مصطفى فحص*
يقول الإمام علي بن أبي طالب “أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع، والباطل تقول سمعت والحق تقول رأيت”. فإن المسافة التي تفصل ما بين الأذن والعين، هي القياس الفقهي لأمير المؤمنين قبل أن يعطي رأيه الشرعي أو الأخلاقي أو الاجتماعي بمسألة تخص العباد أو البلاد، فكيف يمكن لزعيم ديني أن يحكم على ماضي وحاضر بلد أو منطقة أو مدينة تبعد مسافة 10.436 كيلومتر عن مسقط رأسه في النجف جنوب غرب العاصمة العراقية بغداد.
ففي واحدة من تغريداته المُحيّرة التي ليس من الضروري أن تكون مرتبطة بما سبقها من تغريدات وبما سيليها، حذر رجل الدين العراقي مقتدى الصدر حركة الاحتجاجات من إسقاط الأسس الشرعية والتعدي على الأنبياء والمُرسلين والمعصومين، حيث قال “ذكرني ذلك بشعارهم القديم بما معناه أنهم لا يريدون (قندهار) بل يريدون شيكاغو، ونحن اليوم ملزمون بعدم جعل العراق قندهار للتشدد الديني ولا شيكاغو للتحرر والانفلات الأخلاقي والشذوذ الجنسي للفُجر والسِفاح والمِثليين”.
عادة يُقال إن البعيد عن العين بعيد عن القلب؛ لكن من المفترض أنه ليس بعيدا عن المعرفة، ومن السهل على السيد الصدر ومعاونيه أن يكتشفوا ما في هذه المدينة الأميركية من مميزات ثقافية سياسية وعمرانية أثرَت طبائع المدن العمرانية بعد حريق شيكاغو الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتحولت إلى مُنطلق لحضارة العمارة العالمية التي ولدت مع المعماري لويس سوليفان، وقدمت إنجازات لعمارة ما بعد الحداثة التي ولدت أيضا في شيكاغو.
والجدير ذكره أن معرض “إكسبو شيكاغو” في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أسس إلى منطق العمارة الدولية،. فقد كان الفضل لشيكاغو في التأسيس لبناء معماري حضاري عامودي يحفظ هوية المدن الحضارية والإنسانية.
والأهم في تاريخ شيكاغو أن عاصمة الولاية إلينوي مهدت الطريق أمام أول رئيس أميركي من أصول أفريقية لرئاسة الولايات المتحدة. كما أن علماء جامعة شيكاغو حازوا على العديد من جوائز نوبل، وتعتبر من الولايات الأكثر ديناميكية في مجال العلم والبحث والأدب والفن التشكيلي وهي ثاني ولاية اقتصادية.
بالعودة إلى منطق الصدر، فإذا كانت قندهار استعارة من شعار المدنيين (بغداد ليست قندهار)، أما الثانية (شيكاغو) فتُثير الاستغراب الشديد بسبب جمعه الغريب بين شيكاغو (المنفلتة أخلاقيا) حسب رأيه، وقندهار (المتزمتة دينيا واجتماعيا)، والمهم هنا، ليس الوقوف عند الاستعارة وإن كانت هفوة أم لا، بل إن تفسير هذه الاستعارة فتح التساؤل عما يعرفه الصدر عن تاريخ شيكاغو عند كتابته لتغريدته الغريبة تلك، كما أنه من المعروف أن الصدر لم يسافر إلا القليل جدا إلى بلدان مجاورة للعراق ولمدة أيام (عدا قُم الإيرانية ولبنان).
من غير المستبعد أن يكون السيد مقتدى الصدر حَصَر وصفه لشيكاغو على الأفلام الخاصة بآل كابوني والمافيات، فقد تكون معرفته لا تتجاوز ما شِيع عنها في أفلام العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، فيكون هذا التصور قد شكّل عنده صورة عن شيكاغو تتراوح بين الانحلال الأخلاقي والفلتان الأمني، وبالتالي بقيت تديرها ميليشيات “وقحة” كتلك التي تنافس الصدر على السلطة في العراق.
عمليا نجحت شيكاغو بأن تصبح أحد الولايات المؤثرة في صنع القرار الأميركي، وأصبحت واحدة من أهم المدارس الثقافية والعلمية والمعمارية في العالم، ولكنها لا تُقارن بالإرث الحضاري الذي تملكه مدينة النجف ومعها الكوفة عاصمة خليفة المسلمين الرابع، بالرغم من تعرضهما إلى الإهمال المدروس من قبل النظام البعثي، لكن هذا الإهمال تضاعف بعد سقوطه.
لم تقدم أحزاب الإسلام السياسي الشيعي منذ 16 سنة ما يليق بمكانة ودور النجف العلمي والثقافي والاقتصادي ـ وهي التي أصبحت بعد 2003 أحد مراكز ترشيد القرار الوطني العراقي بسبب دور المرجعية الدينية وتعتبر “فاتيكان الشيعة” وعاصمتهم الروحية. وهي تتعرض لإهمال وتهميش على جميع المستويات، وخصوصا في مرافقها العامة.
وينقل أحد العارفين في كواليسها أن المرجعية تتعرض للإحراج الشديد عندما يحضر إلى المدينة زوارا كبارا، حيث لا يوجد مكان مناسب يذهبون إليه بعد خروجهم من بيوت المراجع، وقد تعرضت المدينة لواحدة من أكبر عمليات الفساد عندما اختيرت عاصمة للثقافة الإسلامية سنة 2012 حيث رصدت الحكومة العراقية مبلغ نصف مليار دولار لبناء مرافق تليق بهذه الاحتفالية، لكن بعد اختلاس أكثر من 300 مليون دولار اعتذرت الدولة العراقية عن المناسبة لعدم بنائها لأي مرفق ثقافي أو سياحي مناسب.
والجدير هنا التذكير بما كتبه الباحث والكاتب النجفي الدكتور حيدر سعيد عن أزمة اختيار المدينة كعاصمة ثقافية في مقال مفصل تحت عنوان “النجف… قصة فشل مستمر“، بأن هذا الفشل لا يُختصر على مسقط رأس الصدر بل على كافة العراق الذي تحكمه هذه الطبقة السياسية المُسلحة.
وعليه فإن تراجع حضور مقتدى الصدر في الساحات لم يحوّله إلى خصم سياسي لها فقط، بل إلى رقيب أخلاقي على العراقيين ـ مصطفى فحص، يدافع عن المذهب، بعد أن كان يتكلم بالهوية العراقية الجامعة، ويوقع تغريداته بصفة “الممهد”.
*كاتب لبناني والمقال عن “الحرة”