رستم محمود*
في الحلقة الأولى تحدث وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري عن بداياته في الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعن التطورات التي رافقت تأسيس المؤتمر الوطني العراقي والتنسيق مع الأميركيين قبل غزو العراق. وكيف نشأت المنطقة الآمنة في كردستان العراق بقرار من الرئيس الأسبق جورج بوش. وكشف عن تشكيك بشار الأسد في قرار الأميركيين بشن الحرب على العراق في حين لمس الأكراد سلاسة في تعاطي الإيرانيين مع الحرب التي بدأت تلوح في الأفق.
بدأ غزو العراق في التاسع عشر من مارس (آذار) من العام 2003، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، في التاسع من أبريل (نيسان) كانت القيادة الكُردية المؤلفة بالأساس من الحزبين الرئيسين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، مشغولة خلال تلك الفترة بالمناطق المحيطة بإقليم كُردستان، وفي محافظتَي نينوى (الموصل) وكركوك تحديداً.
العودة إلى المنزل
هوشيار زيباري، المتحدّر من محافظة الموصل، يصف عملية تحرير مدينة الموصل والخلافات التي وقعت بين الطرف الأميركي والقيادة الكُردية: “بعد انهيار النظام العراقي، ودخول القوات الأميركية إلى الموصل، نشب بيننا وبين قياداتها صراع. واشنطن لم تكن تريد أن ندخل إلى الموصل، على اعتباره خارج الخط الأزرق، وكانت الضغوط كبيرة علينا، حتى لا ندخل إلى الموصل وكركوك، وكل مناطق ما بعد الخط الأزرق الوهمي، الذي لا وجود له، وهو فقط كان ما اُتفق عليه عام 1991 كحدود بين إقليم كُردستان وجيش صدام حُسين. أنا كُنت من الداعمين والضاغطين على القيادة بضرورة الدخول إلى الموصل، فنحن لدينا حصّة في الموصل، وحتى اليوم، نحصل على ثلث أصوات محافظة الموصل في الانتخابات، نحن لدينا مناطق ووحدات إدارية، ومناطق كرديّة، ونملك عيشاً مشتركاً مع سكان الموصل من بقية القوميات”.
أثناء الأحاديث السياسية حول الواقع السياسي في تلك المناطق، الوزير زيباري يروي بعض التفاصيل الاجتماعية والثقافية، التي تشوبها راهناً الكثير من أشكال سوء الفهم، حين تُصور وكأنها مناطق صراع اجتماعي كُردي عربي، يقول الوزير زيباري “أنا ثقافتي “مصلاوية”، درست في الموصل، وأملك منزلاً هناك، وأملك قطعة أرض. هي ليست جزءاً من إقليم كردستان- العراق، لكن نحن نملك حصّة فيها، ولدينا رأي في اختيار المحافظ. أنا قُمت بالضغط حتّى يتم إرسال وحدة من القوات الخاصّة الكرديّة، خلال إبريل (نيسان)، بعد دخول القوات الأميركية إلى العراق. لأنه حدث انهيار كامل في المدينة، وكانت ستحصل فوضى، لأن القوات الأميركية مُنعت من الدخول إليها عبر تركيا، فاضطرت إلى القدوم من جنوب العراق، والمسافة طويلة. بمعنى، إن لم نقرر دخول الموصل وقتها، كانت ستحصل فوضى كبيرة، وفعلاً حصلنا على موافقة لإرسال بعض من قواتنا الخاصة، نسمّيهم “زاويتا”. ذهبت بعد دخول قواتنا الخاصة إلى الموصل بيوم، بعد أن قاموا بتأمين المقرات هناك. كُنت قد تركت الموصل عام 1975، كان شعوراً جميلاً جداً، رأيت مدرستي الإعدادية “الشرقيّة”. ثمّ ذهبت إلى منزلي في حي الزهور، كان دار والدي ومضافته، كان يرافقني صحافي صديق. البيت كان مستولى عليه من قبل النظام العراقي، ويعتبر من الدور المحجوزة، باعتباري كنت من المطلوبين للعدالة حينها. من المفارقات الغريبة، أنه في زمن صدام كانت هناك سباقات ماراثون. أشخاص يقومون بكتابة اسم صدام حسين بالدم، ويركضون، تيمناً بالقائد. فأحد الأشخاص من بغداد، آتى إلى الموصل سيراً على الأقدام، فمنحه النظام الدار، هكذا أخبروني حينما وصلت إلى منزلنا”!
