من أجل أدب الأقلية.. دراسة الفرنسييْن دولوز وغواتري لأعمال الروائي التشيكي كافكا

ما فتئ الفلاسفة يقدمون مقاربات استثنائية، وقراءات مغايرة للأدب، مثلت فتوحات نقدية تخرج بالعملية النقدية من جانبها الواصف إلى جانبها المفكر كممارسة للتأمل والتفلسف.

وكان جيل دولوز واحدا من أولئك الفلاسفة الذي كلما اقتحم فنا ارتقى بخطابه إلى شرفة مدهشة، فعلها مع السينما ومع الأدب، كما تمثل رحلته مع صديقه ومواطنه الفيلسوف الفرنسي فيليكس غواتري مثالا على تظافر الجهود من أجل منتج ثقافي ذكي راق.

وحول ما يسمى أدب الأقلية، يعتبر “كافكا من أجل أدب أقلي” واحدا من الكتب الدالة على كل ما سبق، التي تدخل اللغة العربية هذا العام على يد المترجم حسين عجة عبر دار سطور العراقية المنشغل منذ مدة بتقديم كتب وتجارب عرفت بالمعقدة كتجربة الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي النقدية وغيره.

المحتوى والتعبير
ينطلق الكاتبان بالتساؤل عن سبل الولوج إلى عالم الروائي التشيكي كافكا فهو “أرمولة” (ساق أرضية شبيهة بالجذر) وجحر “فنصه مخادع ومتشعب يتصيد قارئه السطحي ليجره إلى الداخل، كما تفترس بهيمة ضحيتها، دون أن يهتدي إلى المعنى”.

يكتب دولوز وغواتري في مفتتح الكتاب “تتمتع رواية القصر (لكافكا) بمداخل عديدة لا يعرف المرء بدقة قوانين استخدامها وتوزيعها. أما فندق رواية “أميركا” فله أبواب لا تعد ولا تحصى، منها ما هو رئيسي وآخر فرعي، كما يقوم على حمايته، بالحراس بما يعادل أبوابه تلك، بل هناك أيضا مداخل ومخارج بلا أبواب حتى. ومع ذلك، يبدو الجحر، في القصة التي تحمل هذا الاسم ليس له سوى مدخل واحد، وكل ما تحلم به البهيمة التي تعيش فيه هو مدخل ثان لا تكون له أية وظيفة أخرى غير المراقبة. بيد أن ذلك ليس سوى مصيدة تنصبها البهيمة، وكافكا أيضا”.

هكذا يضعنا الكاتبان منذ البداية في مزالق قراءة كافكا وصعوبته التي لا تظهر للقارئ العجول. ويختاران الولوج لأعمال كافكا من الصورة والصوت، فأعمال كافكا مليئة بالصور الفوتوغرافية التي تؤثث الأمكنة وصورة الكائنات ذات الرؤوس المنحنية والأعمال الأدبية مليئة بالأصوات والهمهمات والغمغمات والصرخات والأنغام الخاصة، والدالة التي تتقاطع مع تلك الصورة واللوحات.

يتوسعان في تحليل الصور والرأس المنحني والأصوات. يكتبان “ما يهتم به كافكا هو المادة الصوتية المحضة القوية، المرتبطة دائما بإمكانية انحلالها الخاص، صوت موسيقى فقد حدوده، صرخة تفلت من المغزى، من التركيب، من النشيد، من الكلام، صوتية تتقاطع لكي تنزع نفسها من سلسلة مازالت ذات دلالة كبيرة”.

ورغم ذلك، يتنصل الكاتبان في مقاربتهما لكافكا وأعماله من كل هدف تأويلي، فهما لا يبحثان عما يشكل “ما يسمى بمخيال كافكا، حيويته أو كتاب حيواته.. ولا عما يسمى الترابطات الحرة ولا عن التأويل”.

