الحرب الاسرائيلية والدوران في حلقة مفرغة

الحرب الاسرائيلية والدوران في حلقة مفرغة

سعيد الشهابي

بعد مرور شهر على بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، ما تزال صورة مستقبل المنطقة مشوشة، وليس هناك ما يشير الى سهولة حسم الحرب بالصورة التي تحاول واشنطن وتل أبيبت طرحها.

بعد الزوبعة الإعلامية والنفسية التي أثارها نظام الاحتلال والتصريحات التي أطلقها المسؤولون الغربيون خصوصا وزير الخارجية الأمريكي، بحتمية حسم الحرب بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، أصبح واضحا أن ذلك ليس خيارا وارادا في المستقبل المنظور. فبرغم إخلاء قطاع غزة من أغلب سكانه بهدف إلغائه من الوجود، واجه المحتلون خيارات صعبة أفشلت خططهم وأحدثت تشوشا في المشهد السياسي أمامهم.

ومن مستجدات المشهد ما يلي:

أولا صعوبة اجتثاث الفلسطينيين، كقضية، وشعب ومقاومة. على الأصعدة الثلاثة وجد الإسرائيليون أنفسهم عاجزين عن محو فلسطين من الخريطة السياسية برغم ما توفر لهم من دعم غربي غير محدود. بل أن الولايات المتحدة الأمريكية وضعت قواتها لخدمة أهداف «إسرائيل» وأرسلت حاملات طائراتها إلى شرق البحر المتوسط لتشارك في الحرب بجانب القوات الإسرائيلية.

ثانيا: أن قضية فلسطين التي استعصت على الاستئصال على مدى ثلاثة أرباع القرن ما تزال تفرض نفسها على العالم، ولا يستطيع مؤتمر دولي أو إقليمي إلغاءها من أجندته. فلا الأمم المتحدة تستطيع تجاوزها، ولا الاتحاد الأوروبي أو أية جهة سياسية أو قانونية.

ثالثا: أن المقاومة الفلسطينية التي بدأت منذ ما قبل قيام كيان الاحتلال، ما تزال رقما صعبا لا يستطيع أحد تجاهله. وحتى في أحلك الظروف وجد الإسرائيليون أنفسهم عاجزين عن اجتثاثها. ألم يقوموا في العام 1982 بمحاصرة بيروت ثلاثة شهور لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية؟ صحيح أن المنظمة انسحبت الى تونس، ولكنها بقيت رقما صعبا أمام أية محاولة إسرائيلية أو أمريكية لتجاوز قضية فلسطين. وبعد حوادث 7 أكتوبر أعلنت «إسرائيل» تصميمها على إبادة قوى المقاومة ودعمها الغربيون خصوصا الولايات المتحدة في ذلك.

ولم يعترض هؤلاء الغربيون عندما أعلن نتنياهو عزمه على منع الطعام والطاقة والماء عن قطاع غزة الذي يقطنه أكثر من مليوني فلسطيني. وبعد أكثر من شهر ما تزال المقاومة الفلسطينية تمارس دورها وتشتبك يوميا مع قوات الاحتلال.

ما الجديد في المشهد إذن؟ ثمة عوامل تتضافر لتشكيل المشهد السياسي المؤسس على الوضع الراهن. أولها أن الحرب التي كانت إسرائيل ستشنها على غزة لم تكن مرشحة للنجاح، وأنها كانت ستقلب الرأي العام العالمي ضد «إسرائيل» بعد أن حظيت بتعاطف نسبي بعد 7 أكتوبر.

وهذا يعني انتهاء سيناريو القضاء على المقاومة الفلسطينية. ثانيها: أن أمريكا أدركت أن تورطها عمليا في أية حرب ستكون له عواقب وخيمة خصوصا مع وجود جهات عربية وإسلامية داعمة لفلسطين، أصدرت تهديدات للولايات المتحدة باستهداف وجودها في المنطقة إن دخلت الحرب بجانب «إسرائيل».

واستعادت أمريكا مجددا ذكريات فيتنام وكذلك تجاربها المرّة في أفغانستان والصومال والعراق، فتراجع حماس البيت الأبيض للمشاركة في أي اشتباك في الشرق الأوسط، خصوصا مع وجود حكومة يمينية متطرفة في «إسرائيل» بقيادة بنيامين نتنياهو. ثالثها: أن الدول العربية التي تحمست في البداية للوقوف ضد الفلسطينيين خشيت كثيرا من تبعات مواقفها وتراجعت قليلا. بل أن بعضها، كالبحرين، وجد نفسه مرغما على النأي بالنفس عن «إسرائيل» فقامت بتجميد علاقاتها الاقتصادية مع «إسرائيل» واستدعت سفيرها وأبعدت السفير الإسرائيلي. هذا يعني أن قوى المقاومة الفلسطينية وداعميها أصبحوا قوة لا يمكن تجاهلها، وأن «إسرائيل» لم تعد تلك القوة المهيبة كما تصوروا عندما مدّوا الجسور معها وتخلّوا عن قضية فلسطين.

 

 

رابعها: إن هناك مزاجا دوليا ما يزال داعما لفلسطين، أظهرته امور ثلاثة: أولاها: إقدام عدد من الدول على قطع العلاقات مع «إسرائيل». وكان لافتا إعلان كل من تشيلي وبوليفيا وكولومبيا الأسبوع الماضي قطع علاقاتها مع تل أبيب.