بداية الحكم
يقارن الوزير زيباري أحوال الكُرد المُرحَّلين من مناطقهم في زمن صدام حُسين بأحوال الفلسطينيين الذين هُجروا أيضاً من مناطقهم “بكل تأكيد كان ثمة شعور فلسطيني ما، الحالة ذاتها، والشعور ذاته. يرى أحدنا منزله بعد كل هذه السنوات، المنزل الذي كبر فيه وتربى فيه ونشأ في داخله. الأكثر تراجيدية، أنه وبعد سنوات كثيرة من تلك المأساة، فإن داعش أيضاً قامت بالاستيلاء على منزلنا من جديد، منزلنا الذي كُلما جاءت قوة غاشمة استولت عليه”.
يسرد الوزير زيباري الأحداث التي جرت في الأشهر الأولى التي تلت احتلال القوات الأميركية للعراق، وتحديداً الدور الكُردي في تلك الأيام “بعد أسابيع قليلة من الاحتلال، زارنا فريق أميركي، مكون من الحاكم المدني وممثلي الدفاع والجيش. كانوا فريقاً كاملاً، وقُمنا باستقبالهم في دار رئيس الإقليم الحالي نيجيرفان بارزاني في أربيل. من هُناك تواصلوا مع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد والبيت الأبيض، وخلال تلك الاجتماعات أكّدنا للوفد ضرورة تشكيل حكومة انتقالية، وإلا فإن الفوضى ستبدأ في العراق. من طرفنا، كنا نملك مجموعة جيدة، كُنا قد اتفقنا في مؤتمر لندن، ما يقارب 67 شخصية، على أن نقوم بإحضار العراقيين، من الوجوه غير البعثية، لنُعلن في ما بعد الحكومة الانتقالية، إلى حين إجراء الانتخابات. طُرحت الفكرة بين الأميركيين والقيادة الكُردية، وكان ثمة توافق مشترك على الموضوع. في اليوم التالي، وفي موكب مهيب جداً، تحرّكنا بحوالى 40 إلى 50 سيارة مع مُرافقة كاملة، وأيضاً قام “مام جلال” بإحضار عدد مماثل من السليمانية، ومر طريقنا بكركوك، سرنا ضمن كركوك، في كركوك رأينا النار المنبعثة من أبار بابا كوركور، كان شعوراً طيبّاً استثنائياً. فقد صار بإمكاننا دخول كركوك مرة ثانية من دون خوف. دخلنا بغداد بهذا الموكب المهيب، لا يمكن تخيّل الفرحة. ذهبنا إلى فندق برج الحياة، الذي صار مقراً لقوى المعارضة السابقة، ومجلس الحكم، ومركزاً للاتصالات”.
يتوقف الوزير زيباري لثوانٍ قليلة ويقول “مشيت في شوارع بغداد، ملأني التعجب، تعجّبت من صحّة الناس، لم تكن جيدة أبداً، الفقر كان يطفح من كل مكان، كان الحصار المفروض عقاباً مريراً دفع الناس أثمانه، لم تكن بغداد مدينة نظيفة أبداً كما كانت من قبل. صراحة كان هذا خطأنا في المعارضة، الخطأ الذي لم يحسب له حساب. سنوات طويلة من الحصار أثّرت في بنية المجتمع وفككته، حتّى الذهنية والعقلية، حتى الاتجاهات، وحتى التيارات الدينية المتشددة، كانت متنامية، ولم نشعر بها نحن، سواء كانت سنيّة أم شيعية”.
