الباحثة شذى خليل*
احتضن العراق الكثير من الوافدين ، منذ بدايات قيام الدولة العراقية الحديثة ، من حيث سهولة قانون الإقامة والعمل والدراسة ، ومنحت لأصحاب الجنسيات العربية دون أي قيود ، وكان معظمهم من جنسيات عربية كالفلسطينيين والسوريين والمصريين والسودانيين ، معظمهم كانوا مستقرين ويعملون ، وبعضهم حصل على الجنسية العراقية فيما بعد ، لكن الطفرة الاقتصادية التي عرفتها البلاد نهاية الستينيات وبداية السبعينيات ، جعلت من العراق مقصدا للكثير من العمال والفلاحين ، الذين بدأوا بالتوافد ، لا سيما من مصر والسودان ، حيث امتلأت المصانع والورش والمزارع بالعمال الوافدين ، وبدأت العمالة العربية الوافدة بالانتشار في سوق الأعمال البسيطة ، حيث كان معظمهم عمال بناء ومزارعين وبعضهم عمل في مهن حكومية.
سهلت الحكومات العراقية السابقة قانون الإقامة والعمل ، بالأخص قبل عام (1990) ، إذ وصل عددهم الى أكثر من أربعة ملايين ، فيما بلغت أعداد السودانيين نحو ثلاثة ملايين شخص ، ثم استقطبت سوق العمل جنسيات أخرى كالبنغلادشيتين والهنود وغيرهم ، إلا أن وقوع حرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي الذي عاناه العراق في عقد التسعينيات ، دفع معظم هؤلاء للمغادرة إلى دول أخرى ، أو العودة إلى بلدانهم الأصلية ، وفضل بعضهم البقاء رغم صعوبة الظروف.
أما بعد الاحتلال عام (2003) ، والانفلات الأمني ، والطائفية التي عاشها العراقيون ، لكن بعض الوافدين فضلوا البقاء في العراق ، لا سيما من المصريين والسودانيين الذين ما زال حضورهم واضحا في بعض الأماكن وسط العاصمة بغداد.
في السنوات الأخيرة ، استقطبت سوق العمل العراقية جنسيات مختلفة معظمها غير عربية ، حيث امتلأت المراكز التجارية والمطاعم ومؤسسات القطاع الخاص والمحلات في المناطق السكنية بعاملين أغلبهم من دولة بنغلادش ، وأعدادهم تتزايد باستمرار بسبب إقبال أرباب العمل على التعاقد معهم لبساطتهم والتزامهم وانضباطهم الشديد .
وارتفعت نسبة البطالة في العراق إلى اكثر من (30%) عام (2016) وفق الإحصاءات الحكومية ، بسبب تداعيات الحرب ، وتفاقم أعداد النازحين ، والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عامين ، وضعف القطاع الخاص ، وعدم قدرة الحكومة على استيعاب المزيد من الشباب في وظائفها ، وهو ما يجعل قدوم عمالة أجنبية يؤثر سلبا على سوق العمل المحلية ، ويزيد من صعوبة الحصول على عمل للشباب العراقي.
يقول المواطن العراقي “ثائر رعد” والذي يبلغ من العمر (23) عاما انه لم يجد حتى الآن عملا يستطيع من خلاله الإنفاق على نفسه وأسرته ، مؤكداً أنه لم يوفق في المهن التي مارسها سابقا بسبب انخفاض الأجور ، والضغط الكبير على العمال ، وزيادة ساعات العمل باستمرار ، دون أن يكون المقابل المادي مجديا ، وأضاف أنه اضطر إلى ترك العمل في البناء مؤخرا ، لأن المقاول الذي يعمل معه أصبح يماطل في منحه الأجور ، كما أن إصابته أثناء عمله في البناء مؤخرا حرمته من فرصة البحث عن بديل جيد ، فاضطر للجلوس في البيت بانتظار وظيفة أو عمل طال انتظاره.
وفي ذات السياق ، كشف تقرير لصندوق النقد الدولي ، نُشر مؤخراً ، أن معدّل البطالة لدى شريحة الشباب في العراق بلغ أكثر من (40%) ، وجاء في التقرير ، أن معدّل النساء اللواتي يقعن خارج القوى العاملة في العراق يبلغ قرابة (85%).
أما بالنسبة الى المخالفة القانونية ، فالقانون العراقي رقم (137) لسنة (2016) أقر ضمان العمل للشاب العراقي في المادة الرابعة من الفصل الثاني للعمل ، باعتباره حقا لكل مواطن قادر عليه ، وتعمل الدولة على توفيره على أساس تكافؤ الفرص دون تمييز.
كما حدد القانون العراقي نسبة العمال الأجانب في المؤسسات الخاصة عند نسبة (5%) ، بحسب ما أوضحه المحامي الاستشاري في محكمة أربيل – شمالي العراق – حتم جعفر شريف ، إلا أنه عزا السبب في انفلات الضوابط وتخطيها إلى بعض الشركات التي تعمد إلى التحايل على القانون بالاتفاق مع مكاتب استقدام اليد العاملة الأجنبية ، وتهريبهم إلى سوق العمل ، وبالتالي أدت إلى ازدياد البطالة في البلاد.
واعتبر شريف أن الحل الأمثل لتفادي هذا الانفلات هو صياغة البرلمان قوانين صارمة ، وضرورة تدخل نقابة العمال لضبط الإنتاجية لتشجيع تشغيل اليد العاملة المحلية.
