أثبتت الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة العربية خلال الأسابيع الماضية حقيقة ودوافع السياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وأعطت صورها الواقعية في الاحتفاظ بمكاسبها وأدواتها وتوسيع دائرة تأثيرها الإقليمي معتمدة منهج واقعي في العمل بإتجاه تعزيز وجودها وتحقيق مصالحها وتنفيذ مشروعها السياسي التوسعي، وبرزت ملامح هذه السياسة مع حزب الله اللبناني وموقفه من الأحداث التي جرت فجر يوم السابع من تشرين الأول 2023 في غلاف غزة وما تلاها من مواقف أعلنها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، جاءت مطابقة مع النظرة الإيرانية والثوابت الميدانية التي اعتمدها المرشد الأعلى علي خامنئي في أحاديثه التي أشار فيها إلى عدم معرفته نظامه بالعملية العسكرية لمقاتلي حركة حماس وموعد التنفيذ ولكنه أكد الدعم الإيراني لها والوقوف إلى جانبها.
ابتعد حزب الله اللبناني عن القيام بعمليات تعرضية وهجمات فاعلة تجاه الكيان الإسرائيلي واعتمد العمليات الفردية والمتباعدة التي لم تسفر عن إصابات بليغة او أحداث خلل في الجبهة الشمالية لإسرائيل، وهذا يتوافق مع الرؤية الإيرانية في عدم المشاركة الفعلية وتوسيع نطاق المواجهة وحصرها في قطاع غزة.
ان النظرة العسكرية الميدانية لعموم المواجهات التي حصلت على الجبهة الشمالية لإسرائيل إنما هي عبارة عن مضايقات مقبولة وهجمات غير مميتة بالنسبة للجيش الإسرائيلي ويعتبرها حالة طبيعية ولهذا فإنها لم تصل الى مستوى الرد العسكري المميت وإنما اكتفت ببعض الصواريخ والطائرات المسيرة تجاه معاقل ومقرات حزب الله في لبنان.
اعتمد النظام الإيراني سياسة دفع الحروب خارج نطاق حدوده وشكل مجاميع وفصائل ومليشيات قتالية في عدد من عواصم الاقطار العربية ومنها حزب الله اللبناني واستمر بدعمه وإسناده بالاموال والمعدات والصواريخ والأسلحة المضادة للطائرات والسفن، وخاض مقاتلي الحزب عدة مواجهات مع القوات الإسرائيلية عامي (2000_ 2006 ) بأسلحة إيرانية، والتي جاءت بعد عديد من المتغيرات في منطقة الشرق الأوسط باسقاط حركة طالبان في أفغانستان من قبل الجيش الأمريكي سنة 2001 ثم قيام الولايات المتحدة الأمريكية بغزو واحتلال العراق سنة 2003 وتلاها الانسحاب السوري من لبنان سنة 2005، وكان الموقف العربي الرسمي بعيداً عن هذه الأحداث والتفاعل معها مما أدى إلى تعزيز مكانة النظام الأيراني الذي استغل هذه الظروف السياسية وطرح نفسه مناصراً للقضية الفلسطينية وقوة إقليمية مؤثرة في المنطقة وجعل حزب الله اللبناني في واجهة الصراع مع إسرائيل وأداة ضغط سياسي في علاقة إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما وسعت إيران من دعمها الاعلامي والتثقيفي الذي يتماشى ومشروعها السياسي ونفوذها الإقليمي بإنشاء قناة المنار بأموال إيرانية وعبر مؤسسات حكومية اعلامية تابعة للنظام الإيراني، وهذا ما أكده حسن نصر الله سنة 2016 بقوله ( نحن ليس لدينا مشاريع تجارية وليس لدينا مؤسسات استثمارية تعمل من خلال البنوك، نحن وعلى المكشوف وعلى رأس السطح نقول، موازنة حزب الله ومعاشاته ومصارفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية الإيرانية).
جاءت أحداث غزة لتثبت حقيقة وموقف حزب الله الذي كان مطابقاً للرؤية الإيرانية في تبرئة طهران من الضلوع في العملية العسكرية التي شنها مقاتلي حماس والمطالبة بمقاطعةاسرائيل وقطع إمداد النفط عنها وهي نفس المطالب التي دعى إليها المرشد علي خامنئي وأعادها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في كلمته اثناء مؤتمر القمة العربية الإسلامية في الرياض بتاريخ الحادي عشر من تشرين ثاني 2023.
