يصف لنا شيخ مؤرخي مصر تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) سلوكا عجيبا لقائد عسكري كبير في الجيش الأيوبي هو لؤلؤ الحاجب الأرمني (ت 598هـ/1202م) في توزيع الطعام في رمضان؛ فيقول في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘:
“كان يفرّق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قُدور الطعام، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك، وتبتّل (= تفرّغ) للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جَرّة سمن، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرب إليهم الطعام والوَدَك (= الشحم المُذاب)، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان، وكان الفقراء -مع كثرتهم- لا يزدحمون لعلمهم أن المعروف يعمّهم، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله”!!
ولا يكمن مبعث العجب من صنيع هذا القائد في إطعامه الناس بل في انتصابه شخصيا للخدمة شادًّا وسطه كأي فرد من العاملين في خدمته، فبدا -رغم سُمُوّ منصبه- وكأنه أحد عامة الناس ينظم الداخلين ويفرغ الطعام من القدور!! مؤكدا بذلك حقيقة أن بذل النفس في خدمة الضيوف جزء من أصالة كرم النفس وحفاوة الضيافة.
وهذه الصورة التي رسمها -بكل اقتدار- المؤرخ المقريزي تلخص لنا تماما ما تريد هذه المقالة أن تقوله في “تاريخ الموائد الرمضانية”، تلك الموائد التي تعكس استجابة المجتمعات المسلمة للإرشاد والهدْي النبوي؛ فقد كان رسول الإسلام «يحض على طعام المسكين» ويأمر المؤمنين بـ«إطعام الطعام»، وعمليا كان أول من أطلق دعوات السحور والإفطار فجعل ذلك سنة باقية في أمته.
وهكذا ارتبط شهر رمضان في الحياة الإسلامية بمنظومة من الخصائص والظواهر التي أسست باكرا فكرة الاجتماع على الموائد في شهر رمضان تعميقا للتكافل والتراحم؛ وظلت الأبعاد الاقتصادية من أبرز ما يرسم لوحة المشهد الاجتماعي في رمضان، تجسيدا لواقعية رسالة الإسلام في التركيز على الضرورات الغذائية للإنسان، وهو ما أسس لظاهرة “أسمطة رمضان” أو ما نسميه في عصرنا اليوم: “موائد الرحمن”.
وإلى جانب البعد التعبدي والتراحمي فيها؛ عكست تلك الظاهرة –أحيانا وفي بعض مضامينها- موقفا سياسيا، فقد كان القادة المسلمون طوال التاريخ يتحببون إلى جموع الناس بتلك الموائد، فلا تخلو أحياء المدن ومعاهد العلم وزوايا العُباد وطرق السفر من حامل للزاد وباذل للطعام بين جموع الصائمين تفطيرا وتسحيرا، وكان المنادي يؤذّن في المارين من الشوارع: «الإفطارَ رحمكم الله»!! وكان أحد الوزراء الكبار يمنع بالقوة أي داخل عليه بعد العصر في رمضان من الخروج حتى يفطر على مائدته!!
وفي هذا المقال؛ نسلط الضوء على صيغ منوعة تعكس قوة النزعة التراحمية التي تسود الحضارة الإسلامية في رمضان، وتكشف آليات وأهداف تدبير شؤون موائده عبر تاريخ المسلمين، ويعرض لما أنتجته مجتمعات الإسلام من أساليب اقتصادية وتدبيرية للتفاعل مع الأوضاع المعيشية وتغطية احتياجات الفئات الأكثر ضعفا في هذا الشهر الفضل، الذي ربطته تعاليم الإسلام بفضائل الإنفاق وأبواب البِرّ والعطاء، وما يعنيه ذلك من تأثيم وتجريم لوجود الجائع المحروم والبائس الفقير.
صور من التاريخ الإسلامي
منهاج نبوي
وثّقت مدونات السُّنَّة والسيرة النبوية عوائد موائد الإفطار في عهد الرسالة، فذكرت منها البدء بالعناصر الغذائية الأكثر دعما لصحة الصائم حين أخبرتنا أن الرسول ﷺ “كان يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أن يصلي، فإن لم يجد فَتَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ”؛ (رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سُننه)”. وقد أكد الطب الحديث ما يمنحه التمر والماء للصائم من طاقة وحيوية بعد ساعات الصوم المجهدة.
كما سنّ النبي ﷺ للصحابة سنّة تنظيم الدعوات للفطور والسحور؛ فقد روى الإمام البخاري (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- عن زيد بن ثابت الخزرجي (ت 45هـ/666م) أنه “قال: تسحّرنا مع النبي ﷺ ثم قام إلى الصلاة”، وقال ﷺ: «من فطّر صائما فله مثل أجره»؛ (سُنن الترمذي). فكان بذلك “جمْع الناس للطعام.. وإعانة الفقراء بالإطعام في شهر رمضان.. من سُنن الإسلام”؛ وفقا للإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘الفتاوى الكبرى‘.
ويذكر لنا الإمامُ قوامُ السُّنة أبو القاسم التيمي الأصبهاني (ت 535هـ/1140م) –في كتابه ‘الترغيب والترهيب‘- طرفا من تجربة الشراكة المجتمعية التي كان الصحابة يتخذونها عند حلول رمضان؛ فيروي عن أنس بن مالك (ت 93هـ/713م) أنه قال: “كان أصحاب رسول الله -ﷺ- إذا استهلوا شعبان أكبوا على المصاحف فعرضوها، وأخرج المسلمون زكاة أموالهم يُقوُّون المسكين والضعيف على صيام شهر رمضان”!!
كما كانت دعوات استضافة الصائمين مألوفة في مجتمع الصحابة حتى إنه كان من بين المدعوين إليها صغار الصحابة، كما في أثر ابن عباس (ت 68هـ/688م) الذي رواه عبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ/826م) في كتابه ‘المُصنَّف‘: “دعاني عمرُ (الفاروق ت 23هـ/644م) أتسحَّر عندَه”.
وفي المسار التاريخي لإجراءات وطبيعة موائد رمضان؛ نقف على العناصر العامة لأطعمة الصحابة اليومية في الإفطار، فيحدثنا الإمام ابن حزام (ت 456هـ/1065م) عن “إفطار عمَر [الفاروق].. بحضرة الصحابة على اللبَن”.
كما ظهرت باكرا خيارات التنوع الغذائي والتفضيلات بينها لدى الصائمين؛ فالإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) يخبرنا -في ‘زاد المعاد‘- أنه كان من عادة عبد الله “ابن عمر (ت 73هـ/693م) [أنه] -إذا كان رمضان- لم يَفُتْهُ اللحم”، أي كان يجعله مكونا رئيسيا في مائدته الرمضانية.
ويورد الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) رواية تفصيلية عن مائدة إفطار الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) تتضمن تعليلات صحية لمكوناتها الغذائية، فيقول إنه “كَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَوَّلُ مَا يُفْطِرُ عَلَى لَبَنِ لِقْحَةٍ، وَسَمْنٍ وَصَبِرٍ (= عُصارة نباتية مُرّة). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَأَمَّا اللَّبَنُ فَيَعْصِمُهُ، وَأَمَّا السَّمْنُ فَيَقْطَعُ عَنْهُ الْعَطَشَ، وَأَمَّا الصَّبِرُ فَيُفَتِّقُ الْأَمْعَاءَ”.
مسؤولية رسمية
ولم يمضِ عصر الخلفاء الراشدين حتى بدأت الدولة تأخذ على عاتقها إعانة الناس على أداء صومهم، كما خصصت دُور أعيان المجتمع وقصور الأمراء والوزراء -في مختلف حواضر الإسلام- حيزا من أنشطتها الخيرية للإنفاق على إفطار الصائمين خلال رمضان.
وهنا يخبرنا الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- أنه عندما تولى عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) الخلافة بادر “فوضع طعام رمضان، فقال: [إنه] للمتعبّد الذي يتخلّف في المسجد، وابن السبيل، والمُعْتَرِّين (= الفقراء) من الناس في رمضان”.
