في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا، قامت فرنسا بالاستيلاء على ممتلكات بعض الأوليغارشية الروسية (الأقلية ذات النفوذ والثروة) المستهدفة بالعقوبات الاقتصادية، وبعد أن أضرمت القوات الروسية النار في متحف إيفانكيف، الواقع على بعد 50 كيلومترا من كييف، بدأت مخاوف كثيرة في جميع أنحاء أوروبا بشأن الحفاظ على الأعمال الفنية في زمن الحرب.
وفي فرنسا، يتبلور الاهتمام العام حول مصير المجموعات الروسية والأوكرانية المعروضة في متاحفها، خاصة مجموعة موروزوف المرموقة التي تستضيفها مؤسسة “لويس فويتون” (Louis Vuitton) منذ 22 سبتمبر/أيلول الماضي إلى غاية الثالث من أبريل/نيسان المقبل.
وبينما تجتذب المؤسسة الفرنسية الزائرين البالغ عددهم أكثر من مليون زائر، ارتفعت الأصوات المطالبة بمصادرة المجموعة الروسية، فهل هذا ممكن قانونيا؟
مجموعة الأخوين موروزوف
تتكون مجموعة موروزوف من 200 لوحة ومنحوتة وصور فوتوغرافية تضم روائع من الفن الحديث تعود إلى القرن الـ20 لجامعي الأعمال الفنية الروسيين الأخوين ميخائيل أبراموفيتش (1870ـ1903) وإيفان أبراموفيتش (1871ـ1921).
لوحة “لا مير سانت ماري” للفنان فنسنت فان غوخ 1888
AD
وقد تم تأميم مقتنيات موروزوف بعد الثورة البلشفية عام 1917 وعرضها الأخوان على جدران الفنادق الخاصة بهما. وعند اندلاع الحرب مع ألمانيا، حُفظت التحف لسنوات بدرجة حرارة 40 تحت الصفر قبل أن يتمكن الجمهور السوفياتي من مشاهدتها في أكبر 3 متاحف في روسيا في نهاية الخمسينيات.
وسافرت المجموعة إلى باريس من متحف هيرميتاج في سانت بطرسبرغ، ومتحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة ومعرض ترتياكوف الوطني في موسكو، فضلا عن متحف مينيك في بيلاروسيا ودنيبروبيتروفسك في أوكرانيا.
ومن بين أشهر الأعمال الأيقونة لوحة للفنان فان غوخ، وصورة أمبرواز فولارد للرسام الإسباني بابلو بيكاسو ولوحة الثلاثي المغربي للفنان هنري ماتيس.
وتأتي هذه المجموعة من المؤسسات التي أنشأها الأوليغارشيون الروس بيتر أوليغوفيتش وفلاديمير وإيكاترينا سمنيخين وفياتشيسلاف موشيه كانتور.
معرض دبلوماسي
يعتبر هذا المعرض سياسيا بشكل واضح، إذ يبدأ كُتيّب المعرض بنص كتبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحيي فيه “الجسور التي بناها الفنانون وعشاق الفنون” بين روسيا وفرنسا، بالإضافة إلى نص مكتوب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى “أصدقائه الفرنسيين”. وتجدر الإشارة إلى أنه من النادر جدا أن يوقع رئيسان على كُتيب معرض ما.
وفي الواقع، كان من المحتمل ألا يرى هذا المعرض النور بسبب الأزمات الدبلوماسية السابقة المتعلقة بالحرب في سوريا وضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا.
ويوضح جان بول كلافيري، مستشار برنارد أرنو الرئيس التنفيذي لشركة “إل في إم إش” (LVMH) أن المفاوضات التي تمت لتنظيم المعرض “كادت أن تفشل عدة مرات” لأن هذا النوع من المجموعات الفنية لا يمكنها مغادرة الأراضي الروسية إلا بتوقيع شخصي من الرئيس بوتين.
وفي النهاية تم تسجيل المعرض في صيف 2017 كجزء من مشروع “إليزيان” (Elysian) التابع لمبادرة “حوار تريانون” (Dialogue de Trianon) التي تهدف إلى التقارب وتعزيز التعاون الفرنسي الروسي. وبعد ذلك، تم استقبال فلاديمير بوتين في فرنسا لإجراء مناقشات مباشرة مع ماكرون.
حصانة الأعمال الفنية “المعروضة”
يقول المحامي المتخصص في قانون الفن أوليفييه دي بايك للجزيرة نت إنه “من المستحيل قانونا مصادرة مجموعة فنية أثناء عرضها في فرنسا”، خاصة أن المعرض كان من المقرر أن ينتهي في 19 فبراير/شباط الماضي وتم تمديده قبل بضعة أسابيع.
AD
ويضيف “قبل وصول عمل أو مجموعة من مؤسسة عامة أجنبية إلى فرنسا، يُنشر مرسوم يمنع مصادرة القطع الفنية في الجريدة الرسمية ليكون بمثابة حصانة حتى تظل محمية طوال فترة عرضها. ويمكن تمديد فترة أمر الحماية كما هو الحال بالنسبة للمجموعة موضع النقاش في مؤسسة فويتون”.