الأدب الأقلي
يمثل الفصل المعنون بأدب الأقلية القسم الأهم، والذي صار الأكثر شهرة عند النقاد، لأن الكتاب قدم مفهوما للأدب الأقلي، وحاول تقديم تشخيص للكتابة في هذا النوع من الأدب، كما ضبط خصوصيات هذه الكتابة وحدودها.

فخلافا لما يعتقد، ليس الأدب الأقلي ذلك الذي يكتب بلغة أقلية ما في ظل أدب لغة مهيمنة بل “الأدب الذي تصنعه أقلية ضمن اللغة الرئيسية”. ويتحدث الكتاب عن لغة اليهود بمدينة براغ والتي تطرح إشكالية كبرى متعلقة بعبور الحدود، ويربطها الكاتبان بالاستحالة باعتبارها خصوصية هذه الكتابة عند هذه الأقلية التي ينتمي إليها كافكا. يصف دولوز وغواتري “استحالة عدم الكتابة، استحالة الكتابة بالألمانية، واستحالة الكتابة بطريقة أخرى. استحالة عدم الكتابة، لأن الوعي القومي المشكوك فيه مقموع، يمر بالضرورة عبر الأدب”.

ويصف الكاتبان لغة براغ بالمهدومة الحدود والجاهزة لاستخدامات غريبة، وقد فعل اليهود بالألمانية ما فعله السود الأميركيون حيال الإنجليزية الأميركية.

أما الخاصية الثانية للآداب الأقلية -كما حددها الكاتبان- فهي سياسيتها “فكل ما فيها سياسي: خلافا للآداب الكبيرة التي تميل إلى أن تكون شأنا فرديا، عائلتي، زواجي.. إلخ، والتي تستخدم الوسط الاجتماعي كمحيط وخلفية، على كل أدب الأقلية” ويعمل مجاله الضيق على جعل كل شأن فردي يتصل مباشرة بالسياسة، يصبح الشأن الفردي أكثر ضرورة، كما يكتسب مكانة لا يمكن عدم أخذها بالاعتبار”.

فكافكا -حسب الكاتبين- عندما يتناول مواضيع تبدو عادية في الآداب الكبيرة تكتسب خصوصية إذا نظرنا إليها من زاوية أنه كاتب أقلي يكتب بلغة مهيمنة، فحينما يشير كافكا إلى أحد أهداف أدب الأقلية باعتباره “التخلص من التعارض ما بين الآباء والأبناء وإمكانية النقاش بينهما” لا يطرح بهذا فانتازم أوديبي “وإنما (يطرح) برنامجا سياسيا”.

إنما يتقنع الكاتب الأقلي بالمشكل الفردي ليكتب هما أكبر متعلقا بالأقلية التي ينتمي إليها، لذلك لا يمكنه أن يتخلص أدبه من الطابع السياسي حتى وإن لم يظهر علنا لأن الكاتب -كما يقول الفيلسوفان- يحفر سردابا في الآداب الكبرى عبر لغتها ليمر بوضح النهار.

القيمة الجمعية
أما الخاصية الثالثة التي يلح عليها الكتاب للأدب الأقلي فهي “اكتساب كل شيء قيمة جمعية.” ويقول إن أدب الأقلية لا ينطوي بالدقة على مواهب كثيرة، وشروطه ليست معطاة مع الإعلان الفرداني.. وتكون ندرة هذه المواهب شيئا نافعا في الواقع. وتسمح بتصور شيء آخر غير أدب المعلمين: ما يقوله الكاتب وحده يشكل بدء فعل جمعي مع ما يقوله أو يفعله سياسي بالضرورة “حتى وإن لم يحظ بموافقة الآخرين”.

ويعتبر دولوز وغواتري أن الكاتب الأقلي البعيد عن جماعته، يتمسك أكثر بهذا الدور السياسي، لذلك يعلو صوت السياسي في النص الأقلي للكاتب الذي يعيش في المنفى، مثلا، أكثر من الذي يعيش مع جماعته.

