كتاب “كيف تخسر الصين؟”: لهذه الأسباب لا توجد دولة أخرى تستخدم النموذج الصيني للتنمية

وفق سياساتها التمددية ومبادرة الحزام والطريق التي تربط آسيا بأوروبا، وصولا إلى إستراتيجيتها المعنونة “صنع في الصين 2025” تسعي بكين لإحداث هيمنة سياسية بفعل توظيف السياسات الصناعية والتقنية، داخل مجموعة من الاقتصادات الكبيرة سواء في أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو أوروبا.

وإذ تقوم بتوسيع نفوذها داخل النظام العالمي، يخشى كثيرون من أن النفوذ الاقتصادي للصين، المترافق بنموه في مجال الابتكارات التكنولوجية، والقوة العسكرية، سيسمح لها بإعادة تشكيل العالم وفق منظورها.

ورغم نقاط قوة داخل هذا النموذج، فإن الواقع يشكك في إمكانية استحواذ الصين على زمام الأمور دوليا، حيث تدرك كل من الدول الغنية والفقيرة، وكذا الكبيرة والصغيرة، في جميع أنحاء العالم، أن توغل الصين في نسيجها الاقتصادي المحلي مما يجعل استقلاليتها مهددة.

وفي هذا الصدد يأتي عمل لوك باتي (Luke Patey) زميل أول في برنامج النفط والغاز لأفريقيا بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة، وهو مستقل تابع لجامعة أكسفورد العريقة، وأيضا باحث أول في المعهد الدانماركي للدراسات الدولية، كما له إصدارات مهمة أحدها كتابه “كيف تخسر الصين: مقاومة الطموحات الصينية العالمية” (How China Loses The Pushback against Chinese Global Ambitions).

يناقش باتي من خلال كتابه -الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد سنة 2021- ما يسميه “أجندة الصين الاقتصادية التوسعية” وأثرها على العمل السياسي، وكذا التوسع العسكري الذي يمكن أن يقوض طموحاتها للسيطرة على الاقتصاد العالمي والشؤون العالمية، وهو الكتاب الذي يشكل أرضية حوار الجزيرة نت معه.

قام الباحث بعمل ميداني أثناء أسفاره إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا وأوروبا، تجسد بمحاورته لعدد من النشطاء ومديري الأعمال والدبلوماسيين والمفكرين من أجل فهم التحديات التي تهدد قوة الصين الصاعدة.

“كيف تخسر الصين: مقاومة الطموحات الصينية العالمية” صدر عن مطبعة أكسفورد العام الجاري
وفي الوقت الذي تتركز النقاشات حول المنافسة الإستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة، فإن دراسة باتي تتجاوز ذلك لتظهر كذلك تفاعلات بقية الدول والقوى الإقليمية مع الطموحات الصينية في العالم، فإلى الحوار:

نشهد مؤخرا أن الصين تتبع سياسات تجاه أفريقيا، هناك من يرى أنها قادمة على ما يسمى “فخ الديون” هل هذا صحيح؟ هل سياساتها تجاه أفريقيا تقدم حلولا أم أنها تعزز من أزمة القارة وترسخ فقط الهيمنة داخلها؟
إن مشاركة الصين في أفريقيا تشمل كلا من التجارة والاستثمار والتمويل وصولا إلى الأنشطة السياسية والدبلوماسية والأمنية. من الصعب تعميم علاقات الصين مع قارة تضم 54 دولة، ولكن هناك بعض الأمور المهمة التي تضيع بين التفاصيل وهي مهمة بخصوص علاقة الصين بأفريقيا. على سبيل المثال، يتم توجيه جزء كبير من انخراط الصين الاقتصادي في أفريقيا نحو عدد قليل من البلدان المختارة.

يذهب أكثر من نصف تمويل الصين -الذي يبلغ قيمته 153 مليار دولار- إلى إفريقيا نحو 5 دول وهي: أنغولا وزامبيا وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا. وفي هذا الصدد يجدر الإشارة إلى أن جنوب أفريقيا ونيجيريا يشكلان 30% من تجارة الصين مع أفريقيا. كما تمثل جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية أكثر من ربع إجمالي الاستثمار الصيني في هذه القارة.

تتمتع الصين بسمعة إيجابية في جميع أنحاء أفريقيا. وفقا لاستطلاع أجري مؤخرا لمقياس أفرو (Afro barometer) المطبق في 18 دولة أفريقية، فإنه معظم دول القارة تفضل نموذج التنمية الأميركي، ويرى المقياس في المقابل أنه لا توجد رؤية مشتركة للصين بأفريقيا.

من المهم أيضا إدراك وجود اختلافات في علاقة الصين داخل البلدان الأفريقية أيضا، وقد تفضل النخبة الأفريقية الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن يوفرها التمويل الصيني، في حين أن السكان المحليين والمجتمع المدني أكثر انتقادا للعواقب الاجتماعية والبيئية لتبعات هذا التمويل.

