“ديمقراطيتنا” دخانها خانق، وضجيجها يصم الاذان

“ديمقراطيتنا” دخانها خانق، وضجيجها يصم الاذان

سادت الجلسة الاولى الكثير من المناظر المزعجة والمواقف المتناقضة. والمحصلة انه تم انتخاب رئاسة المجلس. وستقرر المحكمة في دعوة الطعن المقامة. فان ردت الدعوة فسيفرض الامر الواقع نفسه. وان قُبلت، ولم تتغير المواقف فسيتكرر المشهد بطريقة اخرى، وسيتم انتخاب الرئاسة، وستتكرر الاسماء ان لم تتغير التحالفات.

“ديمقرطيتنا” تنتج اذن، وما يمنع الرؤية الدخان والضجيج. انتاج قد يُختلف بحجمه ونوعه. انتاج مأزوم يخرجنا من الجمود. قد يستبطن حلاً او ازمة اكبر. والحقيقة لو نظرنا للامر نظرة معمقة، فان جميع “الديمقراطيات” -باختلاف في الوسائل والدرجات- لها ازماتها وامراضها وفسادها وتزويراتها والاعيبها وشرائها للذمم. فكلها لا تخلو تجاربها من جهود محامي بارع ينجح بالقانون من تبرأة مجرمين، او براعة مدعي عام ينجح بالقانون من تجريم ابرياء. وكثيرٌ منها بات يتراجع اليوم، ويؤسس لانظمة خانقة، تتطور داخلها الشعبويات والعنصريات والتعطيلات وحكم الاقلية ونظريات العنف والحرب. ونظرة سريعة لأهمها، تشير لأزمات “الديمقراطية”، وكيف وصل الامر برئيس اكبر دولة “ديمقراطية” على تشجيع جمهور غاضب على اقتحام “كابيتول” بلده.

انتجت “الجلسة” الاولى اشياء عديدة وهذه بعضها:

1- عُقدت الجلسة بعد انتخابات تشريعية شابتها طعونات كثيرة. فالمحصلة البقاء تحت سقف البرلمان، وعدم الذهاب بالصراع لخارجه او تأجيله.

2- عادت السلطة التشريعية بعد غياب 94 يوماً. وانتخبت رئاسة تسمح بانتخاب بقية الرئاسات. فالفراغ خطر كبير. وليس اخطر منه سوى الدكتاتورية والاحتلال والاقتتال.

3- من حق “التيار” ان يفرح، فقد حقق اهدافه. ويجب ان لا يشعر “الاطار” ان انتخاب رئيس المجلس ونائبيه هزيمة له. فهذا كان مقدراً عندما تحالف “تقدم” و”عزم”. ولو اعيدت الجلسة لتكرر الامر. بل فسحت الجلسة “للاطار” لبيان بان لديه اكثر من 80 نائباً من المكون. وهذا رقم وازن قد يمهد للتفاهم مع “التيار” حول تشكيلات السلطة التنفيذية. ناهيك ان تركيبة رئاسة المجلس، لم تختلف عن سابقتها، والتي كانت نتاج اتفاق “البناء” و”الاصلاح”، كابوين “للاطار” و”التيار”.

4- الذهاب الى المكونات الاخرى بدون وحدة المكون يفتح الطريق لمسارات جديدة كانت مستحيلة سابقاً. مسارات مجهولة المآلات بين الحل والازمة. فان قبلت المكونات الاخرى، فسينتهي ما كان يعرف بـ”ألديمقراطية التوافقية او المكوناتية”، والتي ثمن فوائدها انسدادات عديدة. فيحق لاية اغلبية قادمة ان تأخذ زمام البلاد، وعلى الاخرين ان يتكيفوا، دون شكوى وتذمر. وان رفضت المكونات الاخرى هذا المنهج، واقتنع “التيار” و”الاطار” بمنزلقات الامر، واحتُرم قرار القوى الاساسية للمكونات، فستتم المحافظة على الطوق الامني والسلمي الذي احتاجته وتحتاجه البلاد في ظروفنا.

5- وجود قادة “تشرينيين” تحت سقف البرلمان هو امر ايجابي يشير ان “ديمقراطيتنا” قادرة على الاحتواء المتبادل. فاحتوت المؤسسة المحتجين، وتكيف الاخيرون مع المؤسسة، بل سعوا لاحتلال موقع رئاسي، بالتنافس على منصب النائب الاول.

6- حقائق الاوضاع الامنية الرسمية وغير الرسمية ليست بناءات طارئة او سطحية. فهي تحتاج الى وقفة مسؤولة وحذرة. واية معالجات متسرعة وغير متكاملة ستدخل البلاد في حالة تصادم بـ”ديمقراطية” او بدون “ديمقراطية”. فعندما ارادت “الادارة المدنية” الحاكمة للدولة يومها التعامل مع قوى مسلحة كانت خارج الدولة، نظمت رؤى سمحت بتقنين الحالة، لمن رضي بذلك. فتم تقنين “البيشمركة” بمفهوم “حرس الاقليم”، ونظمت عملية الدمج لقوى كـ”بدر” وغيرها، وكذلك الامر مع “الصحوات”.

وعندما افرزت الحرب ضد “داعش” قيام “الحشد” تم تقنين الحالة. واصبحت قوى كثيرة كانت حاملة للسلاح جزءاً من القوات المسلحة، بما فيها “سرايا السلام”، كوريث لم يقنن سابقاً لـ”جيش المهدي”. فحقائق الامن ليست قضايا جدلية يمكن التلاعب بها. والا سترتد على الوضع وتفرض نفسها بشكل او اخر، كما برهنت التجارب. فـ”داعش” ما زال يقتل ويخطف في كل يوم. والاولوية دعم قوى المواجهة وليس العكس. كذلك الاولوية إزالة اي غموض لانسحاب “القوات القتالية” للتحالف، والتي قطعت شوطاً مهماً وايجابياً، ولابد ان ترتبط باجراءات طرحها “التيار” و”الاطار” وغالبية القوى. كالدخول والخروج، والتدريبات المطلوبة، والسيادة على الاجواء والقواعد، الخ. بخلافه سيطعن الغموض موضوعة سيطرة الدولة وسيادتها. ولابد ان تعرف الدولة نقاط ضعفها كما قوتها، لتحدد اولوياتها. فلا تستطيع ان تكون انتقائية، وتدخل في صراع مع قوى محسوبة على مكون دون مكونات. والا ستضيف لعوامل الضعف ضعفاً متزايداً. فتعجز عن انهاء خروقات الامر الواقع الداخلية الموجودة في ساحات كل المكونات. او الخارجية كتواجد قوات وقواعد اجنبية وعمليات قتالية لدول اجنبية، او قوات معارضة تركية او ايرانية او سورية. هذه الامور جميعها ان لم تعالج بشكل صحيح ومتدرج وبنصاباتها، فسيصعب الكلام عن السيادة وسيطرة الدولة وضبط السلاح. فاذا اصر البعض على قلب المعادلات والمسارات والاولويات، فلن يُسقط “الديمقراطية” فقط، بل سيُسقط “الدولة” نفسها. وهذا امر يتجاوز موضوعة الجلسة الاولى.

عادل عبد المهدي

Related Posts