مع انتهاء الهدنة الأساس وتمديدها بيومين، وبعكس ما كان في الماضي من إجماع على الحرب دون توقف، تتزايد النقاشات داخل إسرائيل حول مستقبلها.
وطبقاً لصحيفة “هآرتس”، يبدو أن الإسرائيليين منقسمون حيال السؤال حول مواصلة المعركة أم صفقة تتضمن هدنة طويلة.
اليوم، بعد سبعة أسابيع من القتال، إسرائيل و”حماس” معنيّتان، كلٌّ لحساباته، بتمديد الهدنة. فالأولى تريد استعادة ما أمكن من المحتجزين، نتيجة ضغوط داخلية، ولاعتبارات حصانة ومناعة الإسرائيليين، وترميم ثقتهم بالنفس وبالدولة وبالغد، علاوة على الرغبة بالاستراحة، وهذه حيوية أيضاً للثانية، الراغبة بمنح ذاتها، والغزيين، فرصة لالتقاط الأنفاس ووقف الحرب الآن، بعدما نجح من جانبها مخطط السابع من أكتوبر، ودون أن تتحقق الغايات المعلنة منها إسرائيلياً.
كشفت صحيفة “هآرتس”، في الأيام الأخيرة، عن إنذارات وصلت القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، ولم يصغ أحد لها
لكن في اليوم الثاني والخمسين للحرب، وفي ظل تساؤلات متزايدة عن مصير الرجال والعسكريين المحتجزين في غزة، يتزايد النقاش في إسرائيل حول ما هو أبعد وأكبر من الهدنة، حول مستقبل هذه الحرب، وكذلك اليوم التالي لها، مع استمرار الحرب النفسية ونشر الضباب حولها. علاوة على المخاوف من الجبهة الشمالية، ومن الخسائر الاقتصادية المقدرة بـ 10% من الناتج القومي الإسرائيلي، تطرح تساؤلات عن مدى استمرار الدعم الأمريكي (مع التقليل من أهمية الموقف الأوروبي حتى الآن) وعن تبعات حملة عسكرية في جنوب القطاع عل الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
بين المعلن وغير المعلن
رسمياً، وعلانية، تقول إسرائيل، على لسان ساستها وناطقيها العسكريين، إن الهدن المتتالية لن توقف الحرب حتى تحقيق أهدافها بانتزاع القدرات العسكرية والسلطوية لحركة “حماس”: استعادة كل المحتجزين، ومنع بناء تهديد أمني جديد في غزة.
بيد أن تقارير وتسريبات وتلميحات إسرائيلية تكشف عن انقسام داخل حكومة الاحتلال حول السؤال “صفقة أم قتال؟”، كما يوضح المعلق السياسي الإسرائيلي البارز ناحوم بارنياع، اليوم، إذ يقول إن الأيام الأربعة الأولى من صفقة وقف النار تدلّل على أن الاتفاق يعمل رغم “حرب الأعصاب”، وإن السؤال هو ما هي المرحلة التالية؛ مواصلة الإفراج عن المخطوفين أم استئناف النار.
ويكشف بارنياع، في تحليل تنشره “يديعوت أحرونوت” اليوم، أن هناك نقاشاً حول هذا السؤال ينتصف المجلس الوزاري الأمني- السياسي المصغر، وأن الصراع، في الأيام القادمة، سيكون بين توجّهين متناقضين؛ الأول يقوده قسم من الوزراء ويؤيد الاستمرار في الصفقات طمعاً بتحرير من أمكن من المحتجزين، والثاني يقوده وزير الأمن وقيادة الجيش الساعية لتجديد القتال. بينما نتنياهو يعلن مواقف متناقضة في هذا الموضوع. يشار هنا إلى أن محلل الشؤون العسكرية في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل كان قد زعم عكس ذلك، أمس، بقوله إنه بعكس الانطباع الذي خلّفته بعض التصريحات، لا يتملك الجيش الإسرائيلي أي شعور بالعجلة لمواصلة العملية البرية على الفور، فأولاً، يتحدث الاتفاق الذي توصلت إليه الحكومة عن فترة أقصاها أسبوع إضافي، قبل العودة إلى القتال، في حال كان من الممكن أن تتم، خلالها، استعادة مخطوفين إضافيين، وثانياً، ورغم المخاطر المرتبطة بتأجيل الاستمرار في العملية البرية (والمتمثلة في إعادة حركة “حماس” إلى تنظيم صفوفها، وتسليح قواتها وتذخيرها، وإجراء تغييرات على استعداداتها العسكرية)، فإن الجيش يحتاج إلى وقت لإعادة تنشيط قواته وتحضيرها للمرحلة المقبلة”.