ويروي ابن أيْبَك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- أن “عُبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب (ت 58هـ/679م) كان… أوّل من فطّر جيرانه في شهر رمضان، وأوّل من وضع الموائد على الطريق ودعا إلى طعامه في الإسلام”.
على أننا نجد عند المؤرخ ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- ما يفيد بأن تفطير الصائمين في المساجد أصبح عادة مستقرة في زمن الصحابة، فهو يروي عن التابعي عِمران بن عبد الله الخُزَاعي (ت بعد 93هـ/713م) أنه “كان في رمضان يُؤْتَى [الصائمون] بالأشربة في مسجد النبي ﷺ”، فلعله يقصد ما فعله الخليفة الراشد عثمان.
وقد سار الأمويون على درب الخلفاء الراشدين في إطعام الصائمين؛ فهذا المؤرخ الأزرقي (ت 250هـ/864م) يفيدنا -في ‘أخبار مكة‘- بأن مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) اشترى -من آل المؤمل العَدَويّين- دارًا في مكة المكرمة وسماها “دار المراجل” أي قدور الطعام، “لأنها كانت فيها قُدور من صُفْر (= نُحاس) يُطبخُ فيها طعام الحاجّ (= الحُجّاج) وطعام شهر رمضان” الذي يفرَّق على المحتاجين.
ورغم رواية الأزرقي عن أسبقية معاوية إلى هذا التقليد؛ فإن أبا هلال العسكري (ت 395هـ/1006م) يجزم -في كتابه ‘الأوائل‘ـ بأن أول “من أقام طُعْمَةَ (= ما يقدَّم للناس من طعام) شهر رمضان الوليد بن عبد الملك (الخليفة الأموي ت 95هـ/715م)”.
وعن ألوان الأطعمة التي يتم تقديمها للناس في رمضان خلال العهد الأموي؛ يروي أبو الحسن البلاذُري (ت 279هـ/892م) -في كتابه ‘أنساب الأشراف‘- أن الوالي الأموي على العراق الحَجّاج الثقفي (ت 95هـ/715م) كان “يُطْعِم -في شهر رمضان وغيره- كلَّ يوم ألف خِوَانٍ (= طاولة المائدة)، على كل خوان: أربعون رغيفا وجَفْنَة (= قصعة) ثريدٍ وجنب شواء، وأرزة وسمكة، وخَلّ وبَقْل، وكان [الحَجّاج] يُحمَل في كرسي فيدور على الأخاوين (= جمع خِوَانٍ)، فينظر إلى الطعام فيقول: هل تفقِدون شيئا أو تَرَوْن تقصيرا؟ فيقولون: لا”.
إطار مؤسسي
وفي الدولة العباسية؛ تطور الاحتفاء الرسمي بظاهرة الإطعام في رمضان إلى مستوى الاحتفال المؤسسي، فأقيمت لها أماكن منفصلة خاصة بها سُميت “دُور الضيافة” فكانت تستضيف الصائمين ليطعموا فيها محفوفين بأجواء الاحترام والإكرام.
فالمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) ينقل –في كتابه ‘الكامل‘- أن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (ت 622هـ/1225م) أمر في رمضان سنة 604هـ/1207م “ببناء دُور في المحالِّ (= الأحياء) ببغداد ليُفطر فيها الفُقراء، وسُميت «دُور الضيافة»، يُطبخُ فيها اللحم الضأن، والخُبز الجيد، عمل ذلك في جانبيْ بغداد (= الرُّصافة والكَرْخ)، وجعل في كلّ دارٍ من يُوثقُ بأمانته، وكان يُعطي كلّ إنسانٍ قدَحًا مملوءًا من الطبيخ واللحم، ومَنًّا (= ‘المَنُّ‘ كيلٌ قديم يساوي 40 غراما تقريبا) من الخُبز، فكان يُفطرُ كلَّ ليلةٍ على طعامه خلقٌ لا يُحصون كثرة”!!
وكذلك فعل مِن بعده حفيدُه الخليفة المستنصر (ت 640هـ/1242م)؛ فقد قال ابن شمائل البغدادي الحنبلي (ت 739هـ/1338م) -في ‘مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع‘- إنه كانت له أوقاف “على «آدُرِ المضيف» (= دُور الضيافة) التي أنشأها في محالّ بغداد لفطور الفقراء في شهر رمضان”.
ويبدو أن تقليد الإنفاق الرسمي على تفطير الصائمين كان متاحا لمختلف طبقات المجتمع، وإن جرت محاولات لاستثناء بعض القبائل والتكتلات منه ربما لعدم حاجتهم الماسة إليه؛ إذْ يحدثنا محمد بن يوسف الكندي المصري (ت بعد 353هـ/964م) -في كتاب ‘الولاة والقضاة‘ـ بأن قاضي القضاة في مصر الحارث بن مسكين المالكي (ت 250هـ/864م) “مَنَعَ قريشا والأنصار أن يُدفع إليهم من طُعمة رمضان شيء”!!
وعندما شاعت في الدولة العباسية ظاهرة الدويلات المستقلة بدءا من نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ اتخذ أمراء هذه الدويلات من الإنفاق في رمضان وإقامة موائده العامة وسيلة لتقوية صلاتهم برعاياهم، وترسيخ شرعيتهم السياسية بين جماهير شعوبهم.
وفي ذلك يورد المؤرخ عز الدين ابن شدّاد (ت 684هـ/1285م) -في كتاب ‘الأعلاق الخطيرة‘- أن الأمير سيف الدولة الحمداني (ت 356هـ/967م) “كان له [قرية] قلوفح إقطاعا برسم مائدة رمضان”، فكان ينفق من عائدات الغلة الزراعية لهذه القرية -التي كانت تقع شمال شرقي ديار بكر بتركيا اليوم- على ما يقدم للصائمين على موائده الرمضانية في عاصمته حلب.
وعلى الطريقة ذاتها؛ ظهرت مطابخ القيادات الرسمية التي يتم توجيه عملها في رمضان إلى هذا المنحى، ففي كتاب ‘المواعظ والاعتبار‘ يذكر المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) أن أحد هذه المطابخ في مصر الفاطمية “كان يخرج.. [منه] مدة شهر رمضان: ألف ومئتا قِدْر من جميع ألوان الطعام، تفرّق كل يوم على أرباب الرسوم (= الموظفون) والضعفاء”.
ترتيبات متعددة
لم تنقطع مسيرة هذا الإطعام الرسمي للصائمين بل إنها اتخذت عددا من الأشكال والصيغ؛ فرافقت المشاريعَ الخاصة بتوزيع إفطار الصائم أنشطةُ عقد الاستضافات في قصور الحكم، مع اتخاذ بعض الإجراءات التي تحدّ أحيانا من فتح المجلس الرمضاني الرسمي للحديث في المصالح الشخصية.
فيخبرنا البلاذري -في ‘أنساب الأشراف‘- بأنه “كان يفطر عند هشام [بن عبد الملك الخليفة الأموي (ت 125هـ/744م)] قوم في شهر رمضان، فسأله رجل منهم حاجة فقال هشام: ألمْ أنهكم عن أن يكلمني أحد في حاجة في هذا الشهر؟”.
وعمل بعض خلفاء المسلمين على التعريف بمنهجه في طبيعة الإنفاق على إفطاره، ومن ذلك ما جاء في كتاب ‘الجليس الصالح الكافي‘ للإمام المُعافَى بن زكريا النَّهْرَواني (ت 390هـ/1001م) من قول شيخه المحدّث هاشم بن القاسم الهاشميّ (ت 319هـ/931م):
“كنتُ بحضرة المهتدي (الخليفة العباسي ت 256هـ/870م) عشيةً من العشايا، فلمَّا كادت الشمسُ تغرُب وَثَبْتُ لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال لي: اجلس! فجلستُ، ثم إن الشمس غابت وأذن المؤذِّنُ وأقام، فتقدَّم المهتدي فصلَّى بنا..، ودعا بالطعام فأُحضِر طبقُ خِلافٍ (= مصنوع من خشب الخِلاف/الصفصاف) وعليه أرغفةٌ من الخبز النقيّ، وفيه آنيةٌ في بعضها ملحٌ وفي بعضها خَلٌّ وفي بعضها زيتٌ، فقال […]: كُلْ واستوفِ غداءَك فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى”!!؛ هذا والمهتدي كان حينها خليفة يمتد سلطانه ما بين الصين والمغرب!!
