قبل 3 أعوام، أطلقت مجموعة صغيرة من الأكاديميين في إحدى الجامعات الألمانية برنامجا تعاونيا مع الجيش لم يسبق له مثيل، يقوم على استخدام الروايات في التنبؤ بالصراعات المستقبلية بالعالم.
وفي تقريره -الذي نشرته صحيفة “الغارديان” (The Guardian) البريطانية- قال الكاتب فيليب أولترمان إنه من النادر -إن لم يكن من غير المرحب به- رؤية ضباط الجيش يتجولون في شوارع مدينة توبنغن، المدينة الجامعية التي تعرف بكونها موطن العديد من النوابغ على غرار الفيلسوف هيغل والشاعر فريدرش هولدرلين، ومعقل حزب الخضر الألماني، وسكانها معروفون بتكوينهم الأكاديمي وتوجهاتهم اليسارية.
وفي عام 2018، برزت مقاومة متزايدة في الحرم الجامعي لخطط إنشاء مركز أبحاث ذكاء اصطناعي رائد في أوروبا بالمنطقة المحيطة، وجادل الطلاب بأن دخول مصنعي الأسلحة إلى “وادي الإنترنت” في توبنغن يجلب العار إلى التقاليد الفكرية للجامعة.
الروايات للتنبؤ بالمستقبل
كان الهدف من زيارة مسؤولين رفيعي المستوى بالزي الميداني الرمادي للجيش الألماني -في مطلع فبراير/شباط 2018- إلى هذه المنطقة هو عقد اتفاق تعاون مع الأوساط الأكاديمية -وهو أمر لم يشهده العالم من قبل- وذلك في إطار مبادرة أُطلق عليها اسم “مشروع كاساندرا” (Project Cassandra). وعلى مدى عامين، وظّف الباحثون الجامعيون خبراتهم لمساعدة وزارة الدفاع الألمانية على التنبؤ بالمستقبل.
ولم يكن هؤلاء الأكاديميون متخصصين في الذكاء الاصطناعي أو محللين سياسيين، وإنما كانوا فريقا صغيرا من أساتذة الأدب بقيادة يورغن فيرتهايمر، أستاذ الأدب بجامعة توبنغن بألمانيا. وبعد مغادرة الضابطين، ظلت الأجواء متوترة بين أعضاء فريق فيرتهايمر. وكان أبرز سبب للقلق -وفق إيزابيل هولز مساعدة فيرتهايمر- هو أنهم لم يكونوا متأكدين بشأن إمكانية إطلاع العامة على هذا المشروع.
رفضت الجامعة رسميا التعاون مع وزارة الدفاع، لذلك كانت المبادرة تُدار من قبل معهد الأخلاق العالمية، وهو مؤسسة مستقلة عن الكلية أنشأها الكاثوليكي المنشق الراحل هانس كونغ (توفي في إبريل/نيسان من العام الجاري 2021).
وتصدر هذا الخبر عناوين الصحف المحلية بعد الإعلان عن انطلاق المشروع. وكتبت صحيفة “نيكار كرونيك” أن فكرة استخدام وزارة الدفاع للأدب من أجل توقع الحروب الأهلية والكوارث الإنسانية في وقت مبكر فكرة ساحرة بقدر ما بدت ساذجة.
وتقول هولز “عليك أن تسأل نفسك لماذا يموّل الجيش مشروعا لن يكون له أية قيمة على الإطلاق؟ لم يأخذنا الجمهور ببساطة على محمل الجد. لقد ظنوا أننا مجرد مجانين”.
انبعاث الأسطورة
ومن وجهة نظر فيرتهايمر، لطالما طاردت اتهامات الجنون العرافين. وفي الأساطير اليونانية كانت “كاساندرا” كاهنة تتمتع بموهبة الاستبصار التي سمحت لها بالتنبؤ بهجوم المحاربين اليونانيين على طروادة من خلال الاختباء داخل “حصان طروادة”، وبوفاة الملك الموكياني أجاممنون على يد زوجته وعشيقها، ورحلة أوديسيوس التي دامت 10 أعوام وموته. ولكن الناس كذبوا تنبؤاتها وتحذيراتها، قبل وقوعها.
ووفق الصحيفة البريطانية الغارديان، تزخر شبكة الإنترنت بالكثير من قوائم الكتب التي تنبأت بالعديد من الأحداث قبل وقوعها، ولكن معظمها كان عبارة عن محاولات عرضية لاستشراف المستقبل، وكان أصحابها من كُتّاب الخيال العلمي.