الكرد الأقوى على الساحة
سألت “اندبندنت عربية” الوزير زيباري عن توازن القوى بين مختلف الأطراف العراقية التي كانت في المعارضة لتشكيل السُلطة العراقية الجديدة، فأجاب الوزير زيباري “في بادئ الأمر كنا في الريادة، والمبادرة كانت بيدنا، لأننا كُنا الطرف الأقوى. معظم القيادات العراقية، كانت حماياتهم من الجيش الأميركي، وكنت شخصياً أقوم بتوفير هذه الحماية لهم. لذلك، موقفنا ووجهة نظرنا كانت قويّة ومسموعة في العراق داخلياً، ومع الولايات المتحدة والسفارات الأخرى. مقرّنا في برج الحياة كان مقصداً للجميع. الراحل محمد باقر الحكيم مثلاً، كان يرغب في القدوم من إيران إلى العراق، بعد غياب دام 30 عاماً، كان قادماً وبرفقته حماية شخصيّة مسلحة، زارني رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي، وقال لي: (أرجو مساعدتك، حبذا لو تتحدث مع الأميركيين، وتشرح لهم بأن هذا الرجل شخصية كبيرة، ورجل دين وصديق لنا وحليفنا، للحصول على موافقة ورخصة لبعض المرافقين الشخصيين). ذهبت لرؤية القائد العسكري، وقلت إن الرجل موثوق من قبلنا وحليف وداعم للتغيير، فقال لي القائد العسكري: (إمام وقادم من بغداد وبرفقته أسلحة؟ نحن موجودون وسنقوم بحمايته. قلت له: لا، ورجوته أن يتفهم الأمر، لأن المسألة كانت محرجة في أن يقوم جندي بإيقافه على حاجز عسكري. طلب القائد مُهلة للاستفسار. بعد ذلك، سمح له ومنحوه إجازة للأسلحة الصغيرة أي المسدسات”.
يستطرد الوزير زيباري في وصف تشييد بُنى السُلطة في العراق الجديد بعد صدام حسين، بالذات مجلس الحُكم والانتخابات وتشكيل الحكومة الأولى، “فكرة مجلس الحكم هي فكرة الأمم المتحدة، وليست فكرة الطرف الأميركي”. لكن الوزير زيباري يذكر أن الأمور لم تجرِ بالسلاسة المأمولة، بل كانت ثمة صعوبات جمة “بعد أن استلم بول بريمر الحكم، وأصبح الحاكم الفعلي، وفي أحد الاجتماعات، كنت جالساً بين الرئيسين مسعود بارزاني وجلال الطالباني، وبعد أن رحب بنا، وقال إننا أناس جيدون، لكنه استدرك بشكل مفاجئ وقال: أنا القائد، وأنا من سيقوم بإدارة هذا البلد، وأنتم إذا كان لكم دور فسيكون استشارياً، وأملك قراراً من مجلس الأمن، وسنقوم بالعمل على إدارة سلطة الاحتلال وسنحكم، ومسألتنا شرعية. كان يقصد بمعنى ما “يعطيكم العافية”، لكل أعضاء المعارضة. لم يُصدق “مام جلال” ما سمعه من حديث، وانصدم. بعد أن ترجمت الحديث للرئيس بارزاني، فوراً ردّ على بريمر قائلاً “بما أن دورنا قد انتهى، سنعود إلى أربيل غداً”، “مام جلال” أيضاً قال “كنا نريد أن نكون شركاء، وهذا الموقف محزن للجميع، وإذا كان بإمكانكم إدارة البلد، فنحن سنعود”.
