جنّد الأديب والإعلامي العُماني سليمان المعمري نفسه لمتابعة ما يحدث من انتحالات وسرقات أدبية في الصحف العمانية، ابتداءً من العام 2017، حين أطلق من فيسبوك وتويتر حملة لكشف الانتحالات وفضحها وإعادة المقالات لأصحابها.
ورغم مشاغله الوظيفية كرئيس لقسم البرامج الثقافية في إذاعة سلطنة عمان ومقدم لبرنامج أسبوعي، فإن المعمري يسعى للحد من ظاهرة الانتحالات وتنقية الصحافة العمانية من الدخلاء، لكنه في المقابل يدفع ثمنًا لما يسميه “ضريبة الانتصار للحقيقة”.
عام 2006، وبينما المعمري يستعد لمحاورة الفائز بالمركز الأول في مسابقة القصة التي نظمها المنتدى الأدبي في مسقط ذلك العام، اكتشف وهو يقرأ القصة الفائزة أنه سبق أن قرأها من قبل لكاتبها (الأصلي) القاص العُماني عبد العزيز الفارسي.
“كشفتُ ذلك في برنامجي الإذاعي على الهواء” يقول سليمان المعمري للجزيرة نت، متذكرًا بداياته مع كشف الانتحالات. ويضيف “كشفي لهذا الانتحال أدى إلى سحب الجائزة من المنتحِل، ومنعه من المشاركة في المسابقة بعد ذلك، حدث ذلك الكشف بالصدفة طبعا، وتبعتْه صدف أخرى فيما تلا من سنوات. لكنه أدى إلى سحب الجائزة من المُنتحِل”.
غير أن الكشف المنتَظِم للانتحالات بقرار واعٍ وتصميم أكيد كان عام 2017، عندما انطلقت الحملة في فيسبوك وتويتر.
وبحسب المعمري “جاءت الحملة بعد أن استشرَتْ ظاهرة الانتحالات في صحفنا العربية بشكل مخيف، بدون رادع، وكأن كل همها ملء المساحة المخصصة للمقالات أكثر من جودة هذه الكتابات أو التأكد إن كانت بأقلام كتابها أم مسروقة”.
إستراتيجية “لا تنتظر المُنتَحِل”
منتصف 2017 قرر المعمري اتباع إستراتيجية “اذهب للمنتحِل ولا تنتظر قدومه” يقول: في ثقافتنا العربية لا أحد ينتبه للمنتحِل للأسف أو يسعى لفضحه إلا إن تضرر هو نفسه بشكل شخصي.
ولذلك نشاهد نفس السيناريو تقريبا: الكاتب المسروق يكتب مقالا يصرخ فيه ويشتكي من الكاتب السارق. ونادرًا ما نرى شخصًا محايدًا يكشف سرقة لا علاقة شخصية له بها.
وسبب ذلك -كما يرى المعمري- خشية الكاتب الأصلي من الصداع الذي قد يجلبه هذا الأمر له، خصوصًا في مجتمع لا يكترث كثيرًا بحقوق الملكية الفكرية، وفي ظل عدم وجود قوانين رادعة للمنتحِلين، وإن وُجِدت فإنها نادرًا ما تطبق.
وأردف المعمري: الكاتب المسروق نفسه، وللأسباب التي ذكرتها آنفًا، يضطر للسكوت عن حقه رغم كشفه للسرقة “لذلك قررتُ الذهاب إلى هؤلاء المنتحِلين بنفسي وكشفهم وفضح سرقاتهم في اليوم نفسه الذي ينشرون فيه مقالاتهم”.
121 انتحالًا
منذ 2017 وحتى اليوم، كشف المعمري في صفحتَيه على فيسبوك وتويتر 121 انتحالا توزعت بين مقالات صحفية مسروقة في الغالب الأعم، وكتب منتحِلة لكتب أخرى أحيانا، ونصوص شعرية أو قصصية في أحيان أخرى، وانتحالات من يُسمَّون “مدربي التنمية البشرية” العرب الذين ينتحِلون كتبًا عالمية في المجال ذاته وينسبونها لأنفسهم.
بل إن المعمري يقول إنه كشف أيضًا بعض الانتحالات في الفن التشكيلي والتصوير الضوئي، مما جعله يعاني من عداوات وخصومات. وهنا يعترف: اكتسبت الكثير من الخصومات والعداوات، ليس من المنتحِلين فقط، بل من أصدقائهم ومحبيهم، ومن الصحف ورؤساء تحريرها.
ويكشف في السياق نفسه عن تهديدات تعرّض لها جرّاء كشفه لسارقي المقالات والنصوص. يقول “أحد رؤساء التحرير اتصل بي هاتفيا ليهددني ويتوعدني طالبًا مني استثناء جريدته من كشف الانتحالات فيها، ورئيس تحرير آخر رفع عليَّ قضية في المحكمة”.
