فرهاد علاء الدين*
بعد أن عجز اللقاء الذي جمع بين المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية آية الله علي خامنئي ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في 13 حزيران/يونيو عن إعطاء نتائج مثمرة، أصبح واضحًا أن الولايات المتحدة وإيران وصلتا إلى حائط مسدود وأن الأمل بالتوصل إلى حلٍ ضئيل. مع ذلك، يتّفق المتابعون إلى حدٍّ كبير على تعذّر إبقاء الوضع على ما هو عليه. فالنزاع سيفضي لا محالة إلى إحدى هاتين الحصيلتين: إما التصعيد الكامل والحرب أو الحوار والحل السلمي. لذلك يُعتبر الطرف الثالث الذي سيقع عليه الخيار لإدارة المفاوضات عاملاً جوهريًا في الحصيلة التي ستترتب عن الوضع. ومع أن العالم لا يخلو من بعض الخيارات المناسبة، يبقى العراق المرشح الأفضل لإقامة حوار بين الدولتين، سيما وأنه يملك العلاقات اللازمة والمصلحة الراسخة في الحفاظ على السلام بين الطرفين.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، واصلت الولايات المتحدة وإيران كلتيهما أعمالهما التصعيدية، وجاءت حادثة إسقاط طائرة التجسس الأمريكية بدون طيار يوم العشرين من حزيران/يونيو على يد إيران، وكذلك فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على المرشد الأعلى والعديد من جنرالات الحرس الثوري الإيراني في 24 حزيران/يونيو، إلى جانب إعلان الرئيس ترامب في 18 تموز/يوليو بأن الولايات المتحدة أسقطت طائرة إيرانية بدون طيار، وهو ما أدى إلى تفاقم المأزق الحاصل.
من الواضح أن إيران تتعذب، فقدرتها على تصدير النفط تراجعت إلى أقل من 500 ألف برميل في اليوم في حين أن الحد الأدنى من الصادرات المطلوب لإبقاء اقتصادها عائمًا يقارب الـ1,5 مليون برميل يوميًا. وقد ردّت إيران بعبارات واضحة على هذا الوضع متوعدة بأنها إذا عجزت عن تصدير النفط، فلن تتمكن دول المنطقة الأخرى من تصدير النفط أيضًا. والواقع أن ناقلة النفط الإماراتية التي اختفت في مضيق هرمز خلال الأسبوع الماضي ترسّخ أرجحية ألا يكون التهديد الإيراني مجرد كلامٍ أجوف. في المقابل، تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية بعيدة المدى عبر مواصلة حملة “الضغط الأقصى” على الاقتصاد الإيراني من خلال العقوبات، سيما وأن الإدارة الأمريكية تعي تأثيراتها الساحقة على الاقتصاد الإيراني وتبدو مصممة على مواصلتها بما توفر من أساليب.
على الرغم من هذه التطورات، كررت الولايات المتحدة استعدادها للتفاوض مع الإيرانيين. وحتى الآن، رفضت إيران كل الدعوات إلى الحوار وذلك على الرغم من أن وزير خارجيتها جواد ظريف قد أشار في الأيام القليلة الماضية إلى أن إيران مستعدة للتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن عمليات التفتيش النووي إذا تم رفع العقوبات بشكل دائم. وتصنّف إيران استعدادها للتفاوض على أساس عدم وجود أي ضمانة بأن الولايات المتحدة ستحترم أي حل يُتفق عليه أو اتفاق يُوقّع عليه وذلك بسبب انسحابها من اتفاق “خطة العمل المشتركة الشاملة”. مع ذلك، لا يزال الطرفان يبديان استعدادًا للتنازل إذا وُجدت الظروف المناسبة شرط وجود ضمانات معينة ترضي الطرفين.
إذًا فالسؤال الأبرز الذي يُطرح هنا يدور حول اختيار الجهة التي يستطيع الطرفان العمل معها للتوصل إلى تسوية. بالرغم من فشل محاولات اليابان للعب دور المفاوض، ثمة جهتان قادرتان على الاضطلاع بهذا الدور، وهما العراق وروسيا.
تعتبر روسيا مخولة للاضطلاع بدور المفاوض لأن الرئيس بوتين يحظى باحترام الرئيس ترامب والقيادات الإيرانية على حدٍّ سواء. كما أن روسيا حليفٌ مهم لإيران وقد ساندتها بوجه العديد من خصومها في الماضي، وإيران تصغي لروسيا وتعمل معها عن كثب على العديد من المسائل الاستراتيجية كسوريا و”خطة العمل المشتركة الشاملة”. ومع أن بوتين ليس شخصية مستحبة بالإجمال في أمريكا، لم يتوانَ الرئيس ترامب عن إظهار تقديره للرئيس بوتين ومناقشة العلاقة الجيدة بينهما. والأرجح أن يكون الرئيس ترامب مستعدًا للإصغاء لبوتين والعمل معه في حال أُحضر الإيرانييون إلى طاولة المفاوضات.
غير أن روسيا لن تتولى المفاوضات ما لم تكن تتوقع الحصول على شيء في المقابل. ذلك أن روسيا والولايات المتحدة تتنافسان على بيع الأسلحة والصواريخ البالستية وتشتبكان في سعيهما إلى تطبيق سياسات الطاقة والسيطرة على السياسة الجغرافية في المنطقة، ناهيك عن أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على روسيا بسبب النزاع في شبه جزيرة القرم. وبالنتيجة، سيكون للوساطة الروسية ثمنٌ باهظ قد يفوق الثمن الذي يقبل أو يستطيع الرئيس ترامب دفعه.