موقف السيستاني
بعد عودتنا إلى الفندق، طلب الرئيس بارزاني تحضير السيارات للعودة. فقلت له لا، لديك مهمة أخرى، يجب أن يعلم هذا الإنسان أن في هذا البلد قيادات حقيقية، ويجب أن تلتقي مع السيستاني (المرجع الشيعي) في النجف، فقال هل يمكنك ترتيب الموضوع، قلت له اليوم وغداً سأحضّر له. بعد ذلك ذهبنا إلى النجف، وكان برفقتنا صحافيون. في العودة التقينا بريمر، فقال لي “لم تقل إنك ستزور النجف، كانت لدي رسالة أودك أن توصلها إلى السيستاني”، فقلت له نحن ذهبنا إلى هناك لنُعلمك أن هذا البلد يملك قيادات مُهمة، والرسالة وصلت”
يتابع الوزير زيباري وصفه لتناقضات قوى الحُكم الفعلية في العراق، بالذات بين الطرف الأميركي والمرجعيات الدينية الشيعية بشأن الجهة المخولة لكتابة الدستور العراقي الجديد “كان بريمر يملك خطة، عقد مؤتمرات محلية على الطريقة الأميركية، على مستوى المحافظات وعلى مستوى البلد. لكن مجلس الحكم أصدر قانون إدارة الدولة الانتقالية، وهذا كان مقدمة الدستور، بمعنى كانت ورقة استرشادية، ومجلس الحكم مع سلطة الائتلاف هما من قاما بوضعها، لتكون خريطة طريق للدستور. في البداية اعترضت القوى الشيعية، في ما بعد وافق الجميع على قانون الدولة العراقية. السيستاني رفض فكرة بريمر، وقال إن الدستور يجب أن يكتب من قبل أناس منتخبين من الشعب. هو في أول لقاء قال للرئيس بارزاني: بالنسبة إليّ أهم شيء هو الدستور. بدورها كانت القوى السُنية رافضة. يُضيف الوزير زيباري “حتى عندما بدأت تتشكل المؤسسات والجيش والسلطات، رفضت (القوى السنية) المشاركة، حتى إن القيادات السنية حرّمت مشاركة السنة في التشكيلات التي صارت حينها. نحن كنا نؤيد ونشجع السنة، وكانوا ينظمون مؤتمرات في أربيل، وتحدثنا معهم، وقلنا إذا كانت لديهم أحلام بأن يعود العراق كما كان، فهو أمر مستحيل. كان لسوريا دور تخريبي في دفع القوى السُنية إلى ذلك الطريق”.
الفيدرالية والدستور
كما كُلّ جولات الحوار العراقية، فإن موقع الكُرد وحقوقهم وعلاقتهم مع الدولة المركزية عادت موضع جدال بين مختلف القوى العراقية، وخصوصاً في مسألة الفيدرالية، التي يقول عنها الوزير زيباري “نحن فرضنا الفيدرالية، وصارت جزءاً من قانون إدارة الدولة. فريقنا كان قوياً وكفوءاً وقانونياً ومنسجماً، من الكرد والأجانب والخبراء والتقنيين. القوى السياسية لم تأخذ المسألة على محمل الجد، ونحن كان لدينا تصور واضح. كذلك تمكنا من فرض مبدأ حق ثلاث مُحافظات في رفض أي تعديل مُستقبلي لدستور العراق، كي لا تقوم الأغلبية بسحقنا. معظم اللقاءات صارت في مقرنا في المنطقة الخضراء، وفيها صورة الملا مصطفى بارزاني. حقيقة نحن كنا أقوياء في بغداد، ولم نكن مهمشين، كنا أصحاب قرار، وكنا موجودين في بغداد بقوة. فقد كان الرئيس برزاني يأتي إلى بغداد، ويُقصف مقره خمس مرات كُل يوم، ويفقد الحرس حياتهم، ولا يتحرك من مكانه، كذلك كان يفعل الرئيس الطالباني، كان ذلك منبع قوة لنا ولحقوقنا”.
