فيصل القاسم
دعونا نتفق أولاً أن هذه الحرب بين إسرائيل وغزة فريدة من نوعها ولا سابق لها أبداً، فكل الحروب السابقة كانت سريعة وانتهت كسابقاتها بتدخل عربي ودولي لوقف إطلاق النار وعودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. لقد كانت قواعد الاشتباك واضحة للطرفين، ولم يحيدا عنها مطلقاً. صحيح أن المقاتلين في غزة رفعوا وتيرة الهجمات على إسرائيل قبل عملية «طوفان الأقصى» باستخدام الصواريخ العابرة لغلاف غزة واستهداف مدن ومناطق إسرائيلية، لكن تلك الاستراتيجية الجديدة ظلت، على الرغم من تطورها وجدتها، محدودة التأثير والصدى، ولا يمكن أبداً مقارنتها بما تلاها في العملية الأخيرة التي شكلت زلزالاً حقيقاً للإسرائيليين، وجعلتهم في أضعف حالاتهم منذ احتلال فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين. صحيح أن البعض يلجأ في تحليله إلى نظرية المؤامرة معتبراً بأن العملية الأخيرة كانت أشبه بحادي عشر سبتمبر إسرائيلي مدروس ومنظم لتحقيق أهداف أمريكية وإسرائيلية أكبر منه فيما بعد، كتهجير الغزاويين مثلاً، لكن آخرين يجادلون بأن الواقع يؤكد أن إسرائيل تواجه أكبر تحد في تاريخها، فهي لا تقابل جيوشاً عربية أمامها، بل تواجه حرباً من نوع نادر جداً، لأن غالبية مقاتليها تحت الأرض داخل شبكة أنفاق لم يسبق لها مثيل، والبعض يصفها بـ«مترو غزة» الطويل جداً، ولذلك فإن الانتصار الإسرائيلي إن حصل طبعاً باستخدام غازات محرمة دولياً تحت الأرض سيكون الأكثر كلفة في تاريخ إسرائيل، إن لم يكن ضربة تاريخية لها. لهذا سواء كانت العملية فخاً مدروساً أمريكياً وإسرائيلياً كما يتهكن البعض، أو أقوى ضربة تهدد حاضر إسرائيل ومستقبلها، فإن توابعها وأبعادها ونتائجها تبقى خطيرة جداً وغير مسبوقة على مستوى المنطقة كلها. وهذا ما نحن بصدده الآن، كيف ستنتهي الحرب؟
واضح اليوم وبعد حوالي ثلاثة أسابيع على العملية أن الأمور لن تأخد المسارات السابقة أبداً، بل بدأت تكشف عن مخططات ومشاريع وحتى صراعات لم تكن تخطر على بال الكثيرين رغم أنها كانت دائماً في بال شياطين السياسة والإعلام. الجديد الآن أن الحرب ستطول دون أدنى شك، وهذا ما يؤكده قادة الحرب والسياسة الإسرائيليون. لا يمكن مطلقاً أن تنتهي اللعبة بوساطة عربية أو دولية، فالمطلوب الآن إسرائيلياً وغربياً لا يمكن أن توقفه أي وساطة، فالفرصة بالنسبة لإسرائيل وداعميها مواتية جداً لتحقيق أهداف كان من الصعب مجرد التفكير بها في السابق حسب تصورهم، وعلى رأسها طبعاً تحقيق أمنية رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين الذي قال يوماً: «كم أتمنى أن أصحو ذات صباح وأرى غزة وقد ابتلعها البحر».
يبدو اليوم أن كثيرين في القيادة الإسرائيلية وحتى الأوروبية والأمريكية يريدون تحقيق رغبة رابين بأي طريقة كانت، حتى لو كانت كارثية على الجميع. المهم أن تختفي غزة عن رادار الأخطار التي تحيق بإسرائيل. طبعاً لا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بإمكانية تحقيق تلك الرغبة كما أسلفنا، حتى لو تدخل الجيش الإسرائيلي برياً في غزة وقسمها إلى شطرين شمالي وجنوبي وهجّر الغالبية العظمى من سكانها. كبار العسكريين الأمريكيين والروس يتوقعون مثلاً أن يواجه الإسرائيليون حرباً ضروساً لم يخوضوا مثلها من قبل مع أي طرف عربي، وقد تكون وبالاً عليهم وعلى جيشهم وشعبهم، وهي عملية يعترف كبار الجنرالات الروس بأنها من أصعب وأخطر الحروب التي واجهها الجيش الروسي في سوريا والشيشان وأوكرانيا، وخاصة في باخموت. إذاً من المبكر جداً التنبؤ بالشكل الذي ستنتهي عليه الحرب.
أما على الصعيد الأوسع، تتواصل التحذيرات الدولية على لسان كبار المسؤولين الدوليين من أن الحرب قد تتسع رقعتها وتأخذ شكلاً إقليمياً ودولياً أكبر. لا شك أن من حق البعض أن يتساءل هنا: ومن هي الجهة التي يمكن أن تدخل على خط الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، فالعرب لا يريدون المشاركة في أي حرب ضد إسرائيل، لا بل إن الغالبية العظمى منهم يساندون الطرف الإسرائيلي من تحت الطاولة وأحياناً من فوق الطاولة. وحتى ما يسمى بمحور «المقاومة» لا يبدو متحمساً جداً لدخول الحرب، وكل ما نراه من اشتباكات سخيفة بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان لا يرتقي مطلقاً إلى مستوى الحرب، فهو اشتباك مدروس بعناية، ويبدو أن هدفه الأول والأخير الضحك على الذقون وذر الرماد في العيون. إذاً لماذا يحذر المسؤولون الدوليون من اتساع رقعة الصراع إذا كانت كل أطراف ما يسمى بمحور المقاومة بما فيها سوريا تبدو خانعة مستسلمة ولا تستطيع الرد على العدوان الإسرائيلي على المطارات المدنية السورية، فما بالك أن تتدخل في صراع خارج أراضيها؟ هكذا يبدو المشهد حتى الآن، لكن قد يضطر حزب الله وغيره للانجرار إلى الحرب، إلا أن ذلك إن حدث لا يعني بالضرورة حرباً إقليمية كبرى أبداً.
ماذا يقصد إذاً الذين يحذرون من اتساع رقعة الحرب؟ المشكلة أن لا أحد يفصح عن ماهية تلك الحرب، فهل يقصدون مثلاً حرباً إيرانية على بعض البلدان العربية؟ البعض يستبعد ذلك لأن إيران تريد فتح صفحة جديدة مع دول المنطقة والتركيز على وضعها الداخلي بعد أن تردى كثيراً، وتسبب قبل فترة بانتفاضة شعبية عارمة. لكن الذين يعبرون عن وجهة النظر الإيرانية غير الرسمية في وسائل الإعلام لا يخفون تهديداتهم لبعض الدول العربية التي تتظاهر إيران بأنها تريد ترميم العلاقات معها، فقد ظهر أحد المقربين من طهران قبل أيام على إحدى الفضائيات ليهدد الأنظمة العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل أو تنوي التطبيع معها بالاسم. وقال حرفياً إن الميليشيات الإيرانية في المنطقة تعد العدة لمهاجمة دول عربية بعينها باعتبارها حليفة لإسرائيل، فهل يلتقي هنا المشروعان الصهيوني والصفيوني ليعيدا رسم خرائط المنطقة وتقاسمها؟ أم إن مثل هذا السيناريو نفسه يبقى من بنات أفكار أصحاب نظرية المؤامرة فقط؟
Tags: حرب