وسواء كانت التجارة والاستثمار في الصين وتمويل البنية التحتية ينتج عنها نموا إنمائيا دائما بالاقتصادات الأفريقية أم لا، فسيكون اختبارا حاسما للمضي قدما في العلاقة.

في ظل جائحة كوفيد-19 أصبح الاقتصاد الصيني جاذبا للاستثمار الأجنبي بشكل أكبر، هل الأخير يساهم في تعزيز الابتكار والنمو داخل الصين؟ وفي المقابل ألا يمكن اعتبار أن استثمار بكين في اقتصاديات العالم أداة سياسية تهدف لخلق ضغط على الدول؟
يعتمد هذا الأمر على استجابات الاقتصادات الكبرى الأخرى، وكذا الشركات متعددة الجنسيات. من ناحية أخرى، تواجه الشركات الصينية المملوكة للدولة والشركات الخاصة قيودا استثمارية جديدة في الاقتصادات المتقدمة. على سبيل المثال، أقر الاتحاد الأوروبي سياسات جديدة لفحص الاستثمار، كما أن الولايات المتحدة واليابان تغلب عليهما نظرة نقدية تجاه عمليات الاستحواذ الصينية على اقتصاداتهما.

هذا يغلق طريقا واحدا للصناعات الصينية لرفع قدراتها التكنولوجية من خلال عمليات الاستحواذ الخارجية. وبالإضافة إلى هذا، فإن تفوق اقتصاد الصين على الاقتصادات الكبيرة الأخرى خلال جائحة كوفيد-19 جعلها تجتذب مستويات كبيرة من الاستثمار الأجنبي، وساهم في التقدم التكنولوجي للشركات الصينية، وهو ما يمكن أن يعزز أيضا الابتكار والنمو في الصين.

هل اعتماد أوروبا الاقتصادي على الصين مهم لدرجة أنه يمكن أن يتيح لبكين القدرة على التأثير على السياسة الخارجية والدفاعية الأوروبية على حساب القيم الديمقراطية؟
إن اعتماد أوروبا الاقتصادي على الصين ليس أمرا حقيقيا. قد تكون الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتسير بخطى حثيثة لتصبح الأكبر، لكن هذا لا يعني بالضرورة الوصول إلى التجارة الخارجية والاستثمار.

هنا تجدر الإشارة إلى أن نسبة إجمالي تجارة الاتحاد الأوروبي مع الصين 6% فقط.

الصين هي الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، حيث تمثل 7% من إجمالي تجارتها، ولكن لديها مستويات مماثلة تقريبا مع الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى. يتمتع كل من الاتحاد الأوروبي وألمانيا بمحفظة تجارية متنوعة. إنهم لا يعتمدون على اقتصاد أجنبي بعينه.

ومع ذلك، من الصعب فصل الشكوك عن الواقع لأن هناك شركات أوروبية كبيرة، مثل فولكس فاغن، التي تستفيد بمستويات عالية من المبيعات والأرباح بالسوق الصينية. إذا كان الاتحاد الأوروبي يقدم تنازلات مرتبطة بسياسته الخارجية، وكذا الدفاع عن معايير وقيم الديمقراطية، فإن هذه القرارات يحركها إما غطاء زائف من التبعية الاقتصادية تجاه الصين أو يكون الدافع وراءها مصالح خاصة.

عندما شهدت الأرجنتين تولي رئيس جديد للسلطة أواخر 2015، دعا إلى تعليق وإلغاء محتمل لمشاريع البنية التحتية الصينية الضخمة التي تقدر بمليارات الدولارات. كيف ردت بكين على التغيير الديمقراطي الذي هدد مصالحها الاقتصادية؟ هل الضغوط المحلية من القطاع الخاص والنقابات العمالية وعلماء البيئة وغيرهم بالأرجنتين تعكس التحديات الأوسع التي تواجهها الصين في مبادرة الحزام والطريق الطموحة عبر أفريقيا وآسيا؟
لقد أدى انتخاب ماوريسيو ماكري (Mauricio Macri) رئيسا للأرجنتين إلى إعادة تشكيل عدد قليل من مشاريع البنية التحتية الصينية الكبيرة. ماكري لم يعد في السلطة والعديد من المشاريع الصينية، مثل السكك الحديدية وسدود الطاقة الكهرومائية، لا تزال قيد التطوير. لكن تم إصلاح العديد من الاتفاقيات لتعزيز المصالح المحلية بشكل أوثق.

وبخصوص وجود مطالب واحتجاجات عمالية ضد الوجود الصيني فإن هذا يوضح أنه رغم قوة الصين الاقتصادية الهائلة، فإنها تحتاج إلى التكيف مع المطالب المحلية إذا أرادت إنجاح مبادرة الحزام والطريق التي جاءت بها. هناك مصالح محلية تنافس المشاريع الصينية داخل البلدان التي تسعى بكين الاستثمار فيها. كما تسعى معظم الاقتصادات الناشئة والنامية أيضا إلى تحقيق توازن بإدخال شركاء أجانب آخرين مثل الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي والهند، من أجل عدم الارتهان للصين.