يُكمل الوزير زيباري واصفاً النجاح السريع للطروحات الكُردية، بالذات في تجربة الفيدرالية، التي يراها اليوم حية وحلاً معقولاً للكثير من مشاكل العراق الراهنة، “الحقيقة تجربة الفيدرالية أو تجربة الإقليم الجغرافي نجحت في العراق، لذلك، صارت محل طلب، وأول طلب لإنشاء إقليم كان في الجنوب من قبل أهالي البصرة، لديهم إدارة والدستور يسمح بذلك، وهناك آليات معينة لتشكيل الأقاليم مثل إقليم كردستان. وبعد أحداث الموصل، وبعد ما حصل بحق الإيزيديين والشيعة خلال فترة وجود داعش. صار هناك استفسار عن كيف يمكن هؤلاء الناس أن يعيشوا معاً مرة ثانية من دون أقاليم مُستقلة نسبياً عن بعضها بعضاً”!
فلول صدام
خلال تلك الأشهر القليلة، بدأت في بغداد عمليات العنف، وتصاعدت لتشغل كامل المنطقة الوسطى من العراق خلال أقل من سنتين. يتذكر الوزير زيباري الأحداث التي جرت وقتها، والتي أدت إلى انتشار العنف في العراق ” أسباب عديدة كانت تقف وراء العنف وبدء المقاومة، مقاومة المحتل. أريد أن أذكر أمانةً، أن معظمهم كانوا من بقايا النظام العراقي السابق، من الجيش والبعث وفدائيي صدام والمخابرات والأجهزة الأمنية والعشائر الموالية. كان هؤلاء الأساس، بعدها قامت جهات ثانية وبأسماء أخرى، مثل ثورة العشرين والنقشبندية وجيش العراق الحر، وكل فصيل كان يعمل في منطقة. صدام حسين وجماعته، عندما علموا أنهم لا يستطيعون الوقوف أمام القوة الأميركية الهائلة، مثلما كشفت الوثائق في ما بعد، فإنهم قاموا بتشجيع حرب العصابات والمقاومة المسلحة. أيضاً الجهة الثانية التي استفادت من الأمر هي القوة المتطرفة دينياً. الجيش الأميركي كان يحتل بلداً عربياً وإسلامياً، لذلك فإن تنظيمات مثل القاعدة كان الأمر بالنسبة إليها فرصة ذهبية. أيضاً، دول الجوار، وتحديداً سوريا، وبسبب الخوف من أن هذه التجربة يمكن أن تنتقل إليها، قامت بتسهيل عمل هذه الجماعات وساعدت في تكوينها”.
لكن الوزير زيباري لا ينكر دور الأحوال الداخلية في العراق، فيعتبرها واحداً من أهم العوامل التي أدت إلى انتشار العنف، سارداً شبه سيرة للنظام السابق “ما قام به البعث أو صدام، بحق الكرد والشيعة وحتى السنة لم يكن قليلاً. بمعنى كان هناك كثير من الناس ملطخة أياديهم بالدم، وكانوا مطلوبين، ومعظمهم اعتقلتهم السلطات الأميركية. في الحارة الواحدة كان الناس يعرفون من هو عنصر الجيش أو المخابرات أو الأمن. وهذا الأمر موجود في كل حالة تغيير. الشيء الذي يؤخذ عليه هو قانون حل الجيش، كانت عملية انتقامية من أميركا، وتؤخذ علينا أيضاً لأننا كنا من الداعمين والمؤيدين حل الجيش. لأن هذا الجيش قتلنا وذبحنا وضربنا بالغازات الكيماوية وهجّرنا، وهذا الجيش بُني على أسس عقائدية وشوفينية ولم يكن جيشاً وطنياً. وفي الأساس لم يبق أحد من الجيش، الكل عاد إلى منزله، وترك المعسكرات. النقطة الأخرى، موضوع اجتثاث البعث، حقيقة شوهوا المسعى والهدف الأساسي له. حساباتنا كانت للشريحة القيادية في حزب البعث، والفِرق القُطرية والقومية في المستويات العليا، أما البقية فلا، وهو ما لم يحدث”.