وفي عام 1914، كتب هربرت جورج ويلز في رواية “العالم يتحرر” عن القنابل الذرية التي تلوث عناصرها المشعة ساحات القتال، وذلك قبل 3 عقود من وقوع كارثة هيروشيما وناغازاكي. كما تنبأ الكاتب البريطاني جون برونر في روايته “الوقوف في زنجبار” (1968) بأن دول أوروبا ستشكل اتحادا جماعيا، وستبرز الصين كقوة عالمية، إلى جانب توقع الانحدار الاقتصادي لمدينة ديترويت الأميركية وتنصيب “الرئيس أوباما”.
ويعتقد فيرتهايمر أن الكتّاب العظماء يتمتعون بـ “موهبة حسية”. ويرى أن الأدب يميل إلى توجيه الاتجاهات الاجتماعية والحالات المزاجية وخاصة الصراعات التي يفضل السياسيون عدم مناقشتها إلى أن تظهر إلى العلن. ويوضح قائلا “يجسّد الكتّاب الواقع بطريقة تُمكّن قرّاءهم من تخيل العالم بشكل فوري والتعرف إلى أنفسهم بداخله. كما أنهم يعملون على المستويين الموضوعي والشخصي ويخلقون قوائم حصرية للتصميمات الداخلية العاطفية لحياة الأفراد عبر التاريخ”، وفق تقرير الغارديان.
ويزعم فيرتهايمر أنه إذا كان بوسع الدول أن تتعلم قراءة الروايات باعتبارها نوعا من أجهزة قياس الزلازل الأدبية، فربما يمكنها تحديد الصراعات التي توشك على التحول إلى دوامة من العنف، والتدخل لإنقاذ ملايين الأرواح التي من المحتمل أن تُزهق.
وأشار الكاتب إلى أن مشروع كاساندرا التجريبي يعد توضيحا للطريقة التي كان يمكن من خلالها التنبؤ بالحرب في كوسوفو وصعود بوكو حرام من خلال دراسة النصوص الأدبية.
ويرى الكاتب أن التنبؤ بالأزمات غير المتوقعة أصبح الهاجس الأكبر للغرب في القرن الـ21، الذي كان طرفا في اثنتين من عمليات الإبادة الجماعية التي حصلت في البوسنة ورواندا، والتي كان يعتقد لاحقا على نطاق واسع أنه كان من الممكن منعها لو كان المجتمع الدولي قد استجاب باستعراض أقوى للقوة. ثم اندفع الغرب إلى الحرب في أفغانستان، وشارك في تدخل غير مدروس في العراق، بينما كان ينتقد نصائح الخبراء الذين درسوا الانقسامات السياسية والصراعات الطائفية على أرض الواقع.
تنبؤات معاصرة
ويقول الكاتب يبدو أنه لا مفر من حدوث أزمة كبرى، لكن لا يمكن للحكومات سوى محاولة توقّع الاتجاه الذي ستأتي منه هذه الأزمات، والتصدي لها مسبقا. هذا ليس بالخبر الجديد إلى حد ما، ذلك أن التحذير من الأزمات الوشيكة هو ما يجب أن تفعله وكالات الاستخبارات، لكن الجديد هو أن المعلومات التي كانت متاحة في السابق للجواسيس فقط أصبحت الآن متاحة مجانا على الإنترنت ويمكن جمعها علنا من قبل مؤسسات الدولة الأخرى.
واليوم، تأمل معظم الحكومات من خلال البيانات الضخمة في العثور على المعلومات المهمة التي تسمح لها بالتنبؤ بالمستقبل. وتتصدر أميركا والدول الإسكندنافية مجال التنبؤ بالصراعات من خلال التعلم الآلي.
وتتمحور محاولات ألمانيا للاستبصار الجيوسياسي حول منصة إدارة ضخمة تم تطويرها في جامعة ميونيخ للقوات المسلحة الفدرالية الألمانية، تسمى “بريفيو” (preview)، ويشرف عليها أستاذ السياسة الدولية كارلو ماسالا.
وتجمع “بريفيو” المعلومات التي يمكن أن تقدّم تلميحا حول مكان اندلاع الأزمة على هذا الكوكب، من خلال موجزات “آر إس إس” (RSS) التي تقدّمها مواقع الأخبار، وبنوك البيانات التي تتعقب النزاعات العسكرية والاحتجاجات المدنية أو تفجيرات السيارات المفخخة. هذا بالإضافة إلى بعض القرائن الهيكلية الأوسع، مثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والهياكل التعليمية الإقليمية، وبيانات تغير المناخ.
وأوضح الكاتب أنه يقع إدخال كل هذه المعلومات الأولية في “واتسون” (Watson)، وهي منصة ذكاء اصطناعي خاصة بشركة “آي بي إم” (IBM)، التي تساعد على تحويلها إلى خرائط تسلط الضوء على نقاط المشاكل المحتملة؛ يشير اللون الأخضر إلى الاستقرار، ويبرز اللون البرتقالي عدم الاستقرار، بينما يحذر اللون الأحمر من حدوث صراع وشيك.
