يكتشف شباب العراق تاريخ بلده العريق من خلال زيارة للمتحف الوطني في بغداد والذي يحتضن آثاراً نفيسة موغلة في القدم لحضارة وادي الرافدين، فيما لايزال ألم سرقة الكثير من القطع الأثرية في 2003 غصة في قلوب الكثيرين.
لا يزال المتحف الوطني العراقي يمثل البوابة العظيمة للتعرف على حضارة وادي الرافدين، حيث يمكن للزائر أن يمتع أنظاره بقطع أثرية تحكي قصصاً لتاريخ يمتد حتى خمسة آلاف سنة. المتحف الوطني في بغداد يمثل واحداً من أهم المراكز الثقافية في العالم فيما يخص دراسة الحضارات القديمة أو لملمة خيوط التطور البشري في الكتابة والزراعة والتشريع القانوني.
إحدى موظفات المتحف العراقي ببغداد تستقبل الزائرين الجدد
وبزيارة المتحف يتلمس الزائر عبق الحضارة في صورة ختم نُقش قبل خمسة آلاف سنة، فيما تمد القطع الأثرية بنسغٍ عبقري خفي يغير ما في النفوس ويجعلك تخرج من المتحف بروح جديدة تختلف كلياً عن الروح التي دخلته من قبل. فجولة في المتحف يعيدك إلى الجنوب مرةً، إلى أور وسومر، حيث خطَّ هناك اللوحُ الكتابي الأول، وثانيةً إلى بابل وشارع الموكب والأسوار العملاقة، حيث كانت الشرائع والقوانين، والى آشور والنمرود حيث كانت المملكة العظيمة تطير بجناحين سماويين.
وهذا بالذات ما يبحث عنه الشباب اليوم، خطوط تمتد إلى ماض عريق يمكن أن يستنبط منها قوة وعزيمة ربما لبناء الحاضر رغم مرارة المرحلة الحالية.
نهب مع سقوط النظام السابق
بيد أن المتحف الوطني مرّ هو الآخر بمرحلة مرة للغاية بعد سقوط النظام السابق، ففي تاريخ 10 نيسان/أبريل 2003، كان السرّاق أول من اقتحم المتحف الوطني العراقي. كادر المتحف تعطّل عن الدوام قبل يومين من تقدّم القوات الأميركية تجاه بغداد. ثم تعرض المتحف لعملية نهب كبيرة استمرت على مدى 36 ساعة مقبلة، لغاية مجيء الموظفين للمبنى مرة أخرى. وبينما أبدت الهيئة الإدارية للمتحف شجاعة وبُعد نظر من خلال قيامها بخزن ورفع 8,366 قطعة أثرية ولفّها وإخفائها بعناية في مستودع المتحف قبل حدوث السرقة، فإنه قد تم الاستيلاء على ما يقارب من 15 ألف قطعة خلال فترة الست وثلاثين ساعة تلك.
وبينما تم استرجاع 7,000 قطعة، فإن أكثر من 8,000 قطعة أثرية لاتزال مفقودة، من بينها قطع أثرية يزيد عمرها على آلاف السنين تعود لأقدم حضارات التاريخ الإنساني في منطقة الشرق الأوسط. عملية النهب هذه اعتبرت من أسوأ أعمال التخريب الثقافي المتعمد في العصر الحديث، ولكن الكثير من تاريخ العراق الحضاري الخصب قد تعرض أيضاً منذ ذلك الوقت لأعمال تخريب ونهب وتهديم على يد تنظيم “داعش”، الذي حصل على أموال من خلال رواج التجارة غير الشرعية ببيع وتهريب القطع الأثرية المسروقة.
زوار شباب وتصميم حديث
المتحف الوطني العراقي يستعيد عافيته من جديد بعد 16 عاما ًمن نهبه ويعج بالزائرين من جديد، خصوصاً من الشباب. الفتاة ديار(14 عاماً) تجول في أرجاء المتحف وقاعاته وتبقى واقفة بين الحين والآخر مندهشة أمام معروضات نفيسة داخل صناديق زجاجية أو أمام تماثيل صنعت قبل آلاف السنين. وتقول ديار: “إنه شيء جميل أن تنظر إلى كل هذه العينات التي تعود لحضارة بابل وآشور والتي لم تفقد بريقها رغم كل هذه السنين”.