وقريب من موقف الخليفة المهتدي الذي كان المؤرخون يقارنونه في العباسيين بعمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) في بني أمية؛ ما رواه الإمام ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- من أن السلطان العالِم المجاهد نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م) كان يُجِلّ الشيخ عمر الملّاء الموصلي (ت 570هـ/1174م) الذي “كان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل شهر رمضان ما يفطر عليه، فكان يرسل إليه بفَتيت ورُقاق فيفطر عليه”!!
وصاحبت ظاهرة “موائد الرحمن” في رمضان آلياتٌ لتنفيذ ترتيباتها؛ فهذا المؤرخ المحدِّث ابن عساكر (ت 571هـ/ 1175م) يفيدنا -في ‘تاريخ دمشق‘- بأن مالك بن طوق التغلبي (ت 260هـ/874م) كان أميرا لدمشق، فـ”كان إذا جاء شهر رمضان نادى منادي مالك بن طوق بدمشق كلَّ يوم على باب «الخضراء» (= مقر الإمارة) بعد صلاة المغرب..: الإفطارَ رحمكم الله، والأبواب مفتحة فكل من شاء دخل بلا إذن وأكل، لا يُمنع أحدٌ من ذلك..، وكان مالك بن طوق من الأسخياء المشهورين”.
وبتوالي حقب العصور؛ انضوت مختلف أرجاء دول الحضارة الإسلامية في هذا الاهتمام الرسمي بموائد الصائمين؛ فأبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) يحدث -في ‘يتيمة الدهر‘ـ عن الوزير البويهي الصاحب ابن عَبّاد (ت 385هـ/996م) بأنه كان “لَا يدْخل عَلَيْهِ فِي شهر رَمَضَان بعد الْعَصْر أحد كَائِنا من كَانَ فَيخرج من دَاره إِلَّا بعد الْإِفْطَار عِنْده، وَكَانَت دَاره لَا تَخْلُو فِي كل لَيْلَة من ليَالِي شهر رَمَضَان من ألف نفس مفطرة فِيهَا، وَكَانَت صِلَاته (= هداياه) وصدقاته وقُرُباته فِي هَذَا الشَّهْر تبلغ مبلغ مَا يُطلق مِنْهَا فِي جَمِيع شهور السّنة”!!
وكان ظهير الدين محمد بن الحسن الصَّرْصَري الحنبلي (ت 706هـ/1306م) “رئيسَ العراق” في دولة المغول بعد إسلامهم، “وكان ذا مروءة وجود ومكارم وجاهٍ..، وكان يفطّر في رمضان كل ليلة مئة فقير وفقيرة”؛ وفقا لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘.
صور من التاريخ الإسلامي
تفنن فاطمي
أما الدولة الفاطمية في مصر فقد تفننت في تنظيم الموائد الرسمية في رمضان والعيدين وما كانوا يسمونه “الموالد”، جاعلةً منها إحدى أدواتها الدعائية القوية لترسيخ شرعيتها السياسية في أوساط المصريين.
ويقدّم لنا القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- تفاصيل دقيقة عن ترتيبات “الأسمطة التي تُمَدُّ في شهر رمضان”، أي الموائد الرسمية في البلاط الفاطمي ما بين اليومين الرابع والسادس والعشرين من رمضان سنويا، مشيرا إلى أن الفاطميين “لم يكن لهم أسمطة عامّة في سوى العيدين وشهر رمضان”.
وعن ترتيبات موائدهم الرمضانية تلك؛ يقول القَلْقَشَنْدي إن “الخليفة [الفاطمي] كان يرتب بقاعة الذهب بالقصر سماطا في كل ليلة..، ويستدعي الأمراءَ لحضوره في كل ليلة بالنَّوْبَةُ (= المُناوَبة)، [فـ]ـيحضر منهم في كل ليلة قوم كي لا يحرمهم الإفطار في بيوتهم طول الشهر، ولا يكلِّف قاضيَ القضاة الحضورَ سوى ليالي الجمع توقيرا له، ولا يحضر الخليفة هذا السماط..، وإذا حضر الوزير بعث الخليفة إليه من طعامه الذي يأكل منه تشريفا له، وربما خصه بشيء من سحوره”.
ويضيف القَلْقَشَنْدي كاشفا بروتوكول التحضير ومكانة الحضور ومراتبهم في هذه المائدة السلطانية الرفيعة؛ فيذكر أنه “يحضر الوزير فيجلس على رأس السماط..، وكان هذا السماط من أعظم الأسمطة وأحسنها، ويمد من صدر القاعة إلى مقدار ثلثيها بأصناف المأكولات والأطعمة الفاخرة، ويخرجون من هنالك بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين، ويفرذَق فضْلُ (= بقية) السماط كل ليلة، ويتهاداه أرباب الرسوم (= الموظفون) حتى يصل إلى أكثر الناس” من سكان القاهرة.
أما عن مكونات المائدة الفاطمية الرمضانية فيبدو أنه -على غرار ما يذكره القلقشندي عن نظيرتها في العيديْن- كانت “تُنْصَب على الكرسي مائدة من فضة تعرف بالمدورة، وعليها من الأواني الذهبيات والصينيـ[ـة] الحاوية للأطعمة الفاخرة ما لا يليق إلا بالملوك، وينصب السماط العام.. وتفرش فوقه الأزهار المشمومة، ويرصّ الخبز على جوانبه..، ويعمر داخل السماط على طوله بأحد وعشرين طَبَقا عظاما، في كل طبق أحد وعشرون خروفا من الشوي، وفي كل واحد منها ثلاثمئة وخمسون طيرا من الدجاج والفراريج وأفراخ الحمام”!!
وبجانب الأطباق الرئيسية في المائدة “يعبَّى [إناء] مستطيلا في العلو حتى يكون كقامة الرجل الطويل، ويسوّر بتشاريح (= شرائح) الحلواء اليابسة على اختلاف ألوانها، ويسدّ خلل تلك الأطباق على السماط نحوٌ من خمسمئة صحن من الصحون الخزفية المترعة بالألوان الفائقة، وفي كل منها سبع دجاجات من الحلواء المائعة والأطعمة الفاخرة”!!
ويعدد المقريزي أيضا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أبرز مكونات تلك المائدة الرمضانية؛ فيحكي أنه إذا وُضع سِماطها بين يديْ الخليفة الفاطمي وقتَ الفطور أو السحور “أحضِرت جفان القطائف، وجِرار الجُلّاب (= ماء الورد)…، ثم المائدة معبأة جميعها من جميع الحيوان وغيره…، ثم قُدِّمت الصحون الصينيـ[ـة] مملوءة قطائف..، وبين يديه (= الخليفة) السحورات المطيَّبات..، وعدة أنواع عصارات.. وسَوِيق (= طعامٌ من دقيق الحنطة أو الشعير) ناعم وجَرِيش (= طحين خشن)..، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة سَفُوفاً”!!
صور ثقافة الطعام في التاريخ الإسلامي – 2
تفاصيل دقيقة
بل إنه بلغ التفنن في ذلك حدَّ توزيع عينات من الأطعمة كالحلوى التي منحتها عوائد الموائد صلة خاصة بشهر رمضان؛ فنطالع لدى الإمام المؤرخ ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) قوله -في كتابه ‘المنتظم‘- متحدثا عن الوزير البويهي فخر المُلك أبو غالب الواسطي (ت 407هـ/1017م): “وسنَّ تفرقة الحلوى في النصف من رمضان” على الصائمين في بغداد.