هل يمكن لنموذج التنمية الصيني أن يجد جذوره بهذه المناطق وفي نفس الوقت يطور أهدافه الاقتصادية والإستراتيجية؟
لا أرى أي دولة في العالم تتخذ النموذج الصيني في التنمية طريقا لها، ومرد ذلك ببساطة يكمن في كونهم لا يتمتعون بنفس الظروف المحلية التي كانت تعيشها الصين في الثمانينيات والتسعينيات، فنحن لا نتملك دولا كثيرة لديها عدد كبير من السكان المؤهلين يصبحون عمالا في المصانع بتكلفة منخفضة، تساعدهم على استغلال الاقتصاد العالمي وإحداث نمو سريع.

قد تنمو الهند بسرعة مذهلة في العقود المقبلة، لكنها ستجد صعوبة في إحداث نمو كبير. قد يلهم نجاح الصين في مجال التنمية الاقتصادية البلدان الأخرى لمضاعفة جداول أعمالها الخاصة بالحوكمة، لكن النموذج الاستبدادي الصيني يعمل أيضا عائق أمام تقدم بعض أهدافها الاقتصادية والإستراتيجية، مثل ما حدث من تراجع للتوسع العالمي لشركة هواوي وغيرها من التكنولوجيا الصينية.

نشهد اليوم تعزيز الاستثمارات الصينية بمنطقة دول بحر جنوب الصين، وهو ما تزامن مع اتخاذ بكين سياسات حازمة تجاه هذه الدول، بعد بناء علاقات تجارية عميقة مع جيرانها الآسيويين. كيف سيؤثر استخدام الصين للعقوبات غير الرسمية مثل توجيه الحكومة الصينية مواطنيها لمقاطعة بعض البضائع مثل ما حدث مع أستراليا وكوريا الجنوبية؟
إن الإكراه الاقتصادي الصيني الأخير ضد اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وتايوان بمثابة تذكير لجيرانها بأن العلاقات مع بكين أصبحت أكثر صعوبة مما كانت عليه السنوات الماضية. كانت نظرة الجيران منذ سنوات عديدة إيجابية تجاه بكين. لكن تصرفاتها الأخيرة تجاههم قوضت سمعتها بين جيرانها الكبار. حتى في الاقتصادات الناشئة والنامية بآسيا، يتزايد شك السكان المحليين تجاه الاستثمارات الصينية، خوفا من توظيف هذه الاستثمارات من طرف بكين ضد مصالح هذه الدول.

هناك من يرى بأن دولا مثل كوريا الجنوبية خضعت لضغوط الصين الاقتصادية لمنعها من وضع نام صاروخي دفاعي على حدودها مع كوريا الشمالية. هل هذا صحيح؟ وهل دول الجارة الأخرى ستخضع للهيمنة الصينية؟
كوريا الجنوبية لم تخضع للضغوط الاقتصادية الصينية، رغم أن بكين أغلقت السياحة الصينية نحو كوريا الجنوبية، كما أن الشركات الكورية تواجه ضغوطا للسماح لها بالعمل في الصين، إلا أن سول مضت قدما نحو تأسيس نظام دفاع صاروخي أميركي على أراضيها. هناك سوء فهم مشابه حول الإكراه الاقتصادي الصيني على أستراليا، التي تمكنت من إرسال الكثير من الصادرات، المطبق عليها عقوبات تجارية صينية، مثل الفحم والشعير، إلى أسواق جديدة. السوق الصينية مهمة بالنسبة لهم، لكن الاقتصاد العالمي كبير ومتنوع.

لم تتأثر العديد من الاقتصادات التي استهدفتها الصين بالعقوبات، وهو ما يشمل كذلك كندا التي تعرضت لعقوبات اقتصادية من الصين. وهنا تجدر الإشارة كذلك إلى أن للصين مصالح أيضا لا ترغب في إزعاجها من خلال ممارسة الكثير من الضغط على شركائها الاقتصاديين.

ألا يضعنا ما يحدث اليوم في العالم أمام نموذج جديد للعلاقات الدولية، نموذج قائم على تعدد الأقطاب يصعب أن يهمين فيه لاعب واحد على المشهد الدولي وحده؟
لم يعد النظام العالمي يعرف أحادية القطب، الولايات المتحدة في تدهور نسبي كقوة عظمى.

نحن في عالم متعدد الأقطاب حيث سيكون لمصالح القوى الأخرى تأثير أكبر. ستكون الصين لاعبا مهما في المستقبل، لكنها ستحتاج إلى إيجاد طريقة للتعايش مع القوى الكبرى الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والهند.

وهنا أريد أن أشير إلى أن الذين يجدون طرقا لتقديم تنازلات والتعاون مع الآخرين سوف يحققون أكبر قدر من النجاح. إذا استمرت الولايات المتحدة والصين في دفع مصالحهما بقوة مفرطة، فسوف تفشلان في تحقيق طموحاتهما العالمية. تحتاج كل من واشنطن وبكين إلى الاعتراف بأنهما غير مؤهلين معا بأن يكونا في قلب الاقتصاد العالمي والسياسي لوحدهما.

Related Posts