لكن هذا الجانب السلبي يسلّط الضوء على فوائد الوساطة العراقية: فالاختلاف الجوهري بين الوساطة العراقية والروسية يكمن في أن الحل السلمي للنزاع يتوافق مع المصالح العراقية. وبالفعل، سيكون العراق الخاسر الأكبر من تصعيد النزاع والرابح الأكبر من تسويته سلميًا.
إذا نظرنا إلى الصورة الأوسع، نرى أن الإدارة الحالية في العراق – بقيادة الرئيس برهم صالح ويليه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي – تسعى إلى إعادة العراق إلى الخارطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط والعالم أجمع. فقد قام كل واحد من هذين الرئيسين بزيارات دولية متعددة إلى الدول المجاورة وأبرم عددًا من الصفقات التجارية في المنطقة وأجزاء من أوروبا. والزيارة الدولية الأخيرة التي قام بها الرئيس صالح إلى المملكة المتحدة حيث التقى برئيسة الوزراء تيريزا ماي وبالملكة، هي إعلانٌ لافت عن تعاظم المكانة العراقية على مسرح الدبلوماسية العالمية. أضف إلى ذلك أن العراق يتمتع بنفوذ فريد داخل إيران من خلال النجف. فآية الله العظمى علي السيستاني – الذي يُحصى أتباعه بالملايين داخل إيران والذي يولي اهتمامًا كبيرًا لمحنة الشعب الإيراني – قادر على إعطاء زخمٍ كبير للدبلوماسية العراقية إذا أبدى موافقته على الوساطة.
علاوةً على ذلك، يملك العراق شراكة استراتيجية مع كلتا الدولتين، ولدى كلتيهما مصالح كبيرة في العراق تسعيان إلى حمايتها والحفاظ عليها. فالعراق يشتري من إيران كميات كبيرة من الغاز والكهرباء إلى جانب العديد من السلع كالمأكولات ومواد البناء وقطع السيارات وغيرها، بحيث سجّلت التجارة بين البلدين 12 مليار دولار في السنة وقد ألمح الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أن هذا المستوى قد يرتفع إلى 20 مليار دولار. أما الولايات المتحدة من جهتها فتعمل كشريك استراتيجي للعراق في الحرب على “داعش”، وثمة شركات أمريكية ضخمة أمثال بوينغ و”جنرال إلكتريك” و”إكسون موبيل” منخرطة في أعمال ضخمة في العراق ومن المفترض أن توقع “إكسون” اتفاقًا كبيرًا بقيمة 53 مليار دولار مع الحكومة العراقية. وكذلك تقدم الولايات المتحدة مساعدات واسعة النطاق لتطوير الإمكانيات التقنية لدى القوات المسلحة العراقية وتساهم بشكل كبير في إرساء الاستقرار وإعادة الإعمار في المناطق المحررة من سيطرة “داعش”.
منذ نشوب الخلاف بين إيران والولايات المتحدة، تصرّف العراق بحذر وحافظ على موقف مستقل بالرغم من الضغط الهائل الذي تعرّض له من كلا الجانبين. فقد طلبت إيران من الحكومة العراقية مرّات عديدة أن تتخذ تدابير كفيلة بالتخفيف من حدة العقوبات على غرار خفض إنتاج النفط العراقي، ولكن الحكومة العراقية لم تذعن. وعلى المنوال نفسه، حثّت أمريكا العراق على التوقف عن شراء الغاز والكهرباء من إيران، لكن الحكومة العراقية أعلنت بوضوح أنها بحاجة إلى مواصلة شراء هذه السلع والحفاظ على علاقاتها التجارية بإيران.
ويشار إلى أن مساعي الحياد العراقية تتماشى مع السياسة الجديدة التي تبنّتها الحكومة العراقية والتي تقوم على مبدأ “العراق أولاً”. وأصبحت هذه الاستراتيجية ممكنة بفضل العلاقة الناجحة والتعاون التام بين الرئاسات الثلاث في البلاد، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب. إذ شكّل هؤلاء قوةً مذهلة في خضم الفوضى السياسية التي تسود عادةً السياسة العراقية، ونجحوا في النأي بأنفسهم عن المشاحنات السياسية اليومية، وها هم يدأبون على تأدية المهام التي أناطها بهم الشعب العراقي. وهم يعملون بجدٍّ أيضًا للحفاظ على سيادة العراق وتعزيز استقلاليته بعيدًا عن تأثيرات الطرفين.
بالتالي، ستكون الإدارة الجديدة في بغداد ميزةً مفيدة للمفاوضات، لأن مساعدة الطرفين على خوض الحوار وإنجاح المفاوضات في نهاية المطاف تخدم بلا شك مصالح العراق. ولهذا السبب، ينُصح كلٌّ من إيران والولايات المتحدة بالسماح للعراق بلعب دور الوسيط من أجل تحقيق السلام الذي تحتاجه كل الأطراف.
*فرهاد علاء الدين رئيس المجلس الاستشاري العراقي وهو مستشار سياسي سابق لرئيس جمهورية العراق برهم صالح، كما عمل مستشارا سياسيا للرئيس العراقي السابق فؤاد معصوم من عام 2014 إلى 2018. وقبل ذلك عمل رئيسًا لأركان رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان من عام 2009 إلى 2011، كما تولى منصب كبير مستشاري رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان من عام 2011 إلى 2012.علاء الدين هو أيضاً رئيس مجلس إدارة مركز الرافدين للحوار وعضو في مجلس إدارته. وهو كاتب ومراقب في الشؤون السياسية الحالية في العراق وكردستان ويحمل درجة الماجستير في قيادة الابتكار والتغيير من جامعة “يورك سانت جون”.