معضلة إسرائيلية
وبعد إشارته لالتزام “حماس” بالاتفاق، يتطرق بارنياع للمزاعم الإسرائيلية، التي قيلت منذ بداية الحرب، بأن التوغل البري يخدم الهدفين؛ تدمير “حماس” واستعادة المخطوفين، فيقول:
“ربما كانوا محقّين، وربما لا. الآن، وفيما يتم تطبيق الصفقة وفقاً للاتفاق، فإن هذه المزاعم باتت غير ذات صلة. على الكابينيت أن يقرر ما هي المرحلة التالية؛ مواصلة الإفراج عن مخطوفين أم تجديد النار. القرار ليس سهلاً، لكن الحد الأدنى المطلوب من القيادة السياسية والعسكرية هو قول الحقيقة للإسرائيليين: هل يعودون لوضع القتال على رأس الأجندة، كما كان في الأسابيع الأخيرة، أم مواصلة تثبيت “إطلاق المخطوفين” في الصدارة، كما اعتادوا القول هذا الأسبوع. للأسف القيادة تمتنع عن طرح المعضلة كما هي أمام الإسرائيليين. الحرب ضد “حماس” في مركز القطاع وجنوبه مختلفة عن القتال في الشمال وفي مدينة غزة، في ظل وجود مليوني إنسان يعيشون اليوم في الشوارع، ومن الصعب تسوية مدن كاملة بالأرض بقصف جوي وبري. والقتال داخل مناطق سكنية صعب، وتترتب عليه خسائر بشرية للطرفين تثقل على إسرائيل في العالم”.
الواقع أقل ازدهاراً
ويؤكد بارنياع أن واقع الحال على الأرض أقل ازدهاراً مما كان الإسرائيليون يرغبون: مرّ 52 يوماً، وما زالت “حماس” تسيطر على بعض المناطق في شمال القطاع، والمكان الذي أفرجت فيه “حماس” عن المحتجزين علانية في شمال القطاع يدلّل على ذلك.
الكشف عن قيام إسرائيل باتصالات مع واشنطن والأمم المتحدة ومع منظمات دولية لبناء مدينة خيام على ساحل غزة
ويضيف بارنياع، حول سيناريو مستقبلي محتمل: “وفق فهمي، الحرب في مركز وجنوب القطاع ستكون انتقائية ومحددة، ويمكن البدء فيها بعد أسبوعين أو بعد ثلاثة أسابيع. حالياً تتواصل استعادة المخطوفين، ولا أحد يستطيع أن يضمن ألا تسوء ظروف الاحتجاز داخل غزة، ولذا المسؤولية تقتضي استعادة من هو متوفر، مع كل الثمن المنوط بذلك، فهذا ما تستطيع دولة تقديمه لمواطنين قد أهملتهم”.
خلط حسابات الماضي والحاضر
ويوصي بارنياع بخفض سقف التوقعات، ويقول إنه “بدلاً من الخروج يومياً بتصريحات “مطنطنة” حول تدمير “حماس” يفضّل خفض اللهجة، لأنها لا تُدخِل الإسرائيليين فحسب في بلبلة، بل الأمريكيين والمصريين والقطريين أيضاً، الذين نحتاجهم للوساطة، فالمصداقية حيوية في المفاوضات”.
وعلى غرار معلقين آخرين، أمثال هارئيل في “هآرتس”، يعتبر بارنياع أن “وقف النار مهم لـ “حماس”، لكنه مفيد للجيش الإسرائيلي أيضاً، من ناحية تصحيح الأخطاء، وتعبئة الناقص”.
