الحرب على غزة اذ تذكرنا بحرب العام 1982

الحرب على غزة اذ تذكرنا بحرب العام 1982

بكر صدقي

 

قام الجيش الإسرائيلي باجتياح الأراضي اللبنانية في 6 حزيران عام 1982 متذرعاً بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، قبلها بيومين، من قبل مجموعة فلسطينية معارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية يقودها أبو نضال (صبري البنا) الممول من أجهزة المخابرات العراقية.

وكان آرييل شارون وزيراً للدفاع في حكومة تجمع الليكود برئاسة مناحيم بيغن، هو المخطط لتلك الحرب المدمرة التي قلبت التوازنات في المنطقة رأساً على عقب.

وفي البداية زعم شارون أمام الحكومة المصغرة أنه يريد طرد قوات المقاومة الفلسطينية بعيداً عن الحدود الإسرائيلية بعمق 40 كيلومتراً، وهو المدى الذي تبلغه القذائف المدفعية الفلسطينية، لحماية شمال إسرائيل منها، ولذلك سميت العملية «السلام للجليل». غير أن هدف شارون الحقيقي، كما ستؤكد المجريات اللاحقة، كان القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك اغتيال ياسر عرفات وتدمير المقر المركزي للمنظمة في بيروت.

 

تمكن الجيش الإسرائيلي من التقدم بسرعة في اتجاه العاصمة اللبنانية، وفشلت قوات المقاومة الفلسطينية في الجنوب من وقف هذا التقدم، وفي شهر تموز استطاع فرض حصار تام على بيروت استمر طوال أشهر الصيف الثلاثة، واحتل ما كان يسمى في ذلك الزمن بيروت الغربية، وفرض طوقاً على مقر منظمة التحرير الفلسطينية. واضطرت القوات السورية الموجودة في مناطق مختلفة من لبنان بصفة «قوات الردع العربية» للدخول في اشتباكات موضعية مع القوات الإسرائيلية، وأسقطت إسرائيل 80 طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو السوري.

 

أصدر مجلس الأمن الدولي، في غضون ذلك، عشرة قرارات فشلت في وقف الزحف الإسرائيلي، أولها قبل بداية الاجتياح بيوم واحد، والثاني في اليوم نفسه، وتتابعت تلك القرارات، وكان بعضها يصدر في يومين متتاليين، عجزت جميعاً عن إنهاء الحرب. وقام المبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان فيليب حبيب بلعب الدور الدبلوماسي الأبرز من أجل الوصول إلى وقف إطلاق النار، بين إسرائيل وسوريا أولاً، وإسرائيل ومنظمة التحرير ثانياً. القصد من هذه الإشارة هو للإشارة بالمقابل إلى غياب أي دور فاعل للاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل القطب المقابل لواشنطن في الحرب الباردة، لأنه كان غارقاً في مشكلات داخلية ستظهر للعلن بعد وفاة بريجنيف في خريف العام نفسه. وللقول أيضاُ أن العلاقة التحالفية لواشنطن مع إسرائيل لم تجعل الأولى منحازة بشكل أعمى لهذا الحليف، بل لعبت دور الوسيط بين الأطراف، بصرف النظر عن وصف هذه الوساطة من قبل الرأي العام العربي بأنه غير عادل، أي منحاز. فقد جاءت النتائج بما يعكس موازين القوى المختلة بصورة كاسحة لمصلحة إسرائيل، فتم التوافق على خروج القوات السورية من الحرب، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية بقادتها وقسم من مقاتليها من لبنان، شرطاً لوقف الحرب من قبل إسرائيل، ثم انسحابها في شهر أيلول.

 

وكان من نتائج تلك الحرب التي قتل فيها آلاف الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين ومقاتلين من جنسيات أخرى كانت تقاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية، انتخاب قائد القوات اللبنانية بشير الجميّل رئيساً للجمهورية، ثم اغتياله بعد أيام قليلة، ومجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا رداً على الاغتيال، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية التي نقلت مقرها إلى تونس، وبداية ظهور حزب الله اللبناني الذي سيملأ فراغ القوة في جنوب لبنان، بعدما قام بطرد المقاومة اللبنانية (اليسارية) ليستفرد بساحة «المقاومة» ودورها. وكان تخاذل نظام الأسد، في تلك الحرب، قد هيأ الأرض لتحل إيران محله في الدور القيادي للمحور الإقليمي في مواجهة إسرائيل، بواسطة حسن نصر الله وحزبه.

 

وقاد عرفات مرحلة جديدة من الكفاح الفلسطيني من الشتات البعيد، إلى حين اندلاع الانتفاضة السلمية في الضفة الغربية التي سميت بانتفاضة الحجارة، في العام 1987، أدت إلى عودة المنظمة، لا إلى لبنان بل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسها، بموازاة اتساع الاعتراف بها كممثلة شرعية لقضية الشعب الفلسطيني، من قبل عدد متزايد من دول العالم، بصورة مطّردة مع تخليها المتدرج عن أهداف الحد الأقصى المتمثلة في تحرير فلسطين وإقامة الدولة المستقلة على كامل أراضيها، وصولاً إلى مؤتمر مدريد للسلام (1991) ثم اتفاق أوسلو الذي أدى إلى قيام سلطة فلسطينية منقوصة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة (1993).

 

بالمقابل صعد اليمين الإسرائيلي الأكثر تشدداً تجاه حقوق الشعب الفلسطيني باطراد، وصولاً إلى أن بنيامين نتنياهو نفسه بات اليوم يعتبر «معتدلاً» بالقياس إلى التيارات الأكثر تطرفاً، وبعضها ممثل في حكومته.

 

عربياً، ربما من تكرار القول إنه الوضع الأكثر انحداراً في تاريخ العرب الحديث، إلى درجة أن «الممانعة» الرئيسية في وجه مشروع تهجير الفلسطينيين الذي ثمة مؤشرات كثيرة لوجوده في خلفية الحرب الراهنة لدى دوائر الحكم في إسرائيل، تتمثل في دولتين تربطهما بإسرائيل معاهدتا سلام، إضافة إلى أربع دول عربية أخرى في إطار «اتفاقات أبراهام». ومع خطاب حسن نصر الله، قبل أيام، اكتملت جميع المعطيات حول نأي المحور الإيراني بنفسه عن الحرب الراهنة، تماماً كنأي نظام حافظ الأسد بنفسه عن حرب 1982، بعد اتفاقه مع المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، تاركاً منظمة التحرير لمصيرها، ومسهّلاً موافقة قيادتها على الخروج من لبنان.

 

دولياً، تبدو الفروقات أكبر بعدا بين الأمس واليوم. فقد بلغ الانحياز الأمريكي ـ الغربي إلى إسرائيل مبلغاً لم تحلم به إسرائيل منذ نشوئها، وغاب القطب المقابل تماماً عن المشهد، واختفى أي دور لمجلس الأمن حتى في إقرار هدنة «إنسانية» مؤقتة.

 

وإذا كانت منظمة التحرير قد استطاعت، بعد 82، أن تنطلق من جديد في مسار سياسي مختلف، فما الذي يمكن لحركة حماس أن تفعله إذا حدث وفرضت واشنطن تسوية مؤقتة تضمنت خروج الحركة من قطاع غزة، مقابل وقف المقتلة، وهل تجد دولة تقبل بإيواء كوادرها ومقاتليها؟ وماذا يكون مصير غزة وسكانها بعد تسوية من هذا النوع؟ من المحتمل أن هذه هي بعض الأسئلة والاقتراحات التي يدور بها أنطوني بلينكن على عواصم المنطقة.

Related Posts