وتسمح عقود القروض والتأمين التي تمت إعادة التفاوض بشأنها للمؤسسة الباريسية بالبقاء وديعة الأعمال حتى السادس من أبريل/نيسان المقبل. ويضمن المرسوم الذي صدر في فبراير/شباط 2021، وتم تمديده لهذه المناسبة، عدم إمكانية مصادرة الأعمال من قبل فرنسا حتى ذلك التاريخ. وإذا لم يتم الكشف رسميا عن قيمة التأمين للأعمال المعارة، فمن المحتمل أنها تقدر بحوالي ملياري يورو.
قضية مشابهة
تم وضع تشريع الحصانة لأول مرة في عام 1994 بسبب قضية شبيهة ارتبطت بمعرض أقيم على شرف الفنان الفرنسي هنري ماتيس في مركز بومبيدو الباريسي، وتضمنت الأعمال المعروضة لوحات من مجموعة الفنان الروسي سيرغي تشتشوكين.
وعندما ادعى ورثة ماتيس حق الملكية والمصادرة، تدخل القضاء واعتبر أن الدولة الروسية وحدها من يمكنها تسوية هذا النوع من الصراع، وفقا للمحامي المتخصص.
ويستند هذا إلى المادة 61 من قانون الثامن من أغسطس/آب 1994 التي تنص على أن “السلع الثقافية المعارة من قبل حكومة أجنبية أو سلطة عامة أو مؤسسة ثقافية أجنبية، والمزمع عرضها للجمهور في فرنسا، لا يمكن مصادرتها. ويحدد قرار مشترك لوزير الثقافة ووزير الخارجية قائمة بالممتلكات الثقافية لكل معرض ويحدد القرض ويختار منظمي المعرض”.
وبالتالي، ستبقى مجموعة موروزوف غير قابلة للمصادرة حتى السادس من أبريل/نيسان المقبل، ويمكن أن يستمر مفعول مرسوم “عدم القدرة على الاستيلاء” حتى 15 مايو/أيار.
لوحة “ركن من أركان الحديقة في مونتنيغرو” للفنان كلود مونيه
شروط السفر
تقترن عودة القطع إلى البلد الأصلي بشروط الإرسال؛ إذ يثير السياق الدولي الحالي عدة أسئلة من قبيل هل يمكن أن يكون هناك عرقلة في عودة الأعمال الفنية في انتظار هدوء الأوضاع بين موسكو وكييف؟ وكيف ستنتقل هذه الأعمال إذا استمرت الحرب؟ فضلا عن المصادرة، وهل ستتمكن هذه الأعمال من العودة إلى روسيا؟
يقول دي بايك “سيكون من الصعب إعادة هذه الأعمال إلى روسيا أو أوكرانيا؛ لأنه يجب ألا ننسى أن بعضها جاء من أوكرانيا كذلك، وأعتقد أنها ستبقى في فرسا طالما عودتها غير ممكنة. وبالتالي، سيتم تمديد مدة المراسيم التي تمنع المصادرة من فترة لأخرى”.
وهذا يعني أنه يمكن لفرنسا أن تحافظ على هذه الأعمال وتعيق رجوعها لأسباب أمنية حتى تهدأ الأوضاع الدبلوماسية والعسكرية بين البلدين، وحتى يتحقق ذلك، ستظل معروضة في مؤسسة لويس فويتون في باريس.
وإذا كان من غير المتوقع أن تصادر فرنسا حاليا هذه الأعمال، فقد تتمكن من تجميد حركتها بسبب أن عودتها إلى روسيا لا يمكن أن تتم في ظروف الأمن والسلامة المثلى.
وبدوره، أشار جان بول كلافيري إلى أنه في الوقت الحالي لم يتم إجراء أي محادثات مع السفارة أو المتاحف الروسية. وتابع قائلا إن “أولويتنا هي حماية القطع الفنية وضمان عودتها إلى متحفهم، وفق الاتفاق، لكن إذا كانت ظروف السفر غير ملائمة، فسوف نضطر للانتظار”.
لوحة “بستان في الخريف” للفنانة ناتايا غونشاروفا، منطقة كالوغا 1909
موسكو وباريس.. بين الفن والسياسة
يرمز معرض مجموعة موروزوف إلى الجسر المزدوج للفن والسياسة وهو مبني على شراكة طويلة الأمد بين فرنسا وروسيا إذ تعهدت مؤسسة لويس فويتون بتمويل ترميم وتحديث المتاحف الروسية بشكل خاص.
وقد أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التحديات التي يواجهها مشروع بهذه الأهمية، وأكد على الروابط التي توحد روسيا بأوروبا قائلا “هناك أثر واضح تتنفسه الروح الأوروبية في روسيا”، بحضور وزيرة الثقافة الروسية أولغا ليوبيموفا، خلال افتتاح المعرض في 21 سبتمبر/أيلول الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أن بوتين تبرع بأكثر من 250 قطعة من مجموعته من الأعمال السوفياتية والروسية المعاصرة إلى مركز بومبيدو في باريس عام 2016.
وفي السنة نفسها، جمعت بين البلدين أحداث عديدة، من بينها افتتاح كاتدرائية أرثوذكسية ومركز ثقافي في العاصمة الفرنسية بتمويل كامل من موسكو واستضافة الكرملين لمعرض الملك الفرنسي سانت لويس. أحداث فنية كثيرة ساعدت فرنسا وروسيا إلى فهم ورؤية بعضهما البعض من خلال الرسم فقط.