أما المنتحِلون أنفسهم -يقول كاشف السرقات الأدبية- فكان التعامل منهم مع كشفي لانتحالاتهم على 3 مستويات: الدفاع عن أنفسهم بالهجوم الشخصي علي عادةً واتهامي بأني أنفذ مؤامرة لتشويه سمعتهم، الاكتفاء بالتهديد المباشر أحيانا وغير المباشر أحيانا أخرى باللجوء للقانون، دون تنفيذ هذا التهديد. الثالث: رفع دعاوى قضائية عليّ بالفعل بتهم التشهير أو الازدراء وغيرها من التهم.
يفيد المعمري أنه رُفِعت عليه حتى الآن 3 قضايا كلها قرر الادعاء العام في مسقط حفظها “لعدم قيام الجرم” كما كتب في عريضة الرفض، وعندما استأنف اثنان من هؤلاء الثلاثة ضد قرار الادعاء رفضت محكمة مسقط استئنافهما للسبب نفسه (أي عدم قيام الجرم).
ضريبة الحقيقة
وفي حين أكد مضيّه في كشف الانتحالات وإعادة النصوص والمقالات إلى كتابها الأصليين، يواجه المعمري أسئلة الناس والأصدقاء من حوله “ما الذي يصبِّرك على تحمّل هذه المضايقات التي أنت في غنى عنها؟” ليأتي جوابه بأن هذه ضريبة الحقيقة التي لا بد أن يدفعها من أراد لها التنفس في النور.
ويقول المعمري إنه يؤمن بالحكمة الصينية “إن الصخرة تظل صامدة في وجه الفأس حتى 100 ضربة، بيد أنه لا يمكننا اعتبار الضربة المئة هي التي فلقت الصخرة وإنما مجموع هذه الضربات مجتمعة”.
“وبالفعل بدأتُ أشعر أخيرًا بنتيجة 3 سنوات ونصف السنة من العمل المضني” يؤكد المعمري، مبينًا أن الانتحالات في الصحف العُمانية بدأتْ تقل خلال السنة الأخيرة (2020) مقارنة مع 2017 و2018.
تفاعل الإعلام
من ناحية أخرى، أثنى المعمري على اهتمام الإعلام العُماني بصحفه وقنواته العامة والخاصة بـ “ظاهرة الانتحالات” تفاعلًا مع حملته، إذ تم تناولها في تحقيقات صحفية وبرامج إذاعية وتلفزيونية كان هو ضيفًا في بعضها.
كما أنه بسبب الضوء الذي سُلِّط على منتحِلين أكاديميين (دكاترة وحملة ماجستير) والإحراج الذي تعرضت له جامعاتهم، فقد قررت بعض هذه الجامعات في السلطنة إخضاع دارسي الماجستير والدكتوراه لديها لجهاز كشف الانتحال (Turnitin) بعد عام ونصف العام تقريبا من بدء المعمري حملته ضد الانتحالات.
وهناك ثمة صحف، شملتها حملة المعمري، لم تعد تتسامح كالسابق مع كتابها المنتحِلين فـ “صارت تطردهم ولكن بدون إعلان عن ذلك أو اعتذار”. وهنا يقول المعمري “هذه هي النقطة التي لطالما كنتُ أنتقدها السنوات الماضية، أي عدم اكتراث الصحف المنتحِلة بالقراء أو اعتذارها لهم عما يحدث فيها من انتحالات”.
لكن حتى هذه النقطة يبدو أنه حدث فيها ما يشبه الاختراق قبل 3 أشهر، وفقًا للمعمري الذي يقول مدللا: عندما اعتذرت صحيفة عُمان في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2020 عن انتحال جرى فيها بعدد اليوم السابق.
يومٌ تاريخيّ
واللافت أن الصحيفة لم تكتفِ بالاعتذار، بل وجهتْ للمعمري أيضًا شكرًا على ما سمته “محاولاته الدؤوبة لتكريس القيم المهنية وحفظ حقوق الملكية الفكرية” الأمر الذي أشعره بسعادة كبيرة “من شدة سعادتي بهذا الأمر وصفتُ ذلك اليوم في تغريدة لي على تويتر باليوم التاريخي”.
وبزهو، يلفت المعمري الانتباه إلى أن الوضع اليوم ليس نفسه قبل 3 أو 4 سنوات، في عُمان على الأقل، فـ “ثقافة كشف السرقات الأدبية قد بدأت تزدهر بعد أن حلت محلها لسنواتٍ طويلة ثقافةُ التستّر واللا اكتراث”.