ورغم بعض العراقيل القانونية التي بدأت الحكومة تضعها مؤخرا من أجل ضبط استقدام العاملين الوافدين ، إلا أن وتيرة قدومهم في تزايد مستمر ، وقد اعتاد العراقيون على رؤيتهم في الأماكن العامة ، والتعامل معهم بشكل طبيعي ، لا سيما وأن معظم هؤلاء الوافدين تعلموا اللغة العربية وأصبح تفاهمهم مع الناس سهلا ، فيما بدأت وسائل إعلام محلية في التطرق لأوضاعهم ومناقشتها في برامج تلفزيونية ، ودخلوا مؤخرا إلى عالم البرامج الكوميدية عبر إسناد بعض الأدوار الجانبية لهم.
وزارة العمل العراقية تعلن وفي ضوء هذه الإشكالية أنها بصدد وضع ضوابط جديدة لتنظيم العمال الأجانب إلى العراق ، وإلزام أرباب العمل بتحديد عدد ساعات العمل وأيام العطل للعمال الأجانب.
وأضافت الوزارة بندا إلى عقود العمـل الموقعة مع الشركات الاستثمارية التي دخلت العراق ، يلزمها بأن يكون نصف الأيدي العاملة في مشاريعها من العراقيين .
ويعمل معظم العمال الأجانب في تقديم الطلبات ، وفي استقبال وتوصيل المرضى ، وتنظيف الأرضيات في المستشفيات الخاصة ، وكذلك في الفنادق ومدن الألعاب الخاصة وبعض المحال التجارية.
يواجه بعض العمال الأجانب من القادمين من دول آسيوية كالهند وسريلانكا وبنغلاديش والنيبال والفلبين مشكلة عدم شرعية إقامتهم في العراق ، ما يجعل من حركتهم خارج مكان العمل مقيدة بعض الشيء ، فقد دخل جميعهم البلاد من دون تصاريح عمل ، ومن خلال تأشيرات سياحية فقط.
أما صاحب إحدى مكاتب توظيف العمالة الأجنبية في بغداد ، فقد أبدى امتعاضه الشديد من قرار الحكومة العراقية القاضي بتسفير العمال الأجانب ومنع منحهم تأشيرات الدخول.
ويقول صاحب مكتب التوظيف ، الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب وصفها بالأمنية ، ان العامل الأجنبي بحكم وضعه المادي المتدني والمسافة التي قطعها من بلده إلى العراق ، يكون أكثر حرصاً على إتقان عمله وبأفضل صورة ، وإن الكثير من أصحاب الشركات ومكاتب التشغيل يفضلون العامل الأجنبي على العراقي لقلة أجوره وزيادة عدد ساعات عمله نسبة إلى العامل العراقي الذي ينتابه نوع من البطر في بعض الأحيان.
فضلاً عن ان بعض المهن لم يعتد العراقيون على ممارستها إلا نادرا ، كالخدمة في المنازل ، وتربية الاطفال ، وتسعى بعض الأسر إلى استقدام عاملات أجنبيات ليتولين رعاية أبنائهن أثناء غياب ربة المنزل عن بيتها ، وتقول نجاة عباس ، وهي موظفة تعمل في وزارة النفط ، أن غيابها الطويل عن المنزل يستدعي وجود مربية لأطفالها الثلاثة ، تراعي شؤونهم ، وتطبخ لهم ، وتهيئ متطلباتهم إلى حين وصولها من العمل ، وقد تعاقدت نجاة مع إحدى المربيات.
الانعكاسات السلبية على المواطن والاقتصاد العراقي:
تشير آخر إحصائيات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى (1.2) مليون عاطل عن العامل ، الكثير منهم من حملة الشهادات الجامعية ، وكانت الحكومة العراقية قد أصدرت قراراً يقضي بترحيل العمال الأجانب العاملين في العراق إلى بلدانهم ، وذلك بهدف التقليل من نسبة البطالة بين الشباب العراقي ، وفقاً للجنة العمل والشؤون الاجتماعية النيابية.
ويرى الخبراء الاقتصاديون أن زيادة الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية تعد سبباً لتفشي ظاهرة البطالة في العراق ، التي ازدادت وبشكل ملحوظ بعد عام (2003) ، فهذه العمالة الرخيصة أصبحت مفضلة في سوق العمل ، والاقتصاد العراقي يعاني من بطالة مزمنة أصلاً ، والتي يصعب حلها إلا من خلال تدخل الدولة بشكل مباشر وفعال عن طريق تقنين إدخال العمالة الأجنبية إلى العراق.
ازدياد نسبة البطالة في العراق والمتمثل “بالإغراق السلعي” والناتج عن دخول كميات كبيرة من السلع والبضائع إلى البلد وبأسعار رخيصة الثمن والتي تنافس الصناعة المحلية ، وتعمل على تجميد المصانع والمعامل ، كلها أسبابٌ أدت إلى إغلاق العديد من المعامل العراقية وتسريح عمالها ، ومن أجل مكافحة هذه الظاهرة ، يؤكد الخبير الاقتصادي على “ضرورة دعم القطاع الخاص للقضاء على البطالة التي وصلت نسبتها إلى أكثر من (35%) ، فمن المستحيل على القطاع العام وحده استيعاب هذا العدد”.
نصل الى نتيجة غاية في الأهمية ، مفادها “ان تفشي البطالة بين العراقيين دفع إلى لجوء البعض إلى طرق مشبوهة للحصول على المال ، فنشطت تجارة المخدرات ، وازدياد حالات الانتحار وارتفاع عمليات الخطف والاغتصاب والسرقات.
وهنا ، يجب على الحكومة العراقية والوزارات المسؤولة الحرص على إقامة توازن بين السماح بتغطية احتياجات السوق العراقية للعمالة العراقية أولا بتلبية حق الشاب العراقي في الحصول على عمل يحميه من الفقر والحاجة ، ووضع نسبة خاصة لأعداد الأجانب في أماكن العمل ، ضمن القانون .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية