تقرير معن الجيزاني*
التبادل التجاري بين العراق وإيران. اللغز الذي لا يبدو أن أحدا يستطيع أن يفك شفرته السرية. ميزان تجاري يميل إلى كفة واحدة: إيران، وطريق للاستهلاك يسير باتجاه واحد: العراق. أرقام تتصاعد وتتضخم عاما بعد آخر، والحصيلة كما يقول العراقيون، استنزاف غير مسبوق لثروة العراق وتدمير منظم لمقوماته الاقتصادية.
الكاتب والناشط السياسي العراقي المعارض غيث التميمي طالب بفتح ملف التبادل التجاري بين البلدين منذ العام 2010 وحتى يومنا هذا.
التميمي قال إن “العراق بحاجة إلى فتح ملف التبادل المالي بينه وبين إيران على الأقل من الفترة 2010 إلى 2019 لأنه توجد شبهات نهب، لا أقول فساد، إنما أقول شبهات نهب موثقة لأموال العراق”.
في العام 2016 كانت الصادرات الإيرانية إلى العراق قد تجاوزت ستة مليارات دولار سنويا. أرسلت إيران في ذلك العام حوالي 10 ملايين طن من البضائع بينما اقتصرت استيراداتها من العراق على بعض المنتجات النفطية بمبلغ خجول لا يتجاوز 60 مليون دولار.
الاختلال المذهل في الميزان التجاري بين البلدين كان له انعكاسات مدمرة على كل قطاعات الإنتاج في العراق.
مدير إنتاج في أحد المصانع العراقية قال لـ “الحرة تتحرى”: “المنتج الإيراني بات يشكل 90 في المئة من البضائع في الأسواق لهذا السبب مصنعنا توقف عن العمل. مهما نزلنا بالأسعار لا نستطيع منافستهم”.
178 ألف مصنع لم يبق منها سوى بضع مئات تصارع للبقاء في بلد تزدهر فيه البطالة والميليشيات ومعدلات الاستهلاك.
مالك أحد المصانع العراقية قال: “بدأنا تسريح عدد من العاملين حتى أصبح لدينا الحد الأدنى من عدد العمال. المنتج الإيراني نزل بأسعار بخسة لا نستطيع أن ننافس أسعاره وهو منتج ذو مواصفات متدنية”.
عامل في أحد المصانع العراقية قال لـ”الحرة تتحرى”: “لا أعرف إلى أين أذهب. أنا رجل وليس لدي ما يعيلني، لماذا تفعل بنا الدولة هكذا؟ نحن أهل الخير والنفط. لا أستطيع الحديث أكثر”.
التميمي: “نحن نتحدث عن سرقة بوضح النهار لمبالغ هائلة وهذه لا يمكن إلا أن تكون غسيل أموال تقوده إيران لثروات العراق وبتسهيلات تقدمها القوى السياسية، وهي نوعان، قوى مرتزقة إيران الذين يعملون ليلا ونهارا ويحملون السلاح والفتاوى، ولديهم أكثر من 60 قناة تلفزيونية ممولة، ويقابلهم القسم الثاني من السياسيين وهم المتواطئون معهم، الصامتون على كل هذا النهب وكل هذه السرقات”.
قبيل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران والشروع بفرض عقوبات اقتصادية عليها، كانت أرقام الصادرات الإيرانية إلى العراق تتضاعف بشكل غير مسبوق. يقول الإيرانيون أنفسهم إن تلك الصادرات زادت نحو 17 ضعفا عن حجمها في السنوات الماضية.
أحمد الأبيض، أحد الناشطين السياسيين الذين يشككون في حقيقة أرقام التبادل التجاري ويلمح إلى عمليات غسيل أموال واسعة تستفيد منها إيران على حساب الاقتصاد العراقي.
الأبيض قال للحرة: “ما يدخل من بضاعة إلى العراق يحتاج إلى مساطر اقتصادية والدولة تحدد ما هي المواد التي يجب أن تدخل وتمنع المواد الأخرى. بالتالي التاجر الإيراني قام بالالتفاف على العقوبات بحيث هو وافق على التعامل بالدينار العراقي وليس بالدولار كما منعت الإدارة الأميركية، لكن هذا الدينار يعيد إنتاجه وتدويره مرة أخرى في الاقتصاد العراقي من خلال هذه المصارف، ويأخذ الدولار خارج العراق. هذه هي الشبكة التي يجب تسليط الضوء عليها وإيقافها”.
عمر حمادي صحفي عراقي يقدم برنامجا إذاعيا على “راديو سوا” تابع ملف الاستيراد في العراق معتمدا على التقارير الرسمية الصادرة عن جهاز الإحصاء المركزي التابع لوزارة التخطيط العراقية.
حمادي قال إن بعض الأرقام كانت مثيرة للانتباه: “ما لفت انتباهي أنه في العام 2016 وحسب البيانات الرسمية لوزارة التخطيط العراقية كانت إيران تحديدا تقع في المرتبة الخامسة بين أكبر المصدرين إلى العراق. وكان حجم التصدير أقل من 2 مليار دولار، لكن فجأة وفي ظروف غامضة قفز الرقم إلى ثمانية مليارات و700 مليون دولار في سنة 2017. هذا دعاني إلى التساؤل عن أسباب التغيير على اعتبار أن نمط الاستهلاك يكاد يكون واحدا تقريبا وحتى إذا صار فرق فالفرق سيكون قليلا”.