ولا يخفي المعمري القول إن نسبة غير قليلة من الانتحالات التي كشفها الفترة الأخيرة كان قد اكتشفها آخرون وأرسلوها له على البريد الخاص، مفضِّلين أن يبقوا في الظل.
أما في زمن كورونا، ورغم الإغلاق والحجر المنزلي الذي فرضته السلطات في مسقط تحت وطأة جائحة كوفيد-19، فإن المعمري لم يتوقف عن حملته، بل على العكس، وجد وقتَ فراغ أطول لم يكن يحلم به من قبل، كما يقول.
هذا الفراغ والعزل “مكنني من إنجاز أعمال كثيرة في اليوم الواحد أحيانًا، وهي أعمال لم يكن وقتي القصير السابق ليسمح بها، بسبب الانهماك في العمل من جهة، وإمكانية إضاعة الوقت بالخروج من البيت من جهة أخرى” يقول للجزيرة نت.
وأردف: قرأت كتبًا جميلة ورقية وإلكترونية، مارست الرياضة على آلة المشي، راجعتُ مخطوطات كتب لي ولأصدقائي على أمل أن تكون جاهزة بعد أن يشفى العالم من الفيروس. شاهدتُ أفلامًا ومسلسلات عالمية في نتفليكس، وعربية في يوتيوب.
والأهم من هذا كله “وجدتُ وقتًا أطول للجلوس مع أمي وأبي وأسرتي، ووقتًا أطول للنوم، فبتّ أنام باستمتاع بدون خشية فوات وقت الدوام في الصباح التالي” يضيف المعمري.
عدّة الإعلامي
يجمع المعمري بين الأدب والإعلام، يقول “إن عدة الإعلامي الثقافي هي أن يقرأ” مؤكدًا أن القراءة جزء مهم من كينونتنا الإنسانية وأمر ضروري من أساسيات وجودنا في الحياة “مع أنه قد تختلف الأسباب المؤدية للقراءة، لكن لا أحد يختلف على أهميتها في حياتنا”.
ويفيد بأن آخر كتاب قرأه هو “رسائل إلى فدوى” للكاتب العُماني أحمد الراشدي، وهو عبارة عن رسائل وجدانية مؤثرة من المؤلف لطفلته الراحلة منذ عدة سنوات “إنه من نوعية الكتب التي تشعر أثناء قراءتها بمزيج من الحزن والمتعة”.
“الإعلامي أفاد الكاتب في داخلي والكاتب رفد الإعلامي أيضا” يقول المعمري إنه لا يوجد أي تعارض بين المجالين “لا أفضّل صفة الأديب على الإعلامي أو العكس، ولم أعتقد يومًا أن عليّ أن أُقصي أحدهما لإرضاء الآخر، ما داما متصالحين في داخلي”.
عام 2018، منعت رواية المعمري “الذي لا يحب جمال عبد الناصر” (صدرت عام 2013 وتسرد أحداث الشارع العماني عام 2011) من المشاركة في معرض مسقط الدولي للكتاب مع كتب لأدباء آخرين. وما زالت ممنوعة في معرض مسقط إلى اليوم.
لكن المعمري يكشف أمرًا بقوله “الطريف أن هذا المنع جاء متأخرًا 5 سنوات، بعد أن قُتِلت قراءةً من القراء العُمانيين، إن جاز التعبير” كما أنه اعتبر المنع بمثابة إحياء للرواية من جديد، طالما ونحن نعيش ازدهار التكنولوجيا: إمكانية الحفظ والأرشفة والتداول بصيغة “بي دي إف” (pdf).
وأردف “لا تتصور كمية الرسائل التي تصلني على بريدي الخاص تسأل عن كيفية شراء الرواية أو تطلب أحيانًا نسختها الـ pdf”.
وأضاف المعمري “هذا المنع غريب، لم تنجح المحاولات لفكّه أو لمعرفة أسبابه”.
أمر ظريف
ومما يزيد الأمر طرافةً أن النشر الأول لرواية “الذي لا يحب جمال عبد الناصر” كان عام 2013، وحازت عام 2014 على جائزة معرض مسقط للكتاب بصفتها “الكتاب الأكثر قراءة في المعرض!”.
“تخيّل، يمنحونها جائزة عام 2014 ويمنعونها من التداول عام 2018!” يضيف المعمري للجزيرة نت، مشيرا إلى أنه لا يدري ماذا جرى لكي يقرر الرقيب هذا القرار بأثر رجعي، قبل أن يختم بقوله “إنه لأمر ساخرٌ أن أشكره الآن على هذا المنع، فقد أتاح للرواية حياة جديدة من القراءة. فالممنوع مرغوب دائمًا”.