ويضيف: “وقف النار يتيح لنا البحث في أسئلة ترافقنا منذ السابع من أكتوبر، خاصة سؤال اليوم التالي. وهناك شك كبير إذا كانت هذه الحكومة قادرة على اتخاذ قرار حول الواقع المراد في غزة بعدما يستقر الوضع فيها”.
وعلى غرار مراقبين آخرين، يرى بارنياع أيضاً أن وقف النار يتيح للإسرائيليين فرصة للبحث بعقل صاف في سؤال الأخطاء والإخفاقات التي قادت للسابع من أكتوبر، خاصة في أن ما كشفت عنه صحيفة “هآرتس”، في الأيام الأخيرة، عن إنذارات وصلت القيادة العسكرية والسياسية، ولم يصغ أحد لها هو كشف مرعب”.
لافتاً لـ “وجود جهات إسرائيلية تحاول اليوم التأجيل قدر الإمكان بهذين الموضوعين: تصور خاص بمستقبل غزة، علاوة والمسؤولون عن الفشل الذريع. من المحظور الخضوع لهذه الجهات لسبب بسيط: كل قرار يتخذ اليوم حول غزة ينبغي أن يأخذ بالحسبان المستقبل. في العالم يفهمون ذلك، وفي إسرائيل يتجاهلون”.
وينضم بارنياع لمراقبين إسرائيليين يخشون خلط الحسابات لدى القيادة الإسرائيلية، ويقول إنه يرجو أن لا تؤثر رغبتها بالتكفير عن الفشل في الماضي على قراراتها في الحاضر.
انقسام في صفوف الإسرائيليين
من جهته، يوضح المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” أن تلعثم إسرائيل حول خيار شن حملة جديدة على جنوب القطاع ينتج توتراً بينها وبين الرئيس الأمريكي بايدن. موضحاً أن عدم وجود أجوبة واضحة لدى إسرائيل حول التبعات الإنسانية لحملة عسكرية في جنوب القطاع يزيد من التوتر بينها وبين الولايات المتحدة. ويشير للضغوط الإسرائيلية الداخلية بالقول إن نتنياهو وعد حزب “الصهيونية الدينية”، بعدم تمديد الهدنة لأكثر من عشرة أيام، مرجحاً أن يزداد التوتر أيضاً في صفوف الإسرائيليين أنفسهم، بين من يدعو للبحث عن كل فرصة لاستعادة ممكنة لمحتجزين، ومن يحذر من فقدان الدافعية للاستمرار بالمعركة، وبالتالي مساعدة “حماس” على البقاء في الحكم.
ويكشف هارئيل أيضاً عن استطلاعات تجري الآن، تظهر انقساماً في صفوف الإسرائيليين. ويقول إنه رغم الفرحة هناك إسرائيليون كثر يشددون على الحاجة بتجديد الحملة الهجومية، زاعماً أن “الحرب النفسية” التي تخوضها “حماس” من شأنها زيادة الدعم لحملة برية أشد.
هارئيل، الذي سبق أن حذر منذ البدايات من صعوبة تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، يوضح، اليوم، أن إسرائيل تريد معاينة حملة عسكرية على جنوب القطاع، خاصة خان يونس، للمساس بقدرات “حماس” وقيادتها، لكن المشكلة التي تواجهها وجود كمية كبيرة من المدنيين ما يعيق القصف الجوي. ويكشف عن قيام إسرائيل باتصالات مع واشنطن والأمم المتحدة ومع منظمات دولية عالمية لبناء مدينة خيام على ساحل غزة، ويشير مجدداً لدور التلعثم الإسرائيلي حول التأثيرات الإنسانية المحتملة لحملة عسكرية على جنوب القطاع في زيادة التوتر مع أمريكا.
ويضيف: “سبق أن قال بايدن إن قادة عرب يتمنون إسقاط “حماس”، ويواصل دعمه لإسرائيل، لكن الأمريكيين قلقون من عدة خطوات إسرائيلية: التصميم على حملة عسكرية جديدة في الجنوب، ومن اعتداءات المستوطنين داخل الضفة، ومن تهديدات بعض الوزراء بفتح حرب في الشمال، علاوة على رفض إسرائيل تداول سؤال اليوم التالي”.
