صدر حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد طبعة شاملة من الديوان الكبير لشاعر العراق محمد مهدي الجواهري واحتوت أجزاؤها الستة على كل شعر الشاعر الراحل خلال ما يربو على قرن من الزمان، وبينها قصائد جديدة لم تنشر من قبل.
وكان آخر إصدار لديوان الجواهري في العراق منتصف عام 1973 حين أصدرت وزارة الإعلام العراقية السابقة ديوان الشاعر الذي غادر بلاده معارضا ليجول في بقاع الأرض ويكتب الشعر.
وهذا الإصدار جاء بعد أن شكّل وزير الثقافة العراقي الحالي الدكتور حسن ناظم لجنة في دار الشؤون الثقافية طالبها بأن تتقصى كل ما له علاقة بالجواهري من قصائد شعرية، وهو ما حدا باللجنة أن تعمل طوال أشهر وتمكنت من جمع ما يمكن أن يوصف بأنه “كل شعر الجواهري” بما في ذلك تلك القصائد التي كان لا يحبذ نشرها في أي ديوان لأسباب عديدة.
جواهر الكلام والروح الوطنية
كان محمد مهدي الجواهري -الذي لقب أيضا بالنهر (العراقي) الثالث بعد نهري دجلة والفرات- يعرف بارتجاله للشعر العمودي ارتجالا في لحظة إلقاء كما يحفظ شعره عن ظهر قلب كما يقال.
ولد في 26 يوليو/تموز عام 1899 في مدينة النجف وكان أبوه عبد الحسين عالما من علماء النجف، وعائلته من العوائل المعروفة وقد ألبسه أبوه العمامة الإسلامية ليكون عالم دين. وكان نابغا في حفظ الشعر منذ صغره وقد أطلق عليه لقب الجواهري نسبة إلى جده الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، الذي ألّف كتابا في الفقه وحمل عنوان (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام).
وقد تأثر الجواهري بما كانت تقيمه العائلة من مجالس الأدب والفقه، حتى أن والده كان حريصا على إرساله إلى المدرسة وأن يدرس على أساتذة كبار يعلمونه أصول النحو والصرف والبلاغة والفقه، ولذا نبغ بسن مبكرة وأصدر أول مجموعة شعرية وهو في الـ25 من العمر وحملت عنوان (خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح). وشارك الجواهري في ثورة العشرين ضد السلطات البريطانية.
حياة وطنية حافلة
ظل الجواهري يكتب الشعر وكان محملا بالهاجس الوطني، وترك ما كان أبوه يصبو إليه من أن يكون عالِما دينيا، حتى أنه أصبح أحد أعضاء (الحزب الوطني) متجها إلى المشاركة في الحركات السياسية وكذلك كان صحفيا وأول نقيب للصحفيين العراقيين مثلما هو أول رئيس لاتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، وكان مسؤولا عن جريدة الرأي العام.
وفي عام 1947 انتخب نائبا في مجلس النواب العراقي واستقال بعد عام واحد لمعارضته معاهدة بورتسموث (بين بلاده وبريطانيا)، والتي كان شقيقه أحد ضحاياها نتيجة لتعرضه لإطلاق نار خلال التظاهرات المعارضة لها، حيث مات متأثرا بجراحه بعد عدة أيام، وبسبب هذه الواقعة كتب قصيدتين يرثي فيهما أخاه بعنوان (أخي جعفر) و(يوم الشهيد).
توفي الجواهري يوم 27 يوليو/تموز 1997 في دمشق، ولم يوص بدفنه في بلده –حسب ابنته خيال– فدُفن في مقبرة الغرباء بالعاصمة السورية، وكتب على قبره “يرقد هنا بعيدًا عن دجلة الخير”.
وحفرت مواقف الجواهري الوطنية اسمه في الأذهان، ما حدا بوزارة الثقافة العراقية الحالية إلى التوجه بطباعة ديوان الجواهري وجمع كافة قصائده التي تم التحقق منها.
