د. حيدر سعيد*
هل تنطلق ثورة تشرين الراهنة في العراق من عقدة تاريخية ما؟ إلى جانب التفسير الوجيه إن هذه الثورة هي تعبير عن توق أبناء الجيل الذي يقودها إلى نوعٍ من “تحقيق الذات”، بأن يترك بصمتَه على تاريخ بلاده، فيكون صانعًا، ليس للحدث فقط، بل أيضا لمفصلٍ شديد الأهمية في هذا التاريخ، إلى جانب هذا التفسير، ذي الطابع النفسي، تذهب تفسيراتٌ كثيرة إلى أن هذه الثورة يحرّكها نوع من “العقد الجماعية”، ليس أقلها مسؤولية الشعب عن صعود هذه الطبقة السياسية الفاسدة، وليس أقلها إعادة اكتشاف الهوية الوطنية، وقد استغرَقَنَا خطابٌ طائفي، يحتقر الوطنيةَ العراقية، ويعدّها تراثًا لا قيمة له. وتكون الثورةُ، من ثم، تسويةً تعالج هذه العقدَ وأمثالها.
لقد تحوّلت الثورة إلى مَطْهَر استثنائي عظيم، وستواجه، في مسارها، حزمةً من العقد الجماعية، على هذه الشاكلة. وبالتأكيد، لم تنطلق الثورةُ بسبب هذه العقد، بل ثمّة عوامل موضوعية محدّدة، أطلقت حركة الاحتجاجات في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2019، في صدارتها الاعتراضُ الجماعي على فشل الدولة في الوفاء بمهماتها تجاه الجمهور. وتحت هذه العوامل وعوامل أخرى كثيرة، تطور هذا الاعتراض إلى إيمانٍ عام بأن هذا النظام غير قابل للإصلاح، ومن ثم، ينبغي تغييره، وأن يكون هذا هدفَ الحراك الجماهيري العام. ومع ذلك، بدأت الثورةُ، في مسارها الثرّ، تجوب وتصل إلى مساحات حسّاسة ومعقدة، لتواجهها بجرأة شديدة، أبعد وأوسع من العوامل الموضوعية التي أطلقتها، ومن رؤية تغيير النظام.
بل يمكن القول إن الحركة الاحتجاجية التي انطلقت مطلع أكتوبر/ تشرين الأول لم تصبح ثورة، إلا بسبب تحولاتٍ عظيمة من هذا النوع: تحولات خرجت بالاحتجاجات من طابعها المطلبي،
” تحولات خرجت بالاحتجاجات من طابعها المطلبي إلى طابع سياسي فكري ثقافي”
ووصلت إلى عقد، سياسية وفكرية وثقافية، ليقف أمامها وجهًا لوجه، لا المحتجون وحدهم، بل شعب بأكمله، بسائر أجياله وتنوعاته، قاده هذا الجيل الشاب إلى هذه المواجهات.
في واحد من آلاف الهتافات التي حفلت بها الثورة، كان أحد الشباب يصرخ: “لا تقولوا عنا جبناء بعد الآن. ها نحن ننتفض”. وواضحٌ أن “الجبن” المقصود هنا سياسي، جبنٌ عن الفعل السياسي، عن الاحتجاج على النظام. غير أن واقع الحال أن الاحتجاجات في العراق لم تنقطع، منذ 2009 في أقل التقديرات، فهي تتواصل بانتظام، وتتراكم، وتتطوّر، وقد كان لها، في السنوات العشر الماضية، ذرى عدة.
وفي تقدير الكاتب، أن ما يتراكم في لاوعي هذا الشاب، ولاوعينا بوصفنا شعبًا، ليس الجبن أمام النظام القائم. ومئاتُ الشهداء الذين واجهوا قمع قوى الأمن والمليشيات هم الدليل الأكثر نصاعة على البسالة النادرة لهذا الجيل ولهؤلاء الشباب.
العقدة التي لا يستطيع العراقيون والعراقيات مغادرتها هي عقدة إبريل/ نيسان 2003، تلك اللحظة التي “توثّق عجزَ الإرادة العراقية”، كما كتبتُ يومًا، فالاستبداد لم يسقط بأيدينا، بل على يد قوةٍ عسكريةٍ أجنبية. وبعدها بثماني سنوات، تساقطت أنظمة الاستبداد المزمنة، في غير دولة عربية، بيد شعوبها، ليُقصى العراق من نادي الثورات العربية، ويخرج ضحاياه ومستبدّوه من دائرة الضوء، وكأنه لم ينتفض، مرات ومرات، على الاستبداد، ولم يدفع، حاله حال الشعوب العربية أو يزيد، مئات الآلاف من الضحايا في هذا السبيل.
