شهدت العلاقات الصينية الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية فترات مد وجزر على خلفية الصراع التجاري بينهما، ونتيجة السيطرة الصينية شبه المطلقة على مجموعة من القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية ذات الصلة بالصناعات التحويلية التي تحتفظ فيها الصين بالريادة على المستوى العالمي، وعليه فإنه على الرغم من التحفظات الأوروبية على ما تعتبره خرقاً مستمراً من قبل الصين لقواعد التجارة العالمية، إلا أن الدول الصناعية الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ما زالت في حاجة ماسة إلى السوق الصينية من أجل تصريف منتجاتها، الأمر الذي يدفعها إلى عدم مجاراة الحلف الأنجلو-أمريكي الهادف إلى تصعيد المواجهة الجيوسياسية مع بكين.
بيد أن هذا الحذر الأوروبي تجاه سياسات التصعيد الأمريكي لم يمنع الاتحاد الأوروبي من توجيه رسائل تحذير واضحة للحكومة الصينية من العواقب الاقتصادية التي يمكن أن تتأتى من جراء الدعم العسكري الصيني المباشر لموسكو في حربها على أوكرانيا، وبالتالي فإن بكين تسعى إلى تجاوز التهديدات الاقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي من خلال استثمار الخلافات الداخلية لدوله والتعامل معها بشكل منفرد بعيداً عن وصاية مؤسسات بروكسل التي تمتلك واشنطن بداخلها العديد من وسائل الضغط من أجل توجيه السياسة الأوروبية نحو المسارات التي تخدم مصالحها ومصالح المملكة المتحدة الحليف التقليدي لها.
وكان المؤتمر 23 للصين والاتحاد الأوروبي الذي انعقد في السنة الماضية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، مناسبة للجانبين للتأكيد على الطابع الحيوي لعلاقاتهما، خاصة أن المبادلات بينهما وصلت خلال سنة 2021 إلى 828 مليار دولار في مجالات السلع والخدمات المختلفة. ويسعى الطرفان من ثم إلى تجاوز الخلافات السياسية والاقتصادية وإلى الإبقاء على علاقات مستقرة بينهما من أجل المحافظة على مصالحهما المشتركة في سياق دولي يعرف تراجعاً في مستوى الأداء الاقتصادي لمجمل دول العالم، ويشكل الطرف الأوروبي في هذا السياق الحلقة الأضعف في سياق المنافسة الأمريكية الصينية الشرسة، وتحاول دول مثل ألمانيا وفرنسا، قدر الإمكان، أن تخرج من هذه المواجهة بين العملاقين بأقل الأضرار الممكنة.
ويتساءل الكاتب فريدريك لوميتر في سياق تعليقه على زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إلى الصين، قائلاً: «هل كان المستشار الألماني شولتس يملك الخيار حقاً من أجل عدم الذهاب إلى الصين؟»، مؤكداً في مقاله أن الانتقادات التي وجِّهت لشولتس على هذه الزيارة تتناسى أن الصين تمثل القوة الاقتصادية الثانية في العالم وتعتبر بكل بساطة غير قابلة للتجاهل أو للتجاوز. وكانت زيارة المستشار الألماني إلى بكين فرصة للرئيس الصيني لمخاطبة ضيفه ومن خلاله كل القوى الأوروبية بالقول: «إن تدمير الثقة السياسية المتبادلة أمر سهل، ولكن إعادة بنائها أمر صعب»، وهو ما اعتبرته أطراف سياسية غربية بمثابة تحذير لشولتس ولبقية القوى الغربية من مغبة الانجرار وراء رغبة واشنطن في تصعيد مواجهتها مع الصين خدمة لأجندتها الخاصة.
وعلاوة على الحاجة الملحة للجانب الأوروبي للصين، فإن الحاجة الصينية للسوق وللتكنولوجيا الأوروبية تظل هي الأخرى ملحة بالنسبة لبكين، خاصة أن هناك استثمارات أوروبية ضخمة في الصين، ولا يمكن للاقتصاد الصيني أن يتخلى عن شراكته الصناعية مع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها من دول غرب أوروبا التي تمتلك اقتصادات قوية وذات تنافسية عالية. لذلك فإن بكين تسعى بشكل مستمر إلى استمالة الطرف الأوروبي، حيث دعا السفير الصيني في باريس مؤخراً الرئيس الفرنسي إلى زيارة الصين في سنة 2023، كما دعا السفير الصيني إلى تخفيض القيود على الاستثمار في الصين، وأكد أن العلاقات بين البلدين لا يجب أن يتدخل فيها طرف ثالث، وأن هناك ثقة كاملة بشأن آفاق العلاقات بين الدولتين.
ونستطيع القول في الأخير إن واقع العلاقات بين الصين وأوروبا يشير إلى أن العواصم الكبرى للقارة وبعد أن أضاعت مصالحها مع روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، فإنها لا تريد أن تتحمل وزر الصراع المفتوح بين واشنطن وبكين في ما يخص قضايا جيوسياسية لا تعنيها بشكل مباشر وتتعلق بالهيمنة أكثر مما تتعلق بمسألة تغيير النظام العالمي السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.