عاما. تتوهم الحكومة، وتوْهم الناس بأنها تعمل بعنوان ديمقراطية النظام السياسي في العراق وتعتبره منجزا أو منّة على العراقيين.

وهنا نقطة التصالب، كما يصفها درايوش شايغان. فالتحول الديمقراطي في العراق تم برعاية أميركية، ومن رسّخ بقاءه ودافع عنه العراقيون أنفسهم وليس الطبقة السياسية. إذ ذهبوا للانتخابات في العام 2005 بتحدٍ واضح للقتل ومفخخات الجماعات الإرهابية، وصوتوا بـ”نعم” لدستور العراق الديمقراطي، ودفعوا الثمن غاليا من أرواحهم ودمائهم التي سالت في الشوارع لاختيار الديمقراطية. وهبّوا للدفاع عن دولتهم الديمقراطية، والذي ساهمت فيه مرجعية السيد السيستاني بقوة بفتوى الجهاد الكفائي، ضدّ قوى التكفير والظلام في 2014 تنظيم “داعش” الإرهابي الذي استباح ثلاث محافظات عراقية.

اليوم، وبعد تظاهرات أكتوبر 2019 تعلن حكومة السيّد عادل عبد المهدي، الذي صدع رؤوسنا بمقالاته المدافعة عن بناء الدولة الديمقراطية، ومعها الكثير من الشخصيات والقوى السياسية المساندة لهذه الحكومة، تعلن الردةّ على الديمقراطية في العراق.

تلك الديمقراطية التي دفع ثمنها الشعب العراقي دما، ترتدّ عليها الطبقة السياسية؛ لأنها لم تشارك في دفع فاتورتها، وإنما تركت الشعب يواجه القتل والدمار وانعدام العدالة الاجتماعية.

وعلى العكس من ذلك، كانت هذه الطبقة السياسية سببا في ترسيخ ديمقراطية هشّة وبعناوين توافقات سياسية تصبّ في مصالح شخصيات وأحزاب ومافيات فساد. لم تكتف بعدم الدفاع أو حماية العراق والعراقيين من الانتحاريين والسيارات الملغومة، وإنما زجت بهم في حروب عبثية بعد تواطئ مع دول مجاورة.

وبالنتيجة هدرت الأموال وثكلت وترملت نسائنا؛ أما عوائل السياسيين فبقيت تتمتع بالأموال المنهوبة في دولٍ خارج العراق، أو محصّنة في قصورها وتحت أنظار جيوش الحمايات.

الردةّ على الديمقراطية باتت واضحة في أساليب البطش والقسوة والعنف ضد المتظاهرين، وغلق مكاتب القنوات الفضائية بالقوّة وبتهديد السلاح، وقطع الإنترنت وحجب مواقع التواصل الاجتماعي. كل هذه الإجراءات جاءت نتيجة لتظاهرات تطالب بحقوقها المشروعة، وهذا ما أقرّت به الرئاسات الثلاث بخطاباتها المتلفزة التي تأخّرت في الظهور حتى اليوم الرابع من التظاهرات.

إذا، يبدو أن الطبقة السياسية لم تكتفِ بسرقة أموال العراق، وإنما بدأت الشروع بسرقة أحلام العراقيين في وطن ديمقراطي يعيشون فيه، حالهم حال بقية شعوب المعمورة.

فالديمقراطية التي يريدها العراقيون، كما حددها المفكر فالح عبد الجبار، يكون أساسها الأول حرية التنظيم والانتخابات، والثاني تقسيم السلطات، والثالث حكم القانون. لكن حكامنا عملوا فقط بالأساس الأول، وتركوا الثاني مهزوزا، والثالث مثلوما.

ختاما، يقول كارل بوبر: “الديمقراطيات ليست سيادات شعبية، إنها قبل كل شيء مؤسسات مزوّدة بوسائل الدفاع ضد الدكتاتورية”. والعراقيون في احتجاجات أكتوبر يدافعون عن ديمقراطيتهم التي دفعوا ثمنها من دمائهم، ويريدون تصحيح مسار التحول الديمقراطي الذي حرفته أحزاب السلطة عن مساره الصحيح.

وهذا يتماهى مع المقاربة المعاصرة في “محددات التحوّل الديمقراطي” التي توصل لها الكاتب “ليان تيوريل” في كتابه الذي ترجمه “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، إذ يوضّح في نماذج إحصائية ملاحظته بالدعوة إلى عدم الانسياق في دراما التحوّل الديمقراطي من أعلى فحسب، أي بفعل فاعلين نخبويين، بل يتوقف بشكل حاسم على التعبئة الشعبية من أسفل.

Related Posts

LEAVE A COMMENT

Make sure you enter the(*) required information where indicated. HTML code is not allowed