يُكمل الوزير زيباري واصفاً اللوحة الإقليمية التي أحاطت بالعراق خلال السنتين الأوليين لاحتلاله “كان الهدف إرغام الأميركيين على الخروج من العراق، كي لا ينتقل الاحتلال إلى بلد آخر. حقيقةً الإيرانيون كانوا أذكياء، بعكس السوريين. إيران كانت أول الدول التي زارت العراق وهنأت مجلس الحكم، وقالت إنها تدعمه. وفي المقابل كانوا يلتقون مع السوريين في قراءة الموقف في العراق، ويعتبرون الأمر خطراً مشتركاً. الإيرانيون بدأوا بدعم مجموعاتهم الخاصة، لاستهداف الأميركيين، فالتقت مصالحهم طبعاً. هذا ما قاله لي أيضاً الراحل رفيق الحريري، حينما طلب رؤيتي مرة في السعودية، كنت على وشك الخروج منها، فقال لي انتظرني يجب أن أراك. التقينا هناك، ونبهني بأن السوريين والإيرانيين غير متفقين مئة في المئة، لكنهم يلتقون في نقطة إفشال المشروع الأميركي”.
الدور التركي
يُضيف الوزير زيباري وصفه للمشهد الإقليمي الذي تشكل خلال تلك المرحلة من عمر العراق السياسي، مُحدداً شكل التعامل التُركي مع المشهد العراقي الجديد “بعد تأسيس مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة الأولى في زمن حُكم بول بريمر، زارنا وفد تركي كبير. بينهم وكيل وزير الخارجية وسفراء. للمصادفة كان بينهم مترجم عربي- تركي، هو من عرب تركيا، اسمه عبد الرحمن. رحبت بهم في مقر الوزارة، وذكّرتهم بحادثة قبل عام أو عامين تقريباً. قلت لهم، كنت معكم في وزارة الخارجية، ونبهتكم بأن كل الدول تملك سياسة تجاه العراق، إلا تركيا. بمعنى، غداً يمكن أن يموت صدام، حتى ولو لم تحصل الحرب. أنتم كأتراك ما هي سياستكم تجاه العراق؟ إيران تملك سياسة، سوريا تملك سياسة، السعودية تملك سياسة. فقالوا إن سياستهم هي الحفاظ على وحدة العراق، فقلت لهم هذا ليس كافياً، وقلت: ميدانياً لا تملكون أحداً على الأرض، لديكم الجبهة التركمانية، نحن أيضاً حلفاؤكم، اعتبرونا كذلك. سيكون لنا رأي، ليس مستبعداً أنه بعد سقوط صدام حسين، سألتقي بكم. فقال عبد الرحمن، المترجم: أنا أشهد. فبدأوا بتقبل الفكرة، لكنهم كانوا ضد الأميركيين. كان ذلك بحسب تصوري لأنهم دخلوا في خلاف شنيع وعنيف مع الولايات المتحدة، وأضرّوا بالأميركيين. الولايات المتحدة تعتقد بأن سبب المقاومة السنية في مثلث السنة، هو منع مرور الفرقة الرابعة المدرعة من تركيا إلى العراق وقت الحرب، للإمساك (بمحافظتَي) صلاح الدين والموصل وغيرهما”.