وأورد الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- أن سلطان دمشق الأشرف مظفَّر الدين ابن العادل الأيوبي (ت 635هـ/1237م) كان “يبالغ في الخضوع للفقراء ويزورهم ويعطيهم”، وكان من عادته أنه “يبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكن الفقراء”.
وفي هذا الإطار؛ كانت أطباق الحلوى مما يوفره سلاطين الدول لبعض بيوتات كبار الموظفين، بوصفها من العناصر الأساسية في موائد رمضان؛ فكان مثلا في مصر الفاطمية “لكلّ أمير من الخواص على السلطان مرتب من السكر والحلوى في شهر رمضان”؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
وقد تختص تلك العناية الرمضانية بطبقات خاصة من نخبة المجتمع مثل الفقهاء؛ فقد ذكر الفقيه الحنفي محيي الدين ابن نصر الله القرشي (ت 775هـ/1373م) -في ‘الجواهر المُضِيّة في طبقات الحنفية‘- أن الفقيهة المفتية الحنفية فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي (ت 581هـ/1185م) “هي التي سَنَّتْ الفطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية، كان في يديها سواران فأخرجتهما وباعتهما وعملت بالثمن الفطور كل ليلة، واستمر [العُرف] على ذلك”!!
كانت فاطمة السمرقندية هذه عالمة عظيمة المكانة في مدينة حلب عاصمة الدولة الزنكية، وكان لها تأثير كبير على سلطانها العالم نور الدين زنكي، وعنها أخذ تلك العادة الرمضانية المحتفية بأهل العلم، فكان يضع حوضا حَجَريا بإحدى المدارس العلمية في حلب فيملؤه “في ليلة السابع والعشرين من رمضان قطائف محشوة، ويجمع عليها الفقهاء المرتَّبين بالمدرسة”؛ طبقا لسِبْط ابن العَجَمي (ت 884هـ/1479م) في ‘كنوز الذهب في تاريخ حلب‘.
ويخبرنا قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن القاضي ابن شَدّاد الموصلي (ت 632هـ/1235م) عُرف بمكانته العالية في الدولة الأيوبية، فـ”كان للفقهاء في أيامه حُرمة تامة ورعاية كبيرة، خصوصاً جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون في شهر رمضان على سماطه”.
وضمن تطورات ظاهرة “موائد الرحمن”؛ ظهرت فكرة اتخاذ فضاءات رسمية مخصصة للاستضافات في رمضان، إذْ يروي المؤرخ شهاب الدين النُّوَيْري (ت 733هـ/1333م) -في ‘نهاية الأرب‘ـ أن السلطان الكامل الأيوبي (ت 635هـ/1237م) “عمّر قاعة بقلعة الجبل (= مقر السلطة بالقاهرة) يجلس فيها مع الفقهاء والصالحين في شهر رمضان، سمّاها «قاعة رمضان»، وهي الآن (= القرن الثامن الهجري/الـ14م) من جملة الخزائن السلطانية”.
ولم يكن حضور تلك الولائم الرمضانية قاصرا على الفقهاء كما يُفهم من بعض النصوص التاريخية الواردة بشأنها، بل كثيرا ما كانت ملتقى للطبقات الأخرى من الشعراء والأدباء وغيرهم.
ومن ذلك ما يذكره ابن خلّكان من أنه حضر ليلةً الشاعران أبو الفوارس ابن صيفي التميمي (ت 574هـ/1178م) الملقب “الحَيْصَ بَيْصَ وابنُ الفضل (هبة الله ابن قطان البغدادي ت 498هـ/1105م).. على السماط عند الوزير [العباسي ببغداد] في شهر رمضان”، وقد “كانت عوائدهم في بغداد في شهر رمضان أن الأعيان يحضرون سماط الخليفة عند الوزير.. وهم يسمون السماط: «الطبق»”.
صور من التاريخ الإسلامي – تراث
ميزانيات ضخمة
ولئن حظيت المنطقة المركزية من جغرافية العالم الإسلامي بتغطية أوفى لولائمها الرمضانية في المدونات التاريخية، فإن نظيراتها في مناطق الأطراف لم تغب مطلقا عن رصد هذه المدونات.
فهذا “شيخ الرحالين” ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) يوثق لنا في رحلته أجواء الاستضافات الرمضانية لدى أمير مدينة أكْرِيدور التركية، فيقول: “وأظلّنا عنده شهر رمضان فكان يقعد في كلّ ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير، ويستند على مخدّة كبيرة، ويجلس الفقيه.. إلى جانبه..، ويلينا أرباب دولته وأمراء حضرته، ثم يؤتى بالطعام”.
ويصف ابن بطوطة نظام تقديم مكونات المائدة الرمضانية لهذا السلطان قائلا: “فيكون أوّل ما يفطر عليه ثريد في صَحْفَة (= إناء) صغيرة، عليه العدس مسقى بالسمن والسكّر، ويقدّمون الثريد تبرّكا، ويقولون: إن النبيّ ﷺ فضّله على سائر الطعام فنحن نبدأ [به] لتفضيل النبيّ له، ثم يؤتى بسائر الأطعمة؛ وهكذا فعلهم في جميع ليالي رمضان”.
وتعبيرا عن النشاط الواسع لمطابخ موائد رمضان وحجم الميزانيات التي تصرف عليها؛ يفيدنا الإمام ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- بأنه كان “السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ (ت 465هـ/1074م) الْمُلَقَّبُ بِـ«سُلْطَانِ الْعَالَمِ».. يَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ”، أي ما يعادل اليوم ثلاثة ملايين دولار أميركي تقريبا.
ويحدثنا بهاء الدين الجَنَدي (ت 732هـ/1332م) -في كتابه ‘السلوك في طبقات العلماء والملوك‘- عن أن مدبّر الدولة النجاحية في زَبِيد باليمن الوزير سرور الفاتكي الحبشي (ت 551هـ/1156م) “كانت نفقاته وصدقاته تتسع في رمضان اتساعا يجاوز الحد والوصف، بحيث كانت وظيفة مطبخه في كل يوم من رمضان ألف دينار (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا)”.
وذكر المقريزي -في كتابه ‘المُقَفَّى الكبير‘- أنه في عهد الوزير الفاطمي المأمون البطائحي (ت 519هـ/1125م) “بلغت النفقة على أسمطة شهر رمضان لتسع وعشرين ليلة: ستّة عشر ألفا وأربعمئة وستّة وثلاثين دينارا (= اليوم 3.3 ملايين دولار أميركي تقريبا)”.
ويضيف المقريزي أن بنود صرف هذه الميزانية إنما تخص موائد الفطور والسحور، أما “المُنْفَقُ -في شهر رمضان- برسم الصدقات والرسوم، والتوسعة المطلقة برسم (= لصالح) الحاشية والأمراء، وصدقات الأقوات بالباب والأعمال والفطرة، والكسوات المختصّة بالغرّة والعيد؛ [فمقداره] ما ينيف على ستّين ألف دينار، ويبلغ مئة ألف دينار (= اليوم 20 مليون دولار أميركي تقريبا)” في بعض المواسم.
ويحدثنا المقريزي أيضا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- عن الموائد الرمضانية التي كان يقيمها القائد العسكري الفاطمي ثم الأيوبي لؤلؤ الحاجب الأرمني (ت 598هـ/1203م) قبل رمضان وفي أثنائه، والتي كان خيرها يعمّ الفقراء والأغنياء معا!
فيقول إنه “كان يفرق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قُدور الطعام، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك، وتبتّل (= تفرّغ) للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جَرّة سمن، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرب إليهم الطعام والوَدَك (= الشحم المُذاب)، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان، وكان الفقراء -مع كثرتهم- لا يزدحمون لعلمهم أن المعروف يعمّهم، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله”!!