في العام 2016 على سبيل المثال كانت قيمة استيرادات السلع غير النفطية من إيران قد وصلت إلى نحو مليار و800 مليون دولار. وفي العام الذي تلاه مباشرة، أي 2017 زادت القيمة إلى أربعة أضعاف بزيادة بلغت سبعة مليارات دولار.
نصف تلك الزيادة في قيمة الاستيرادات القادمة من إيران كانت تنحصر في مادتين فقط، الطماطم والبطيخ الأخضر.
حمادي: “هاتان السلعتان استوردهما العراق من إيران في سنة 2017 بحوالي أربعة مليارات ونصف المليار دولار. وهذا رقم كبير جدا ومعظم الخبراء الذين اتصلت بهم شككوا بإمكانية فعلا أن يكون هناك استيراد لهاتين المادتين بهذا المبلغ”.
بين الصدمة والدهشة وعدم التصديق، تراوحت ردود أفعال نواب في البرلمان العراقي، من بينهم أعضاء في اللجنة المالية.
في اتصال مع عضو في اللجنة المالية في البرلمان العراقي لدى سرد المعلومة على النائب، ضحك وقال: “ليس لدي تعليق”.
في العام 2016 استورد العراق نحو خمسة ملايين كيلوغرام من الطماطم بقيمة وصلت إلى حوالي مليون دولار فقط ولكن في العام 2017 استورد العراق من إيران نحو ستة مليارات و500 مليون كيلوغرام من الطماطم، وبكلفة وصلت إلى مليار و600 مليون دولار.
تلك الكمية الخيالية تعادل مجموع ما استوردته كل من كندا وبريطانيا وإسبانيا من الطماطم في العام ذاته.
حمادي قال لـ”الحرة تتحرى”: “لو فعلا العراق استورد طماطم سنة 2017 بمليار و600 مليون دولار فهذا يعني أن السوق العراقية غرقت بالطماطم فلا يمكن بأي حال من الأحوال لبلد أن يقفز بالاستيراد من مليون دولار إلى مليار و655 مليون دولار في عام واحد”.
أما مجموع ما استورده العراق من البطيخ الأخضر الإيراني في العام 2016 فبلغت قيمته حوالي 16 مليون دولار فقط، ولكن في العالم التالي أي في العام 2017 الاستثنائي، بلغت استيرادات العراق من البطيخ الأخضر الإيراني 2 مليار و800 مليون دولار، وهو مبلغ يساوي خمسة أضعاف مخصصات وزارة الزراعة في الموازنة العراقية من العام ذاته.
أحمد الأبيض قال للحرة: “أنت عندما تتحدث عن هكذا أرقام طبعا هذه أرقام غير حقيقة، بمعنى مضحكة. أنت تتحدث عن ثلاثة مليارات دولار لاستيراد البطيخ الأخضر، بمعنى أن لكل عراقي 10 بطيخات باليوم. وهذا الشيء مبالغ فيه بشكل مذهل”.
أضاف: “ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن عملية إخراج العملة الصعبة من العراق يراد إعطاءها غطاء شرعي والذي ساهم في ذلك هو سكوت البنك المركزي. البنك المركزي يتحجج منذ سنوات بأن وثائق التصدير التي تأتي للبنك المركزي يتم تصديقها من السفارات وهي جهة غير خاضعة له، أي بمعنى هو يقر بعمليات تهريب العملة الصعبة وبالفساد في ذلك”.
أرقام الاستيرادات الفلكية من إيران عجزت عن تفسيرها حتى وزارة الزراعة العراقية .المتحدث باسم وزارة الزراعة العراقية حميد النايف قال: “أنا لا أعتقد أن هكذا أرقام بالنسبة للبطيخ تصل للمليارات. لا يمكن للبطيخ الذي هو شيء بسيط وفاكهة موسمية لعدة أشهر أن يصل استيراده إلى مليارين أو ما شابه. هذا كثير جدا. هناك أشياء دفينة لا نعلمها بصراحة. نحن نتعامل اليوم حقيقة مع مافيات”.
المافيات التي أشار اليها المتحدث باسم وزارة الزراعة العراقية حميد النايف يهمس بها مستشارون وخبراء اقتصاديون على اطلاع بهذا الملف.
الخبيرة اقتصادية والمستشارة لدى رئاسة الحكومة العراقية سلام سميسم علقت بالقول: “أنت تتحدث عن بلد صحيح فيه حرية تجارة ولكن أنا كيف أعرف إذا لم تكن مليار يكون للطماطم والمليار الآخر تكون ثمن سلاح أو مخدرات؟”.
“هل نقول منظمات مسلحة؟” تسأل “الحرة تتحرى”.
فترد الخبيرة: “كل شيء، لأن المنظمات أيضا تحتمل كل شيء. هناك منظمات مسلحة. وهناك منظمات تدخل في إطار منظمات المجتمع المدني ولكن لها نشاطات أخرى”.
ميليشيات ومنظمات وأسلحة ومخدرات وغسيل أموال. سلسلة باتت ترتبط بعضها ببعض وتتحكم بالدورة الاقتصادية والمالية للعراق وعلى نحو تبدو فيه إيران، وليست الأرجنتين هذه المرة، المستفيد الأكبر من شبكة الفساد ونزيف المال العراقي.
*عن موقع “الحرة”