الحالة السورية بالنسبة إلى الوزير زيباري كانت خاصة، لأن أغلب الساسة السوريين كانوا أسرى خطاب قومي بعثي، يسعى إلى عدم الاعتراف بالوضع العراقي الجديد عبر المزايدة على القوى العراقية الجديدة. يذكر الوزير زيباري حدثاً مع وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع، الذي كان ذا دور أساسي في ذلك الإطار “في كل مرة نلتقي به، كان الوزير الشرع يلقي علينا محاضرة، يقول احتلال ومتعاونون مع الاحتلال. في إحدى المرات لم أتمالك نفسي، وقمت بالرد عليه. قلت له (أنت زودتها، نحن نعلم من نكون، وإذا أنت تتحدث عن الاحتلال فسوريا كانت من المصوّتين على قرار احتلال العراق في مجلس الأمن، وأنت الآن تزايد علينا). سوريا لم تكن تعترف بنا، كنا نقول لهم إننا أصدقاؤكم، وعشنا في دمشق، وأغلب قيادات مجلس الحكم يملكون منازل هناك. لماذا كل هذا العناد والتكبّر؟ هل نحن غير مؤهلين، أم لسنا بمستواكم؟ فيما بعد ذهب الأميركان إلى دمشق، ذهب كولن باول، تشجعوا للفكرة، المسؤول الأميركي ذهب كي يطمئنهم، ويؤكد لهم بأنهم غير مستهدفين، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تردعهم”.
وزير للخارجية
يُنهي الوزير زيباري حديثه عن المرحلة التأسيسية لنِظام الحُكم العراقي الجديد واصفاً الآلية التي أصبح بموجبها وزيراً لخارجية العراق “عندما كنت في بغداد ونشطاً في المعارضة، كان لدى الأميركيين مجموعة الـ”CA” وهم كانوا مستشارين في الوزارات كافة. مستشارون أميركيون ورومانيون وبولونيون، في وزارات الخارجية والتربية والدفاع والداخلية. فأول مرة جاء موظفون من الخارجية العراقية، لا أعرفهم، وقالوا إن اسمي يتداولونه كثيراً، وإنني سأصبح وزيراً للخارجية. فقلت أنا لم يتم تبليغي بشيء. بعدها ذهبت مرة إلى القصر، جاءني مستشار روماني، كان برتبة سفير، كان يشرف على شؤون وزارة الخارجية، فقال لي إن هناك رغبة كبيرة جداً بأن يتم تعييني في منصب وزير الخارجية في حال تشكيل الحكومة. فقلت إن القرار ليس في يدي، أنا جندي، إن قامت قيادتي بتكليفي سأقبل، وإن لم تكلفني لن أقبل. وحقيقة في اجتماعات مجلس الحكم أكبر الداعمين لي كان الراحل أحمد الجلبي”.
سألت “اندبندنت عربية” الوزير زيباري عن أول عمل فعله حينما أصبح وزيراً لخارجية العراق، بعدما أبدى أعجابه بوزيري خارجية العراق السابقين فاضل الجمالي وعدنان الباجه جي، يُجيب الوزير زيباري “كشخص عراقي شغل منصب وزير الخارجية، افتخر بأني حافظت وصُنت أرشيف وزارة الخارجية، كان موجوداً في سرداب وزارة الخارجية، من فترة تأسيس الدولة العراقية إلى الآن، وقمنا بتحويله إلى أقراص إلكترونية. أول مرة ذهبت فيها إلى وزارة الخارجية، كان هناك سفراء وموظفون كبار، وكانوا متوجسين من وجودي. كردي وقادم إلينا؟ قلت لهم: أنا كنت ضدكم لكن خارج الوزارة هذه أما الآن فأنا موجود بينكم، ونحن فريق واحد”.
موضوع اجتثاث البعث، حقيقة شوهوا المسعى والهدف الأساسي له. حساباتنا كانت للشريحة القيادية في حزب البعث، والفِرق القُطرية والقومية في المستويات العليا، أما البقية فلا، وهو ما لم يحدث”.
وتحديداً سوريا، وبسبب الخوف من أن هذه التجربة يمكن أن تنتقل إليها، قامت بتسهيل عمل هذه الجماعات وساعدت في تكوينها”.
*الحلقة الثانية من حوار مطول نشر في “اندبندنت عربية“