ويقول مدير عام الشؤون الثقافية الدكتور عارف الساعدي إن هذا الديوان تكفلت به وزارة الثقافة والسياحة والآثار ليكون “بنسخة مزيدة ومنقحة، وقد كان الوزير الدكتور حسن ناظم قد شكل لجنة من الدكتور سعيد عدنان والدكتور سعيد الزبيدي والدكتورة نادية العزاوي والدكتورة رهبة أسودي، من أجل العمل والحصول على القصائد غير المنشورة”.
وقد عملت اللجنة، كما يقول الساعدي، “مدة تربو على السنة، مراجعة وتدقيقا وتصحيحا، إلى أن اكتملت تفاصيل الديوان بإضافة عدد من القصائد التي كان الجواهري يرفض نشرها في حياته مثل (ته يا ربيع) (في تتويج الوصي عبدالإله) وقصائد أخرى”، لتأتي المرحلة الثانية وهي أن تخصص مطابع الشؤون الثقافية لمدة 40 يوما صباحا ومساء وفي ظروف متعبة متخمة بجائحة كورونا لطباعة الديوان.
مدير عام الشؤون الثقافية الدكتور عارف الساعدي قال إن هذا الديوان تكفلت به وزارة الثقافة العراقية
وأضاف الساعدي أن “دار الشؤون الثقافية تعاقدت مع مطبعة العتبة للتجليد، حيث حظي الديوان بتجليد مميز وبتصميم رائع للفنان ياسر جمال العتابي”، مؤكدا أنه “في الأيام المقبلة سيتم طرح الديوان في الأسواق، بعد أن شاركنا بنسخ محدودة في معرض بغداد للكتاب في نسخته الأخيرة”.
ويستدرك بالقول إن الوزير “كتب مقدمة الطبعة الجديدة، وتحدث فيها عن ولادة الجواهري، وبيئة النجف الدينية المعروفة وأسرها العلمية التي منها أسرة الشيخ عبد الحسين والده، والأسر القريبة من أسرة صاحب الجواهر، ومنها أسرة أنسبائهم آل كاشف الغطاء وأسر الشبيبي والحبوبي وبحر العلوم والقزويني واشتباك الأسرة الجواهرية بقبيلة زبيد”.
قصائد جديدة
وأصدر الجواهري العديد من الدواوين والكتب خلال مسيرته التي امتدت إلى ما يربو على الـ70 عاما منها (حلبة الأدب) و(جناية الروس والإنجليز في إيران) و(بين العاطفة والشعور) و(ديوان الجواهري) مجلدان، وأيضا (بريد الغربة)، و(بريد العودة) و(أيها الأرق) و(خلجات) وكذلك (ذكرياتي – ثلاثة أجزاء) و(الجمهرة) و(مختارات من الشعر العربي)، وغيرها، وهذا الإرث لم يكن كافيا للجنة لأنها ظلت تبحث عما هو غير منشور ليضاف إلى الطبعة الجديدة.
ويقول الدكتور سعيد عدنان -أحد أعضاء لجنة إصدار الطبعة الجديدة- إن “اللجنة المشرفة حرصت أن تستوعب كل شعره، وأن تضم إليها تلك القصائد التي لم تنشر في ديوان من قبل”. ويوضح أنه “تم الاتصال بأسرة الشاعر، بولده الدكتور كفاح الجواهري وابن أخته الأستاذ رواء الجصاني مدير مركز الجواهري في براغ وكانت استجابتهما كريمة يشكران عليها”.
سعيد عدنان: اللجنة المشرفة ضمت قصائد للجواهري لم تنشر من قبل
ويؤكد عدنان أن الاثنين زودا اللجنة بجملة قصائد لم يضمها ديوان من قبل، منها قصيدتان للجواهري في عبد الكريم قاسم بعد أن نجا من محاولة اغتياله في خريف سنة 1959.