سياسي وتجريبي
ويؤكد الكاتبان أن أهم خاصية من خصائص أدب الأقلية “حدود اللغة وإيصال الفردي بالسياسي المباشر والتنظيم الجمعي للتعبير”.

وبرؤيتهما، ليس هناك من عظيم، ومن ثوري، غير الأقلي، لذلك انجذب كافكا إلى لغة الخدم وكذلك فعل الروائيان الفرنسيان بروست وسيلين، فذهاب كافكا إلى لغة الخادمات، كما يرد في الجزء الأخير من الكتاب لأن “لغة الخادمات لا دلالة لها، ولا موسيقى، إنها الصوت الناجم عن الصمت، الذي يبحث عنه كافكا في كل مكان، وحيث يكون التعبير، من البدء، جزءا من الوحدة النظامية الجمعية، من الشكوى الجماعية، الخالية من الذات المعبرة، التي تتخفى أو تتشوه”.

وينسحب ذلك على اتكائه على لغة تأخذه إلى منطقة إدارة الشخصية في عالم الشيزوفرينيا والبارانويا، وهي العوالم التي تضمن اجتراح خط الهروب بتهشيم الحدود والقوانين المضروبة على اللغة.

وينسحب ذلك على الموسيقى التي تكسر، مثلها مثل الأدب، حدود اللغة وتذهب بها نحو خط إفلات جديد يجعلها تتخلص من السياج القومي وإكراهاته المضروب عليها منذ نشأتها. ومن ثمة فالأدب الأقلي قوته في أنه أدب تجريبي دائما، لأنه حفر ونبش في الأرض كما تنبش الكلاب مراقدها والفئران جحورها.

يعتبر دولوز وغواتري أننا نعيش في غربة لغوية ويتساءلان: ما هو عدد الناس اليوم الذين يعيشون مع لغة ليست لغتهم؟ أو حتى ما عادوا يعرفون ما هي لغتهم، أو ليس بعد، ولا يجيدون اللغة العامة التي هم مرغمون على استخدامها؟ ويشير الكاتبان إلى المهاجرين وأطفالهم والأقليات.

فالمشكلة -حسب المؤلفين- غير متعلقة بالأدب الأقلي فقط ولكنها مشكلتنا جميعا “كيف يمكن نزع أدب أقلي من لغة المرء الخاصة؟ أدب في مقدوره حفر اللغة وجعلها تنسل بخيط ثوري؟ كيف يمكنه التحول إلى رحال ومهاجر وغجري ضمن لغته الخاصة”.

يتنقل الكاتبان عبر 9 فصول هي: المحتوى والتعبير، سمنة أوديب المفرطة، ما هو أدب الأقلية؟ مكونات التعبير، الرغبة، تكاثر السلاسل، الروابط، كتل، سلاسل، قوى، ما هي الوحدة النظامية. ويبحثان في أعمال كافكا من رسائله التي لم يفكر في نشرها، واليوميات والروايات الناقصة من المحاكمة إلى القصر، وإلى مستعمرات العقاب، إلى المسخ. ليثبتا ما نظرا له في قسم الأدب الأقلي والأقسام الأولى التي بسطا فيها القول في التعبير وأشكاله.

ويبقى هذا الكتاب -الذي يحتفي بسياسة كافكا وإدارته لنصوصه الأقلية داخل اللغة المهيمنة- عمدةً في تفكيك ذهنية التخييل عند كافكا والكاتب الأقلي بشكل عام. ويحتاج إلى مقدمة في ترجمته العربية تحاول تقريب هذا الكتاب الأكاديمي الفلسفي من القارئ عبر أرضنته في اللغة الجديدة التي ينزل بها.

فقد ظهرت الطبعة بالكثير من المصطلحات الفرنسية المجاورة لاقتراحات المترجم لصعوبة الكتاب، وهو ما يحتاج إلى مزيد من هوامش وضبط مسرد للمصطلحات الدولوزية المركبة جدا، والتي دونها لا يمكن للقارئ أن ينجح في كسر حدود النص ودخوله.

Related Posts