كانت لحظة 2003 مركّبة ومعقدة: أن يسقط نظام استبداد وطني على يد قوة احتلال عسكرية أجنبية. ولم يستطع العقلُ العربي التعامل مع هذا التركيب، فكان ينظر إلى أحد طرفي القضية دون الآخر، فيتعامل معها على أنها مجرّد احتلال أجنبي، من دون أن يضع في اعتباره أن اللحظة نفسها، وبالعامل نفسه، شهدت سقوط نظام استبدادي، دمّر البلاد، وخلّف مئات آلاف من الضحايا، واللحظةُ نفسها شهدت إطلاقَ مسار انتقالي، حتى وإن تعثّر، فإنه لم يتعثّر بسبب العامل الأجنبي، بالضرورة، بل بسبب عوامل هي نفسها التي أفشلت تجارب انتقالٍ من دون احتلال، كتحويل مسار الانتقال السياسي إلى صراعٍ فئوي، وعدم القدرة على بناء التوافقات، وما إلى ذلك من عوامل (وهي من العوامل الأساسية التي أفشلت تجربة الانتقال في مصر ما بعد ثورة يناير 2011، على سبيل المثال)، أو يتعامل مع القضية بوصفها مجرّد سقوطٍ لهذا النظام الاستبدادي، من دون أن يضع في اعتباره أن ثمّة قوة عسكرية أجنبية باتت تطوف شوارع البلاد، وهي التي ترسم النظام السياسي، على وفق مصالحها ومقاييسها (كما النظر إلى العراق تجميعا لهويات إثنية وطائفية متصارعة، أو العمل على تحجيم الجيش لاعتبارات إقليمية، وما إلى ذلك).
وهكذا، يعالج الانتفاضُ، بوصفه خروجًا من حالة الجبن (بحسب ما كان يهتف ذلك الشاب)، هذا التركيبَ، فسقوطُ النظام سيكون، هذه المرةَ، بأيدينا. وحين كتبت كلمة “النظام” هذه أردت أن أضيف صفتين، “الحالي” و”السابق”، فإذا كنّا لا نستطيع إعادة التاريخ وتركيبه، فإننا نستطيع إعادة تركيب مخرجاته، ليُنجَز المسارُ السياسي في البلاد، من ثم، بأيدينا. وبما أن النظام الذي تسعى الثورةُ الآن إلى إسقاطه هو نتاج إبريل/ نيسان 2003، سيكون إسقاطه تحريرًا لإسقاط النظام السابق، من اليد الأجنبية، لتكون اليد العراقية هي من تصنع النظام الجديد. إنه نوع من التأميم للحظة إبريل/ نيسان 2003: تأميم لإسقاط النظام حينئذ. والتأميم، هنا، مقصود بمعناه اللغوي المحض: إعادة إسقاط النظام إلى الأمة.
أدرك أن عراق ما بعد 2003 لم يسر وفق المخطط الأميركي، بل هو نتاج تفاعل (بكل ما تعنيه كلمة “تفاعل”، من تفاهماتٍ، واتفاقاتٍ، وتنازلاتٍ، وصداماتٍ حتى) بين الرؤى الأميركية ورؤى الفاعلين المحليين. وفي أحيان كثيرة، كانت إرادة الفاعلين المحليين أكثر مضاءً من إرادة الأميركان، بل رغمًا عنهم. غير أنه ينبغي القول، هنا، إن جزءًا كبيرًا مما كان يريده هؤلاء الفاعلون العراقيون لم يكن يتضمّن محاولة لإعادة صياغة علاقة الشعب العراقي بالنظام الناشئ، بل كان يستهدف إبعاد المؤثر الأجنبي، وتحجيمه، وتحييده في الصراعات الفئوية الداخلية التي يخوضها، وفي توجهات العراق وعلاقاته الإقليمية. كان رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، يتغنى بأن الاتفاقية الأمنية التي وقّعها مع الولايات المتحدة أواخر 2008، وقضت بانسحاب قواتها من العراق أواخر 2011، كانت انتصارا للإرادة العراقية. نعم، انسحاب جيش أجنبي من البلاد انتصار، بكل تأكيد، ولكن بديله كان نظامًا طائفيًا، بُني بوعي، ليكون قاعدة الحكم، وكان بديلُه كراهيةً مجتمعيةً غير مسبوقة، أريد منها تعبئة الجمهور في هذا النظام، وكان بديلُه علاقاتٍ زبائنية، تستغل حاجةَ الناس لتشبكهم وتقيّدهم في هذا النظام، وكان بديله إلحاقًا للبلاد بمحور إقليمي، ذليلة صاغرة، اقتيد شبابها وأُلقي بهم في أتون محرقةٍ تدافع عن آخر نظم الاستبداد الوحشية في المنطقة.
أما ما تنجزه ثورة تشرين فيقع في حقلٍ آخر تمامًا: أن عراق المستقبل سيكون ختمه عراقيًا، وطنيًا، داخليًا محضًا، لا يدع مجالًا لشبهة الخارج. وما تقوم به هذه الثورة، من ثم، أوسع وأهم بكثير من مجرد إصلاح للنظام السياسي، أو إعادة صياغته ليكون نظامًا أكثر عدالة.
إنها تحرير لإرادة العراقيين من سلبيتها، وقد تَخَلَّق تاريخُهم، في معظمه، سيما لحظة 2003 المهمة والمعقدة، بأيادي غيرهم، ما كرّس فيهم، أو كاد، أنهم مجرد مسرح للحدث، لا صانعين له.
وإنها اللحظة التي لا يغدو معها السؤال الفئوي (نحن أم هم) إلا سؤالًا صغيرًا، صغيرًا جدًا.
كاتب وباحث عراقي والمقال عن موقع “العربي الجديد”.