وعن الجهات الأخرى التي أسهمت بتزويد الطبعة الجديدة يقول الدكتور عدنان إن الشاعر عبد الإله الياسري حين علم وهو في كندا بعمل اللجنة أرسل إليها قصيدة (أمين لا تغضب!) التي أعرب فيها الشاعر إعرابا صريحا جهيرا عن موقفه من انقلاب فبراير/شباط 1963، وهي مما لم ينشر في ديوان سابق.
وعن عملية تنظيم الديوان قال الدكتور عدنان إن “اللجنة جعلت القصائد مرتبة ترتيبا تاريخيا، وذكرت مناسبة كل قصيدة ودواعي قولها”، وإن اللجنة كما يضيف “استفادت من طبعة وزارة الإعلام العراقية وطبعة بيسان، وأعادت نشر المقدمة الطويلة التي كتبها الدكتور علي جواد الطاهر للجزء الأول من طبعة وزارة الإعلام (الجواهري من المولد حتى النشر في الجرائد)، لما انطوت عليه من فوائد كثيرة تتصل بنشأة الشاعر وعوامل تكوينه”.
كان وَقْع إصدار هذا الديوان جيدا في الوسط الثقافي والأدبي في العراق، فالمعروف عن الجواهري انشغاله الوطني الكبير فقد سحبت منه الجنسية العراقية بعد انقلاب 8 فبراير/شباط 1963، لرفضه الانقلاب بقيادة عبد السلام عارف، وعاد إلى العراق لاحقا بعد انقلاب 17 يوليو/تموز 1968، وغادر العراق أواخر عام 1980 إلى دمشق ثم إلى جمهورية التشيك، وسحبت منه الجنسية العراقية مرة أخرى عام 1994، وهو ما جعله يتحول إلى ظاهرة عربية وعالمية، فأخذت دور النشر تعيد طبع ديوانه عدة مرات، وقد ترجم رغم صعوبته إلى عدة لغات، بل تحول إلى رمز وطني.
ويقول الشاعر منذر عبد الحر، عضو المجلس المركزي لاتحاد الأدباء في العراق ومدير تحرير جريدة الدستور العراقية، إن الجواهري أصبح “جزءا مهما من نسيج الهوية العراقية الحقيقية، يجب أن يطلع عليه الجيل الجديد، لأن أغلبهم سمع به أو قرأ له كقراءة عابرة لا توضح القيمة الحقيقية لهذا الشاعر الذي عاش قرنا من الزمان ملأه عطاء، وتنقل بين أكثر من مكان وعانى الغربة حتى مات غريبا يحن إلى وطنه الذي كتب عنه أعذب وأجمل وأقوى القصائد”.
منذر عبد الحر: الجواهري أصبح جزءا مهما من نسيج الهوية العراقية الحقيقية
ويتابع عبد الحر بأن هذا ما جعل مبادرة دار الشؤون الثقافية العامة في إعادة طباعة أعماله الشعرية “أكثر من رائعة وذات أهمية تاريخية ووطنية وثقافية، لأنها ستتيح لمن يقرؤه جيدا الفرصة لقراءته بعين جديدة ورؤية مختلفة وسيكتشف سر أهمية هذا الشاعر ومكانته الثقافية والإبداعية بين فحول شعراء العربية”.
ويزيد على ذلك فيقول إن “توفير منجز الجواهري بطبعة جديدة تمثل حتما خطوة جدية مهمة، أراها منطلقا لخطوات مقبلة في التعريف بالرموز الوطنية والثقافية التي يفخر بها العراق ولم تعرف الأجيال الجديدة عنها شيئا سوى أسمائها وربما نتف قليلة من منجزها”.
وباعتباره شاعرا تأثر بالجواهري في مشواره الشعري يقول عبد الحر “شعر الجواهري، متنوع في موضوعاته، وحتى أساليب كتابته. ورغم أنه التزم الكتابة بالقصيدة ذات الشطرين، فإنه أخرجها من إطارها التقليدي ليمنحها بعدا جماليا وتعبيريا وبناء يتلاءم مع الموضوع الذي يكتب عنه”.