أما في مصر المملوكية؛ فيروي المقريزي –في كتابه ‘السلوك‘- أن السلطان المملوكي الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) اعتاد “طوال أيام إمارته وسلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان [ذبح] خمس وعشرين بقرة، يتصدّق بها -بعدما تُطبخ ومعها آلاف من أرغفة الخبز النقي- على أهل الجوامع والمشاهد والخَوَانِك (= جمع خانْكَاه/خانْقَاه: زاوية ومدرسة للصوفية) والرُّبُط وأهل السجون؛ لكل إنسان رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة من نقيّ البُرّ (= القمح)، سوى ما كان يُفرّق في الزوايا [للصوفية] من لحم الضأن، فيُعطي في كل يوم لكل زاوية خمسون رطلاً وعدة أرغفة خبز، وفيهم من يُعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم”.
صور ثقافة الطعام في التاريخ الإسلامي
احتفاء واسع
لم تكن قصور الحكم وحدها هي الموئل الذي يرحّب بالصائمين، ويضطلع بمهام استضافتهم طوال رمضان؛ فقد كان للشخصيات العامة وقادة الرأي والمجتمع -منذ وقت مبكر- إسهامهم في هذا الميدان، بحيث لا يقل عن مستوى نظيره لدى رجال الدولة.
فهذا المحدّث أبو نُعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) يفيدنا -في ‘تاريخ أصبهان‘- بأنه “كَانَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ (الفقيه الكوفي ت 120هـ/739م) يُفَطِّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ خَمْسِينَ إِنْسَانًا”. أما رواية الشَّجري الجُرْجاني (ت 499هـ/1106م) -في ‘ترتيب الأمالي الخميسية‘- ففيها أن حمادا -وهو شيخ للإمام أبي حنيفة (ت 150هـ/768م)- كان “يُفطّر كل ليلة في شهر رمضان خمسمئة إنسان، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا، وأعطاهم مئة مئة”!!
ويروي الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في ‘البخلاء‘- أنه “دعا موسى بن جناح جماعةً من جيرانه ليفطروا عنده في شهر رمضان”. ومهما كان البعد الخيالي في هذا النص على الطريقة الجاحظية؛ فإنه يمدنا بقائمة عناصر الأطعمة التي كان يهيئها أصحاب الموائد الرمضانية في عصر الجاحظ، فكان أحدهم يتقدّم إلى ضيوفه “ببَهَطَّة (= أرز باللبن والسمن) أو بجُوذابة (= خبز بدهن الشواء) أو بعصيدة، أو ببعض ما يجري في الحلق ولا يساغ بالماء، ولا يحتاج فيه إلى مضغ، وهو طعام يد لا طعام يدين”!!
وفي الغرب الإسلامي؛ يذكر مؤرخ آداب الأندلس المقّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘-ما يدل على أن الموائد الرمضانية التي يقيمها أعيان المجتمع كانت مفتوحة أمام الجميع، بمن فيهم ذوو الحاجات.
فنجده ينقل حديثا لأحد أبناء قاضي قضاة الأندلس منذر بن سعيد البَلُّوطي (ت 355هـ/966م) يقول فيه: “قعدنا ليلة -من ليالي شهر رمضان المعظّم- مع أبينا للإفطار بداره البرانية، فإذا سائل يقول: أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنّة”!
وعلى نهج البَلُّوطي سار قضاة آخرون بالأندلس؛ منهم قاضي مالقة محمد بن الحسن النُّبَاهي (ت 463هـ/1072م) الذي يقول عنه قريبه المؤرخ أبو الحسن النُّبَاهي (ت 793هـ/1391م) -في ‘تاريخ قضاة الأندلس‘- إنه “كان في كل رمضان يحذو حذو صهره القاضي بقرطبة أحمد بن زياد (اللخمي ت 326هـ/938م)، فيدعو بدار له تُجاور المسجد عشرةً من الفقهاء في طائفة من وجوه الناس، يفطرون كل ليلة عنده، ويتدارسون كتاب الله بينهم ويتلونه”.
ويظل للدَّور النسائي حضوره وأثره الأساسي فيما يتعلق بإدارة شأن التموين الرمضاني وترتيبات الموائد، لما يتصفن به من مهارة وخبرة في هذا الشأن، فكان للمطابخ المنزلية إسهامها الكبير فيه منذ الرمضانات الأولى في تاريخ الإسلام.
فقد جاء في ‘السنن الكبرى‘ للإمام أبي بكر البَيْهَقي (ت 458هـ/1067م): “عن زيد بن وَهْب (الجُهَني الصحابي ت نحو 83هـ/703م) قال: بينما نحن جلوس في مسجد المدينة في رمضان والسماء متغيمة، فرأينا أن الشمس قد غابت وأنا قد أمسينا، فأخرِجتْ لنا عِسَاسٌ (= جمع عُسّ: قَدَح كبير) من لبن من بيت حفصة (بنت عمر أم المؤمنين ت 41هـ/662م)، فشرب عُمَرُ وشربنا”.
كما توضح لنا المصادر قصصا عن دور المرأة في إعداد وجبات رمضان؛ ففي كتاب ‘المصنَّف‘ للإمام ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م): “عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِي (ت 95هـ/715م) قَالَ: “رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (ت 32هـ/654م) مَعَ رَجُلٍ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا (= اليوم 40 دولارا أميركيا تقريبا) أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ بِهَا سَمْنًا لِرَمَضَانَ، فَقَالَ: تَجْعَلُهُ فِي السُّكُرُّجَةِ (= إناء صغير للإدام) فَتَأْكُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَادْفَعْهَا إِلَى امْرَأَتِكَ، وَمُرْهَا أَنْ تَشْتَرِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ”!
التاريخ الإسلامي – تراث – موائد الصائمين 3
أدب رمضاني
ويقودنا الجانب التحضيري لأطعمة رمضان إلى الحديث عما يتعلق بأنواع من الأطعمة ذات الشيوع في هذا الشهر الفضيل؛ فابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) يفيدنا -في ‘مسالك الأبصار‘ـ بأولية علاقة حلوى الكُنافة بشهر رمضان، فيقول إنه “كان معاوية (ت 60هـ/681م) يجوع في رمضان جوعا شديدا، فشكا ذلك إلى ابن أُثال الطبيب (المسيحي ت نحو 60هـ/681م)، فاتخذ له الكُنافة فكان يأكلها في السحور، فهو أول من اتخذها”!
ثم بقيت الكنافة عنصرا شهيرا في قائمة أطعمة رمضان حتى أصبح الترنّم بها من مألوفات نصوص الأدب، وذلك على نحو ما أورده الغزولي البهائي (ت 815هـ/1412م) -في ‘مطالع البدور في منازل السرور‘- من قول الشاعر أبي الحسين الجزار (ت 672هـ/1273م):
سقى اللهُ أكنافَ الكُنافة بالقَطْر ** وجادَ عليها سُكّراً دائمَ الدَّرِّ
وتباً لأوقات المُخلَّل إنها ** تمرُّ بلا نفْع وتُحسَب من عُمْري!!
وعمّت الكنافة الرمضانية بعد ذلك في كثير من البلدان، وارتبطت في أذهان الناس بشهر الصيام حتى إن العلامة جمال الدين يوسف بن زكريا الأنصاري السنبكي (ت 987هـ/1579م) تعجب حين رآها تباع في زمان غير رمضان، فقال: “ما كنتُ أظن أن الكنافة تعمل إلا في رمضان”؛ وفقا لنجم الدين الغزي (ت 1061هـ/1651م) في ‘الكواكب السائرة في تراجم أعيان المئة العاشرة‘!!
ومما يعبر عن عراقة حلويات مثل الكنافة والقطائف ومركزيتها في موائد رمضان تخصيصُ الإمام السيوطي (ت 911هـ/1505م) كتابا للحديث عنهما كان عنوانه: “منهل اللطائف في الكنافة والقطائف”!!