ان سياسة النظام الإيراني بالاحتفاظ بقوة ومكانة حزب الله يتأتى من حماية الأمن القومي الإيراني وتوسيع دائرة نفوذه السياسي في المنطقة العربية، ويرى أن قيام مقاتلي حزب الله بأي عملية هجومية ضد إسرائيل ستضعف قوته وقدرته على مواجهة النتائج التي تتمخص عنها هذه المواجهة والتي من الممكن أن تساهم في ضعف تعامله على الجبهة الداخلية اللبنانية ومواجهة المعارضين له وخسارته بعض المناطق التي يسيطر عليها داخل لبنان، وهو بذلك لا يستطيع القتال عبر جبهتين، والمصلحة الإيرانية تقتضي ان تستمر الهيمنة والسيطرة لحزب الله على المشهد السياسي اللبناني واعتبرها أولوية في حساباتها، فإيران ترى أن يبقى الحزب في حالة دفاعية بمواجهة إسرائيل ويبتعد عن الهجوم المباشر وان لا تتم اي مواجهة الا بعلم وموافقة النظام الإيراني وان تتوافق ومصالحه الميدانية بعيداً ان آمال وطموحات الشعب الفلسطيني او الادعاء الإيراني بتحرير القدس الشريف، كما وان إيران تسعى للاحتفاظ بقوة مقاتلي حزب الله الذي أصبح قوة سياسية فعالة ولديه مقاعد نيابية وقدرة قتالية بمعدات متقدمة متطورة فاقت الجيش اللبناني مع وجود برامج إجتماعية وقنوات فضائية وأنشطة إعلامية تساند حركته وتوجهاته التي تخدم المشروع الإيراني.
يسعى حزب الله الحليف الاستراتيجي للنظام الإيراني الى حالة من التوازن بين القوى الإقليمية معتبر نفسه أحد أدوات الردع الإيراني في مواجهة أي ضربات عسكرية قد تحدث ضد إيران ومنشأتها النووية ومواقعها العسكرية، وهو ضمن الرؤية الإستراتيجية الإيرانية الذي تعتبره حالة من الدفاع المتقدم في توظيف أدواتها ووكلائها في دول عربية هي محل اهتمامها ومحطة رئيسية مهمة في نقل الأسلحة وإنشاء المعسكرات التدريبية والتعاون الأمني بين المليشيات العراقية واليمنية ومساعد ميداني لتنفيذ توجيهات الحرس الثوري الإيراني وأحد المفاصل المهمة في استراتيجية وحدة الساحات.
تحتاج هذه الأهداف الإيرانية إلى دعم لحليفها الرئيسي حزب الله بأخر التقنيات العسكرية حيث قام النظام الإيراني بتزويد الحزب بمنظومة (15) خرداد للدفاع الجوي ذات الصواريخ المتوسطة وطويلة المدى والتي تستطيع الاشتباك مع ستة أهداف بحجم الطائرات الحربية في وقت واحد وبمدى 120 كم، وقامت بتدريب مليشياته عليها في منطقة دير الزور بالأراضي السورية، كما يمتلك الحزب منظومة ستريلا 3 للدفاع الجوي ومنظومة ميثاق الإيرانية وهي نسخة من الصاروخ الصيني( k w1) وصواريخ كروز طراز 358 وهي تقع ضمن الهدف الاستراتيجي للنظام الإيراني في انشاء محور إقليمي دفاعي هجومي جوي لتهريب الأسلحة من العراق عبر سوريا وصولا للبنان، تنفيذاً لتوجيهات للمرشد الأعلى خامنئي الذي أصدر مرسوماً بإنشاء قوة دفاع جوي بأهمية برنامج الصواريخ البالستية لتكون بمسؤولية الحرس الثوري الإيراني وتحتوي على انواع من الرادارات وعقد الاتصالات وبطاريات الصواريخ ذات المدى المختلط.
ان أهمية وجود حزب الله اللبناني في استراتيجية وأهداف النظام الإيراني انها تبعده عن أي مواجهة حقيقة مع إسرائيل خشية الإجراءات الأمريكية المستقبلية ضده وللحفاظ عليه كقوة إقليمية مهمة تساهم في حماية وتمد المشروع الإيراني في الوطن العربي.