ويقول أحد المسؤولين الألمان إن نظام التنبؤ بالذكاء الاصطناعي قدّم تحذيرا بالفعل لحكومة أنجيلا ميركل قبل بضعة أشهر من إمكانيّة حدوث تمرد في مقاطعة كابو ديلغادو شمال موزمبيق، حيث تقاتل قوات الأمن مسلحين يحاولون إقامة “دولة إسلامية”. لكن نظام الإنذار المبكر لا يزال قيد التطوير، والهدف منه هو التمكن في النهاية من التنبؤ بالصراعات قبل 12-18 شهرا من حدوثها.
تقييم النتائج
يستغرق نظام واتسون -وهو كمبيوتر عملاق لحل الأسئلة الذي تعتمد عليه منصة “بريفيو” للتنبؤ بالأزمات- ثانية واحدة لمعالجة 500 غيغابايت، أي ما يعادل مليون كتاب. لكن واتسون لا يستطيع قراءة ما بين السطور، لذلك قد يساعد أستاذ في الأدب على تحسين المهارات الخطية للكمبيوتر.
حتى مع فريقه المكون من 3 باحثين، بدا التحدي الذي وضعه مركز فيرتهايمر صعبا. ولتسيير الأمور، قرر الفريق اعتماد طريقة التنقيب في النصوص، وذلك من خلال مسح الكتب بحثا عن كلمات وعبارات مؤثرة لبناء خريطة من التنبؤات المرتبطة بقضايا محددة أو مناطق جغرافية أو شخصيات سياسية. استشار الفريق قسم تكنولوجيا المعلومات، لكن المشكلة تكمن في أن التنقيب في النصوص يتطلب رقمنة الكتب، مع تحديد مصطلحات البحث المختارة من قبل الباحثين مسبقا.
وبدلا من ذلك، قررت المجموعة التركيز على ما تسميه “البنية التحتية الأدبية”، أي المعلومات المتعلّقة بالنص، ورأي القراء فيه، وما إذا حظي بعديد الجوائز أم أنه تم حظره واضطر المؤلف إلى مغادرة البلاد.
وفي عام 2018، بعد أسابيع من ذهاب ضباط الجيش الألماني إلى توبنغن، قدم فيرتهايمر النتائج الأولية التي توصل إليها في وزارة الدفاع في برلين، حيث لفتت النتائج الانتباه إلى نموذج مذبحة أوستاشا التي ارتكبت بحق الصرب في كرواتيا خلال الحرب العالمية الثانية.
في السنوات التي تلت ذلك، أظهر فيرتهايمر أنه كان هناك غياب لروايات الصداقات الألبانية الصربية أو قصص الحب مقابل زيادة في الروايات التاريخية التحريفية، مشيرا إلى أن المؤسسات الأدبية قد “مهدت الطريق للحرب” قبل عقد من بدء إراقة الدماء في حرب كوسوفو في عام 1998. وقال مسؤول في وزارة الدفاع -كان قد حضر العرض- “لقد كان مشروعا صغيرا لكنه خلق قدرا مذهلا من النتائج المفيدة”.
وقررت وزارة الدفاع الألمانية تمديد تمويل مشروع كاساندرا لمدة عامين، وطلبت من فريق فيرتهايمر أن يطور طريقة لتحويل الرؤى الأدبية إلى حقائق ملموسة يمكن أن يستخدمها الإستراتيجيون أو العسكريون لتحليل مناطق الأزمات، خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، من خلال قياس “تصاعد اللهجة العنيفة وفق ترتيب زمني”.
ووفق تقرير الغارديان، شابت نظام التقييم في مشروع كاساندرا العديد من النقائص. فقد كانت مؤشراته مرنة إلا أنّ بعض التكهنات الأدبية أثبتت موثوقيتها. ففي فبراير/شباط 2019، بعد عامين من اهتمام فريق فيرتهايمر بالجزائر، اندلعت الاحتجاجات المدنية في الجزائر العاصمة وبالعديد من المدن الأخرى، وبلغت ذروتها باستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
وبذلك أنشأ مشروع كاساندرا رابطا ملموسا بين الأدب والأحداث التاريخية التجريبية. لكن تلقى فيرتهايمر مكالمة هاتفية لإيقاف مشروع كاساندرا في شتاء 2020 لأسباب مادية.
قال البعض إن السبب وراء تأزم الأوضاع هو الوباء، الذي خلق ضغوطا غير متوقعة على ميزانيات الحكومة، بينما أشار آخرون بأصابع الاتهام إلى دورة التعديل الوزاري التي استمرت 5 سنوات للمناصب الحكومية. ولا يزال بعض المسؤولين في حيرة من أمرهم، ويقول التقرير إنه يمكن للأدب للتنبؤ بالأزمات من خلال فكرة “نبوءة تحقق ذاتها”.