ولم يكن السيوطي فريدا في انتباهه إلى حسن الجوار بين القطائف والكنافة، وخاصة على بساط وسماط رمضان، بل إنه يكرر بذلك ما سبقه إليه عدد من الشعراء؛ كقول أحدهم -فيما أورده الراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) في ‘محاضرات الأدباء‘- مشيدا بمكانة القطائف بين مكونات موائد رمضان:
ألذُّ شيءٍ على الصيام ** من الحلاوات في الطعام
قطائفٌ نُضِّدتْ فحاكت ** فرائدَ الدُّرّ في النِّظَام
منوَّمات على جُنُوب ** في الجام كالصِّبْية النِّيام
ومن جميل “أدب القطائف” أيضا ما أودعه الأديب المصري شمس الدين النَّوَاجي (ت 859هـ/1455م) في كتابه ‘الشفاء في بديع الاكتفاء‘؛ فقال:
لقد ضَلَّ مَنْ يُلْفِي القطائفَ مأكلاً ** ويَهبِط مِن دون الكُنافة مَهبِطا
فكم طار ليلاً للكنافة ذائقٌ ** وأمسى لها في الليل أهدى من القَطا!!
ويبدو أن صلة الحلويات برمضان تكرّست منذ بدايات الإسلام إلى درجة تخصيصها للأطفال تشجيعا لهم على المساهمة في إحياء ليالي رمضان؛ فقد أورد البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘السُّنن الكبرى‘- أنه “قالت عائشة (ت 58هـ/679م) رضي الله عنها كنا نأخذ الصبيان من الكُتّاب ليقوموا بنا في شهر رمضان، فنعمل لهم القَلِيَّة والخُشْكَنَانْج (= خبز محشو باللوز والسكر)”.
صور ثقافة الطعام في التاريخ الإسلامي
إفطار جماعي
وتعبيرا عن ذلك الحضور تفنّنت المجتمعات الإسلامية في صنع هذه الأطعمة الرمضانية؛ فيحدثنا عبد الرحمن الجَبَرتي (ت 1240هـ/1824م) -في ‘عجائب الآثار في التراجم والأخبار‘ـ عما “جرت به العادة في رمضان من عمل الكَعْك والرُّقاق المعروف بالسحير”.
ويلاحظ الجَبَرتي أن تنظيم بعض رجال الدولة لـ”موائد الرحمن” ربما أثار حساسية المسؤولين الأعلى منهم منصبا، فاتخذوها ذريعة للنيل منهم أو لعزلهم عن وظائفهم بدعوى سعيهم لبناء مراكز قوى مجتمعية -ولاسيما من العلماء- تعينهم في سعيهم لتولي مقاليد السلطة!!
ويسوق الجَبَرتي مثالا على ذلك بأن محمد أفندي الودنلي (ت 1225هـ/1810م) كان “ناظرا على مهمات الدولة” في عهد ولاية محمد علي باشا (ت 1265هـ/1848م) على مصر، وكان من عادته أن “يرسل في كل ليلة من ليالي رمضان عدة قِصَاع (= جمع قَصْعة) مملوءة بالثريد واللحم إلى الفقراء بالجامع الأزهر”!
ويضيف الجبرتي أنه في أحد الأيام جاء “الكَتْخُدا (= محافظ القاهرة).. لزيارة المشهد الحسيني في عصرية يوم من رمضان، ثم ركب متوجها إلى داره قبيل الغروب فصادف في طريقه عدة قِصَاع كبار مغطاة تحملها الرجال، فسأل عنها فعرّفوه أن.. [الودنلي] يرسلها في كل ليلة من ليالي رمضان إلى فقراء الجامع الأزهر وبها الثريد واللحم، فامتعض من ذلك وعرّف الباشا [محمد علي] أنه يؤلِّف الناس ويتودد إليهم بأموالك ونحو ذلك”!!
ظلت الجهود الرسمية الخاصة بالأسمطة والموائد في رمضان جزءا من التعبير عن نظرة المجتمعات الإسلامية إلى أهمية الجهود المشتركة والتعاضد في شهر الصيام بما يحقق مواجهة نفقاته للجميع؛ فنشأت جراء ذلك ظاهرة تشارك أهل الحي الواحد في موائد الإفطار.
ومن نماذج ذلك التي لفتت نظرَ الراحلة ابن بطوطة قوله مادحا أهل دمشق: “ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يُفْطِر أحد منهم في ليالي رمضان وحدَه البتة؛ فمَن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يُفطرون عنده، ومَن كان من التجار وكبار السُّوقة صنع مثل ذلك، ومَن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كلّ ليلة في دار أحدهم أو في مسجد، ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعا”!!
كما شاع تقليد منح الإكراميات الرسمية من الدولة عند استهلال رمضان؛ وفي هذا السياق يورد الإمام الطبري -في تاريخه- نموذجا مبكرا لذلك قدمه الخليفة عمر الفاروق، فيقول: “كان عمر يجعلُ لكل نفْس من أهل الفيء في رمضان درهمًا في كل يومٍ، وفرضَ لأزواج رسول الله ﷺ درهمين درهمين، فقيل له: لو صنعتَ طعامًا فجمعتهم عليه! فقال: أُشبِعُ الناس في بيوتهم”.
فكأن الفاروق أراد للعوائل أن تجتمع على موائدها الرمضانية توثيقا للروابط الأسرية بينها. وعندما تولى عثمان بن عفان الخلافة بعده أقرّ العمل بـ”الذي كان صنع عمر، وزاد فوضع طعام رمضان” مؤسسا بذلك موائد الإفطار الجماعي خارج البيوت؛ كما سبق ذكره.
كما يروي الإمام ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق‘- أن والي العراق مصعب بن الزبير (ت 72هـ/692م) أرسل إلى الصحابي عمرو بن النعمان المزني (ت نحو 72هـ/692م) بألفيْ درهم (= اليوم 2500 دولار أميركي تقريبا)، فجاءه الرسول بها وقال: “إن الأمير يقرأ عليك السلام ويقول: إنا لم ندع قارئا (= عالما).. إلا قد وصل إليه منا معروف، فاستعن بهاتين على نفسك شهرك هذا (= رمضان)”!!
وفي أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ نلاقي نموذجا لذلك لدى أمير تونس في دولة الأغالبة أحمد بن محمـد بن الأغلب (ت 249هـ/863م) الذي يخبرنا المؤرخ ابن عِذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) -في ‘البيان المُغرِب‘- أنه كان يركب كلَّ ليلة في رمضان “وبين يديه الشمع، فيخرج من القصر القديم ويمشي حتى يدخل من باب أبي الربيع ومعه دوابّ [محمّلة] بالدراهم، فكان يعطي الضعفاء والمساكين حتى ينتهي إلى المسجد الجامع بالقيروان، فيخرج الناس إليه يدعون له”.
صور ثقافة الطعام في التاريخ الإسلامي – 2
لوازم رمضانية
وقد خُصصت مواقع لتقديم الطعام إلى المحتاجين من أبناء المجتمع، وربما تطوع أحدهم بتوصيله إلى من لا تمكنهم ظروفهم من الحصول عليه في تلك المواقع. ولذا يحدثنا ابن عساكر أيضا عما يُشعر بوجود طابور “الصدقة في مسجد الجامع في شهر رمضان”، وذلك بإيراده قول أحد الشخصيات العامة: “إنما في جِواري امرأة طلبتْ من «خبز الصدقة» فلم تُعْطَ، فكتبتُ اسمي لآخذ الخبز وأمضي به إليها”!