ويؤكد أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تفحص بشكل أولي خططاً خاصة بمستقبل القطاع، منها دعم خليجي ومصري لبناء القطاع مجدداً، مع قيادة جديدة، منوهاً بأن نتنياهو يخشى ذلك، ويتوجس من احتمال استغلال واشنطن والرياض الحرب لطرح مشروع تسوية الدولتين.
ويتابع: “حكومة نتنياهو ترفض الفكرة، ومن جهة أخرى إسرائيل بحاجة لاستمرار دعم واشنطن الراغبة بالبحث بقضايا تهمها هي أيضاً”.
إسرائيليون: ما سيتمخض عن هذه الحرب هو بالأساس انتقام وكلام متعجرف وصفقة كان بالإمكان تحقيق أفضل منها منذ زمن
طاقة الانتقام
وإزاء استمرار عملية التبادل، وتمديد أمد الهدنة، يزداد النقاش داخل إسرائيل بين من يحذر من تبعات وقف الحرب الآن على هيبتها وقوة ردعها بعيون أعدائها وثقة مواطنيها فيها، ومن يريد استنفاد كل فرصة لاستعادة المخطوفين، كهدف مركزي للحرب، مع بعض الأصوات القليلة المطالبة بإنهائها.
في مقال نشرته صحيفة “هآرتس”، قال أستاذ الحقوق البروفيسور الإسرائيلي يديدياه، أمس، إن افتداء الإسرائيلى قيمة كبيرة جداً، لكن صفقات التبادل غلطة لأنها تخدم عدداً من المواطنين وتضحي بمصالح الأمن القومي.
ومن جهته، عبّر المحلل السياسي للإذاعة العبرية عن تحفّظه “من ثمن الهدنات بالقول إنه سيكون من الصعب الحفاظ على الجاهزية النفسية، وعلى الطاقة التي تدفعنا نحو المزيد من القتال، والكامنة بشعور الكراهية والحقد والانتقام مما فعلته “حماس” من فظائع في السابع من أكتوبر”.
ويحذّر المحاضر في دراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب دكتور ميخائيل ميليشتاين، الخبير بالشؤون الفلسطينية، من أن يبادر يحيى سنوار لمهاجمة إسرائيل أولاً، ويباغتها من جديد، بحال اقتنع هو أن احتمالات العودة للقتال أكبر من وقف النار، مرجحاً أن “حماس” أيضاً تستغل الهدنة الآن لاستعدادات عسكرية.
في حديث للإذاعة العبرية العامة، دعا ميليشتاين إسرائيل للاحتفاظ بالمبادرة، والبقاء يقظة، رغم أن “حماس” معنية بوقف النار.
وتابع: “لا أعتقد أن سنوار متفاجئ من رد الفعل العسكري الإسرائيلي، وهو صاحب رؤية أيديولوجية، وهو ينظر للحياة بمنظار تاريخي ديني، ولكنه يرغب بوقف إطلاق نار طويل الأمد. هو ليس مجنوناً ولا مختلاً نفسياً، كما يقول معلّقون إسرائيليون”.
في المقابل، يتهم السينمائي، والمعلق الإسرائيلي بيت ميخائيل إسرائيل بارتكاب فظائع في غزة، على غرار ما ارتكبته “حماس”، في السابع من أكتوبر. ويقول، في مقال نشرته “هآرتس” اليوم، إن هذه هي حرب الأنا التي شنتها إسرائيل بدافع الشعور بالإهانة وحسابات “الإيغو”، وليس حسابات المنطق والعقل.
ويؤكد بيت ميخائيل أن “هناك نتيجتين مؤكدتين لهذه الحرب: وصمة عار سوداء في جبين إسرائيل، بعد عملية تدمير غبية في غزة انضمت فيها لـ “حماس” في قمة الشر، ونقل الانتقادات العالمية لإسرائيل. والنتيجة الثانية: خراب غزة سيكون موديلاً يقتدى به بالنسبة للمستوطنين الراغبين بتهجير فلسطينيي الضفة والداخل”.