طالب عبد العزيز*
كنت في عقود سابقة قد تعرضت كثيراً لمضايقات البعثيين ورجال الأمن، بسبب انتمائي لحزب آخر، مضايقات شبه يومية، في البيت، وفي الحرب بعد سوقي لخدمة الاحتياط، وقبل ذلك في الدائرة، حيث كنت، وكان من السهل على بعضهم قتلي، فالأسباب متاحة كثيرة، وأنا متاح مطلق لهم أيضاً، لكنني كنت أتفادى موتي بالهرب مرة وبالصمت والمراوغة مرة أخرى، ولا أخفي أمراً، فقد قبلت بحلولهم وانحنيت لهم في أكثر من مرة. ما الذي يفعله واحد مثلي أمام ثلاث أو أربع مؤسسات أمنية، ويسكن قرية نائية أقصى الجنوب، ولا يملك طاقية إخفاء ولا تعويذة ضد الشر؟
كان شعاري في المرحلة تلك: أنَّ رأسي أثمن من رؤوسهم جميعاً. وأنني ادّخر حياتي لأيام جميلة قادمة، وأنني مفيد في مكان وزمن ما. كنت أعتقد بأن أكثر من بلبل على سعفة، هناك ينتظرني، أحبّه مغرداً ويحّبني مُصْغياً. بقيت بذاك الذّل، وما أصبرني عليه، حتى أنَّ أحد أبناء عمّي، وكان صغيراً آنذاك، جاءني ذات مرة، ليقول لي: بأن( فلان الفلاني) وهو بعثيٌّ ورجل أمن، يطلبني لأمر ما، كنت عائداً من دائرة الأمن قبل يومين، حزيناً، ومحبطاً. كان فلان الفلاني هذا، من أسوأ خلق الله، وأحطّهم شأناً، وهو بتعبير العامة(ما يسوه فلسين) ولأنني أعرف ما يضمره لي، فقد قلت له ليدخل، ومثل من لا يملك حولاً ولا قوةً، أمضيت له على ورقتين: استمارة الانتماء الى الصف الوطني وقرار 200 المشؤوم.
قد تصحُّ عليَّ مفردات مثل خضوع ومهانة ومذلة، نعم، هي كذلك. لكنني، لن أسميها جبناً، ولن أخوض مع أحد في حديث البطولة، لقد مضى زمن البطولات الفردية، التي غيرت مجرى التاريخ، إذ، لم تُسقط مشنقة فهد حكومة نوري السعيد، ولم يسقط إعدام محمد الصدر دولة صدام حسين، وفي التاريخ حوادث وشواهد كثيرة، لن أسوقها لأجل أحباط عزيمة أحد من الشباب، لكنْ ما أريده هوأنني، ومعي الملايين من ابناء الشعب، وبعد سنوات من الحكم الفاسد، والديمقراطية الكاذبة، وتراجع الحياة في مفاصلها كلها، ما عدنا قادرين على فعل شيء، فالذين يمسكون بالسلطة يمتلكون آليات البقاء والاستمرار كلها.
أنا محتجٌّ، نعم، ومثل عامة أبناء الشعب على الاداء الحكومي السيئ، ومعنا المرجعية الدينية، والشرفاء من الوطنيين، والنخب المثقفة ومئات الخطباء وأئمة المساجد، وقد جابت الشوارع التظاهرات العارمة، تطالب بإسقاط الحكومة، وبتغيير المسار الخاطئ، لكن شيئاً لم يحدث. لذا، أجد أنه من الحُمق إعتماد الآلية القديمة في التصدي للأنظمة هذه. لم تسقط نظام صدام حسين حناجر الملايين التي كانت تدعو عليه في الجهر والسر، وعادت خائبة أصوات النساء الثكالى، ولم تسقطه هتافات الملايين في الخارج، ولم توقف الحرب مع إيران جثث مئات الآلاف من الشهداء والضحايا، فلا إرادة إلهية في الأمر. رجال الأحزاب الحاكمة يملكون البنادق والأسباب كلها، ولن تنفعني يافطة ما، أيّ يافطة، إن شهر أحدُهم مسدسه في وجهي. الانسان العراقي مخذول في العالم الوسخ هذا.
*شاعر وكاتب عراقي والمقال عن “المدى”
LEAVE A COMMENT