ونقف على صورة من اهتمام الأسر بالتعامل مع متطلبات شهر رمضان فيما حكاه الأديب أبو سعيد الآبي (ت 421هـ/1031م) -في ‘نثر الدرر في المحاضرات‘ـ من أن المؤرخ “الْوَاقِدِيّ (ت 207هـ/822م) شَيخٌ سَمحٌ، وأظله شهر رَمَضَان وَلم تكن عِنْده نَفَقَة، فَاسْتَشَارَ امْرَأَته بِمن يُنْزِل خَلّتَه (= حاجته) من إخوانه؟ فَقَالَت: بفلان الْهَاشِمِي! فَأَتَاهُ فَذكر لَهُ خَلّتَه، فَأخْرج لَهُ صرة فِيهَا ثَلَاثمئة دِينَار (= اليوم 60 ألف دولار أميركي تقريبا) فَقَالَ: وَالله مَا أملك غَيرهَا، فَأَخذهَا الْوَاقِدِيّ”.
ولاشتراك الجميع في البحث عما يواجهون به متطلبات هذا الشهر؛ جاء إلى الواقدي أيضا مَنْ يشكو إليه “خَلّتَه فَدفع إِلَيْهِ الصرة بختمها”! وتقول الحكاية –التي لا يبعد أن تكون من نسج الخيال- إن الحادثة تكررت بين أشخاص عدة، كان كل منهم يعطي هذه الصرة لمن جاءه شاكيا حاجته، حتى عادت الصرة إلى صاحبها الأول، فلجأ الجميع إلى اقتاسمها فيما بينهم!!
ويوقفنا ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- على استمرار اهتمام السلاطين بتلك المتطلبات لتلبية احتياجات البيوت في رمضان؛ فيروي أن الخليفة المستنصر بالله العباسي (ت 640هـ/1242م) “لَمَّا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الدَّقِيقِ وَالْغَنَمِ وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ (= المحتاجين)، إِعَانَةً لَهُمْ عَلَى الصِّيَامِ، وَتَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ”.
وذلك إدراكا من هذا الخليفة لما تفرضه طبيعة شهر رمضان من التهيؤ المادي والاستعدادات التي تشغل المجتمعات عند حلول هذا الشهر الفضيل. وهي استعدادات وصفها –بعد ذلك بقرون- البديري الحلاق الدمشقي (ت 1175هـ/1761م) -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘- حين قال راسما مشهد أجواء أحد رمضانات الدمشقيين: “وحصل للناس زحمة في حركة السحور حتى فتحت دكاكين الطعام ليلاً كالخبازين والسمّانين”!!
وفي هذا الإطار؛ كان البعض على استعداد لتقديم طلباتهم إلى الجهات الرسمية لتعجيل رواتبهم بمناسبة رمضان، حتى يتمكنوا من إكمال استعداداتهم المنزلية لمتطلباته المجتمعية، على نحو ما يصنعه الناس في عصرنا هذا عند إطلالة كل رمضان.
وفي ذلك نقرأ لدى ابن مسكويه (ت 421هـ/1031م) -في ‘تجارب الأمم‘- أن منتسبي المؤسسة العسكرية العباسية في بغداد “طلبوا من الحسن بن سهل (ت 236هـ/850م) أن يعجّل لهم خمسين درهما (= اليوم 60 دولارا أميركيا تقريبا) لكلّ رجل لينفقوها في شهر رمضان”.
وقد يصل الأمر إلى درجة الاستعداد للمناضلة أمام الجهات الرسمية لحملها على صرف الرواتب أو بعضها في مستهل رمضان؛ فالمؤرخ النويري يروي -في ‘نهاية الأرب‘- أن جموعا من الشعب “قاموا بباب القصر [الفاطمي بالقاهرة] وأغلظوا في الكلام وطلبوا أرزاقهم واستحقاقاتهم من الوزير…، فقال [لهم]: مولانا (= الخليفة الفاطمي) يُقرئكم السّلام ويقول لكم: إذا كان مستهلّ شهر رمضان أمر بالنّفقة فيكم..، فلمّا استهلّ شهر رمضان أنفق.. لكلّ واحد منهم ثلث رزقه”!
ولذلك كان عدم المراعاة من الجهات الرسمية للظرف المعيشي في رمضان ومتطلباته سببا للاستهجان؛ فقد ذكر ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أنه “َقدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ (ت 750هـ/1349م) مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى [خيل] الْبَرِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ بِجَمْعِ جَمِيعِ النَّشَّارِينَ وَالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ، وَتَجْهِيزِهِمْ لِبَيْرُوتَ لِقَطْعِ الْأَخْشَابِ، فَسُيِّرُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ رَمَضَانَ، وَلَمْ يُسْلَفُوا شَيْئًا مِنْ أُجُورِهِمْ”!! وعلق ابن كثير قائلا: “وَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يُسْلَفُوهُ”!!
التاريخ الإسلامي – تراث – موائد الصائمين 2
حلول متعددة
وانطلاقا من هذا الوعي بالمسؤوليات المادية التي تتعلق بنفقات موائد رمضان؛ عَرفت الأوساط في المجتمع اتخاذ إجراءات للاستجابة لمقتضياته، ومنها أنه كان من شرط الواقف على إحدى المدارس “أن يُحمَل -في كلّ شهر رمضان- من وقفها ثلاثة آلاف درهم (= اليوم 3750 دولارا أميركيا تقريبا) للمدرّس يصنع بها للفقهاء طعاماً”؛ طبقا لما في كتاب ‘المُقَفَّى الكبير‘ للمقريزي.
ويفيدنا المقريزي أيضا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأن مؤسِّسة “المدرسة الحجازية” بالقاهرة رصدت لها “عدة أوقاف جليلة يصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم (= الرواتب) السَّنِية..، وفي شهر رمضان يُطبخ لهم الطعام”.
ولا يخفى أن هذا التوجه بدأ منذ صدر الإسلام، وهو يجسد الحرصَ على ضمان التموين العائلي للأسر وقيام الأفراد بمسؤولياتهم في ذلك؛ فالإمام المحدّث الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) يروي بسنده –في كتابه ‘الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع‘- أن “عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو (ابن العاص ت 65هـ/686م) [كان] فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَتَاهُ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَهُنَا -يَعْنِي رَمَضَانَ- قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَلْ تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَمَّا لَا فَارْجِعْ فَدَعْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»”!!
ومما يعزز إدراك الصحابة لأهمية صيام رمضان بين العائلة لما في التحلق حول موائده من ترسيخ لأواصر المودة والرحمة بين أفرادها؛ ما رواه الخطيب البغدادي أيضا -في ‘تاريخ بغداد‘- من أن الصحابي الجليل كاتم سرّ النبي ﷺ “حذيفة بن اليمان (ت 36هـ/657م) كان بالمدائن [في العراق] فحضره شهر رمضان، فاستأذنه رجل من أصحابه أن يأتي أهله بالكوفة فيصوم عندهم”.
وفي مثل هذا الواقع؛ لا عائق إذن يحد حركة رحى مطابخ الولائم وموائد الاستضافة الرمضانية ويكبح من دورانها في البيوت أكثر من الأزمات الاقتصادية التي قد تلقي بكاهلها على الواقع العام، على نحو ما رصده الإمام قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) -في ‘ذيل مرآة الزمان‘- من أنه “في العشر الأُوَّل من شهر رمضان حصل بدمشق صقعة (= صقيع/عاصفة ثلجية) في العنب والمشمش والباقلاء والورد”.
كما كان من الطبيعي أن تتأثر موائد الصائمين بافتقاد بعض متطلباتها، على نحو ما يخبرنا به زين الدين المَلَطي (ت 920هـ/1514م) -في ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- بقوله ضمن عرضه لأحداث سنة 843هـ/1439م: “وفي رمضان فُقِد السمن وعسل النحل بمصر حتى كان لا يوجد..، وعَزّ وجود اللحم والخضراوات”.
وهذه التحديات -التي تحدث أحيانا في أجواء شهر رمضان- جرى التعامل معها بـأساليب متعددة من التدخل الحكومي المباشر والتكافل الاجتماعي. ومن نماذج ذلك ما يوضحه ابن حجر العسقلاني -في ‘إنباء الغُمْر بأبناء العُمْر‘ـ من أنه في أحد شهور رمضان “اشتد الغلاء بدمشق وبلغت الغِرَارة (= كيس حبوب يسع نحو 200كغم) من ستمئة إلى سبعمئة، فنادى النائب (= نائب السلطان المملوكي) في الفقراء بالاجتماع فاجتمعوا بالميدان، ففرقهم على الأغنياء ما بين الأمراء والقضاة والتجار، فقلّ سؤالهم وخَفّ صياحهم وسكتوا”.