وقد أحدث ذلك القرار هزة سياسية مدوّية في المنطقة التي لم يتحرك زعماء دولها لاتخاذ قرار كهذا. هذه الدول تدرك أبعاد المعركة المحتدمة، وترى فيها استهدافا لما يسمى «العالم الثالث» وليست منحصرة بالشرق الأوسط. فالوعي النضالي لدى قادة هذه الدول دفعهم لهذا الاستنتاج والمساهمة في التصدي للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي بقطع العلاقات مع «إسرائيل».

ثانيها: انتشار الاحتجاجات والتظاهرات الداعمة لفلسطين في بلدان كثيرة. صحيح أن الاحتجاجات لا تأتي بنتائج ملموسة ولا تجبر السياسيين على تغيير مواقفهم، ولكن سعة انتشارها أحدث حالة استقطاب سياسي دولي غير مسبوقة. فأغلب شعوب العالم عبّر عن موقفه بوضوح، وكان ذلك ضربة موجعة لوسائل الإعلام الغربية التي التزمت سياسة الدعم المطلق لقوات الاحتلال الإسرائيلية. وما تزال التظاهرات مستمرة وستظل كذلك طالما استمرت الحرب. ثالثا: تزايد الدعوات لوقف إطلاق النار، الذي تعتبره «إسرائيل» وداعموها «دعما لحماس».

بمعنى أن وقف الحرب مع بقاء قوى المقاومة يعتبر فشلا سياسيا ذريعا للاحتلال وداعميه.

الإسرائيليون يريدون الحرب الحالية طريقا لما يعتبرونه «الحل النهائي» الذي يؤدي لزوال المقاومة الفلسطينية، والواضح أن ذلك غير ممكن. ولكن الركود الذي بلغته الحرب أصبح مصدر قلق كبير لدى الساسة الصهاينة. واعتُبر أداء بنيامين نتنياهو كارثيا ولذلك انطلقت الدعوات له بالاستقالة.

ومع تصاعد الدعوات لوقف إطلاق النار، يتعمق شعور الدول الغربية او ما يسمى «العالم الحر» بخسارة استراتيجية كبرى، فقد وقف هذا العالم مع «إسرائيل» داعما بالمال والسلاح والإعلام، ويعتبر نفسه شريكا في المعركة، ولذلك يرفض انتهاءها بدون تحقيق اختراق عسكري وسياسي واسع. وحيث لم يتحقق ذلك، فقد تسرّبت حالة من الإحباط الى نفوس حكومات الدول الغربية، وأصبحت في موقف حرج إزاء الدعوات المتزايدة لوقف إطلاق النار. كانت هذه الدول تسعى لأن تكون هذه الحرب الحلقة الأخيرة في مسلسل الصراع من أجل الهيمنة والاستحواذ، خصوصا أنهم استطاعوا هذه المرة التأثير على مواقف بعض الدول العربية، فوقف بعضها مستهدفا المقاومة بشكل واضح، وتم تحييد البعض الآخر.

وهنا يمكن ملاحظة التغير الكبير الذي طرأ على مواقف الدول العربية، وكيف تلاشت مقولات العمل العربي المشترك، والتضامن العربي منذ أن حققت السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية اختراقا حقيقيا للمنطقة ببث مقولات التطبيع مع العدو والبحث عن سلام دائم والتصدي للتطرف والإرهاب. وفي فترة من الفترات تم ترويج مقولة أن «إيران أخطر من إسرائيل». هذه المحاولات قد تبدو فاشلة ولكنها لا تخلو من آثار على التوجه العام للسياسات العربية. ولذلك غاب الدعم العربي الحقيقي للعمل المضاد للاحتلال. وتجاوز الأمر ذلك، فانطلقت شعارات ومقولات ضد قوى المقاومة. وكان للغرب دوره في دعم هذه التوجهات بتوسيع مقولاته حول الإرهاب لتشمل تلك القوى.

وكان هذا التوجه واضحا منذ أكثر من عشرة أعوام عندما بدأ استهداف قوى المعارضة العربية خصوصا الإسلامية منها، لتبقى أنظمة الحكم في مأمن منها، لتكون أكثر استعدادا للتماهي مع المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي.

كان واضحا أن إخلاء الساحة السياسية من الأصوات الإسلامية المعارضة إنما هو تمهيد للمشروع المذكور. أليست سجون الحكومات العربية مكتظة برموز المعارضة خصوصا الإسلاميين منهم؟ هؤلاء المعتقلون يقفون عادة في الصفوف الأمامية للمعركة التاريخية الهادفة لتركيع المنطقة وتهيئة الأوضاع لاحتضان المشروع الأمريكي- الصهيوني.

حتى الآن لا يبدو ذلك المشروع ناجحا بالمستوى الذي يريده أصحابه، ولكن الجهود من أجله لن تتوقف. ولمواجهة ذلك المشروع وضمان الحفاظ على سيادة دول المنطقة، يقتضي إبقاء القضية الفلسطينية حية في النفوس وكذلك في الميادين.

ومن المؤكد أن استمرار الحرب على غزة ليس من صالح العدو الإسرائيلي وداعميه، لأن ذلك سيؤدي بشكل تدريجي إلى جهود من أجل رأب الصدع بين دول العالمين العربي والإسلامي، وسيتحول إلى حرب استنزاف لا يستطيع العدو تحمّل أعبائها.

Related Posts