بعض معارض المتحف تبدو عليها آثار الإهمال وطريقة عرضها قديمة، فيما تزهو قاعات أخرى ببريق الضوء وحداثة هندستها. المتحف يعرض 24 معرضاً للزائرين. في الصيف يكون عدد المتجولين في المتحف قليل، ولكن في الخريف والشتاء تزداد الحركة نشاطاً.
السيدة هدى ترافق أطفالها في المتحف وتحاول شرح قيمة هذه العينات النفيسة التي لا تقدر بثمن وتقول: “أطفالي يدرسون تاريخ كل هذه العينات في المدرسة دون أن يروا شيئا منها بأعينهم، وهنا الفرصة لينظروا إلى ما هو مكتوب في كتب التاريخ المدرسية”.
تأسس المتحف بناء على اقتراح الباحثة البريطانية غيرترود بيل والتي كانت هي أول مديرة للمتحف بعد تأسيسه. في البداية كان المتحف قاعة واحدة سرعان ما اكتظت بالمعروضات. وفي عام 1966 تم افتتاح المبنى الجديد للمتحف والقائم حتى اليوم، حيث صمم بناءه المهندس المعماري الألماني فيرنر مارغ.
يضم المتحف قرابة 140.000 قطعة فنية. ولكن يمكن فقط عرض جزء قليل منها، كما يقول عباس عبد منديل مدير المتاحف العراقية. ويقول عباس عبد منديل عن المتحف الوطني العراقي: “المتحف العراقي نافذة حضارية لأعظم حضارة على الأرض، وهي حضارة وادي الرافدين وهو عمق حضاري ثابت. وهذه الآثار التي يعرض المتحف هو ملك للإنسانية جمعاء وليس للعراق فقط”.
وتجدر الإشارة إلى أن أوقات افتتاح المتحف لأبوابه تمتد إلى ساعات المساء، حسب قول مدير المتاحف عباس عبد منديل، حتى تتاح الفرصة لزيارة مزيد من عشاق الحضارة في البلد. وفي قسم خاص للأطفال تعرض نسخ مصنوعة من الجبس كي يتمكن الأطفال من لمسها وتحسس قيمتها.
ويطمح مدير المتاحف منديل إلى بناء قاعة جديدة على طريق توسيع المتحف للمرة الثالثة، إلا أن ذلك يعتمد على القوة المالية للدولة التي تعاني منذ فترة من أزمة مالية مزمنة.
تعاون دولي لاسترجاع المسروقات
جدير بالذكر أن متاحف دولية، مثل اللوفر والمتحف البريطاني، تقدم الدعم للمتحف العراقي فيما يخص استرجاع العينات المسروقة من المتحف في عام 2003، فقد أعلن المتحف البريطاني قبل فترة وجيزة أن قطعاً أثرية من العراق وأفغانستان تمت مصادراتها في بريطانيا ستعاد إلى بلدانها الأصلية. وقال المتحف البريطاني إنه يعمل مع سلطات إنفاذ القانون بما فيها شرطة الحدود البريطانية وشرطة لندن لإعادة القطع الأثرية إلى موطنها الأصلي.
يشار إلى أن تنظيم “داعش” الإرهابي لعب بدوره دوراً تخريبياً كبيراً بحق الأثار العراقية، عندما احتل محافظة نينوى المعروفة بكثافة المعالم الأثرية على أرضها، فقد شمل إرهاب التنظيم مبان قديمة نفيسة بمفهوم عبق الماضي، حيث دمر تماثيل فنية رائعة تمثل حضارات قديمة على أرض نينوى، بحجة مخالفتها لمفاهيمه الدينية.
*خدمة “دي دبيلو” بالعربية