وقد يكون من إجراءات مواجهة أزمات الأسعار في رمضان تدخل السلطات غير المباشر باتخاذها قرارات تحدد الأسعار بما يجعلها في متناول الجميع، وهو ما نجد أمثلة عليه لدى المَلَطي -في ‘نيل الأمل‘- منها أنه “في رمضان (سنة 874هـ/1469م) -في [يوم] مستهلّه- نودي على القمح بألف درهم للإرْدَبّ (= 150كغم)، وأمر السلطان بفتح شُونَتَيْن (= مخزنيْن للحبوب) من شُوَنِهِ، وأبيع فيهما بهذا السعر في هذا اليوم، فمشت علافة الناس بذلك وحصل بعض رفق..، وأبيع الرطل الخبز بستة نقرةً بعد أن كان بتسعة..، وكان هذا فاتحة للرخاء”.
التاريخ الإسلامي – تراث – موائد الصائمين
ظواهر طريفة
وتندرج تلك الإجراءات في مساعي السلطة لبث الاطمئنان العام بين فئات المجتمع التي تتأثر بما يحصل من غلاء يصوره المَلَطي أيضا بقوله في سياق آخر: “وفي رمضان كانت الأسعار مرتفعة، وأهلّ والناس في نكد من قلّة الأقوات وعدم وجود اللحم الضاني والبقريّ أيضا، والموجود لحم الإبل يباع في رمضان بأغلى الأثمان..، والأرزّ القدح بنحو الأربعين ولا وجود له ولا الثَّمَن”.
وأوصل تطور العادات ذات الصلة بموائد رمضان إلى ظواهر مجتمعية طريفة مثل المطاعم التجارية، التي من أغربها تلك التي كانت تقام بإزاء الكعبة المشرفة طوال شهر رمضان مشتملة على أنواع من “تماثيل الأطعمة”، ويصف لنا مشهدها الرحالة الأديب والفقيه ابن جُبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) قائلا:
“وأما الحلوى فيُصنَع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى، إنهم يصنعون بها حكايات (= نماذج) جميع الفواكه الرطبة واليابسة. وفي الأشهر الثلاثة -رجب وشعبان ورمضان- يتصل منها أسمطة بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد أكمل منظرا منها لا بمصر ولا بسواها، قد صُوِّرت منها تصاوير (= تماثيل) إنسانية وفاكهية، وجُلِّيَتْ (= أظهِرت) في منصات كأنها العرائس، ونُضِّدتْ بسائر أنواعها المنضَّدة الملونة، فتلوح كأنها الأزاهر حسنا فتقيّد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار”!!
ومن تلك الظواهر الطريفة أيضا عادة “التسحير” (النداء للسحور) التي صارت -منذ وقت مبكر- جزءا من الثقافة الرمضانية في المجتمعات الإسلامية، منذ أن عرف المسلمون منهج الإعلام بوقت السحور في عهد الرسول ﷺ.
فقد جاء في صحيحيْ البخاري (ت 256هـ/870م) ومسلم (ت 261هـ/ 875م) قول النبي ﷺ: “إن بلالا (= بلال بن رباح ت 20هـ/642م) يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم”، والمقصود هنا هو الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم (ت 15هـ/637م).
ويعلق زين الدين ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) –في كتابه ‘فتح الباري شرح صحيح البخاري‘- على هذا الحديث النبوي بقوله إن الأذانيْن يجمعان “بين المصالح كلها: إيقاظ النُّوّام..، والمبادرة بالسحور للصُّوّام، وبين الإعلام بالوقت بعد دخوله”.
صور من التاريخ الإسلامي
فنون إنشادية
وخلال مختلف أعصار الإسلام وفي شتى أمصاره؛ اتبع الإعلام بالسحور أساليب متعددة يرسم لنا الفقيه ابن الحاج المالكي (ت 737هـ/1336م) -في كتابه ‘المدخل‘ـ لوحة عامة لأنواعها؛ فيقول إن التسحير “اختلفت فيه عوائد الأقاليم…، ألا ترى أن التسحير في الديار المصرية بالجامع يقول المؤذنون: تسحّروا، كلوا واشربوا، وما أشبه ذلك على ما هو معلوم من أقوالهم..، وأهل اليمن وبعض أهل المغرب يسحرون بدقّ الأبواب على أصحاب البيوت..، وأما أهل الشام فإنهم يسحرون بدقّ الطّار (= الدُّف) وضرْب الشَّبّابَة (= مزمار خشبي)”.
ويبدو أن أهل الغرب الإسلامي استخدموا أكثر من وسيلة في ممارستهم عادة التسحير؛ فابن الحاج يفيدنا أيضا بأن بعضهم “إذا كان وقت السحور عندهم يضربون بالنفير (= البوق) على المنار (= المئذنة) ويكررونه”.
وتلك عادة شبيهة باستخدام الأندلسيين النفخ في البوق للإعلان عن وقت الإفطار، وهو ما يذكره الإمام أبو العباس الوَنْشَريسي المالكي (ت 914هـ/1508م) -في ‘المِعْيار المعْرِب‘ـ بقوله: “وهذا البوق صار عَلَماً -في الأندلس في رمضان- على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار”.
ويحدثنا الرحالة ابن بطوطة عن أن أهل مكة المكرمة كانت عندهم بدائل متعددة لإعلام الجمهور بوقت السحور، بينها فوانيس وقناديل الإضاءة الرمضانية؛ فيذكر أنه “في ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى صومعة (= مئذنة)، فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع”.
وبما أن “التسحير” تحوّل إلى مهنة وثقافة مجتمعية بدل كونه أذانا صادرا من منارات المساجد، فقد صاحبته –مع مرور- الوقت أنواع من القوافي الشعرية والطرق الإنشادية، فصار بذلك أقرب إلى الفنون الأدبية والتقاليد الشعبية.
ولذا لم تتوقف حدود منظومة التسحير عند إعلام الصائمين بدخول الوقت، وإنما تركت أثرا ثقافيا وحضاريا بتدشين فن أدبي عُرف بـ”القُوما”، وجاء اشتقاق اسمه هذا “من قول المغنين للسَّحَر كلَّ بيت منه بعد غناء..: «قوما للسحور»، ينبهون به رب المنزل، ويذكرون فيه مدحه والدعاء له..، فأطلقوا عليه هذا الاسم وصار عَلَماً له”؛ طبقا لابن حجة الحموي (ت 837هـ/1433م) في كتابه ‘بلوغ الأمل في فن الزجل‘.
ويحدثنا ابن حجة الحموي عن بدايات هذا التحول الفني الأدبي في طريقة “التسحير”، بقوله إن أول من اخترع للتسحير نمطه الشعري الإنشادي المسمى “القوما” هم “البغداديون.. في دولة الخلفاء من بني العباس، برسم (= لغرض) السحور في شهر رمضان المعظم..، وقيل: إن أول من اخترعه ابن نقطة (= مطرب شعبي ت بعد 575هـ/1179م) برسم الخليفة الناصر (لدين الله العباسي ت 622هـ/1225م)، والصحيح أنه مُخترَع من قبله”.
ثم أشار الحموي إلى أن ابن نقطة هذا كان محبوبا لدى الخليفة فـ”كان الناصر يطرب له”، كما كان له فرقة إنشادية و”أتباع.. من المسحرين” ينشدون معه في ليالي بغداد الرمضانية، ثم ساروا على طريقته من بعده بقيادة أحد أبنائه “ماهر في نَظْم «القُوما» والغناء به” في الأسحار طوال رمضان!!