شهدت الساحة الثقافية العراقية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي معارك أدبية حامية بين أعمدة الأدب والشعر معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، وتوسع الخلاف بعد ذلك إلى أنصارهما.
ورغم شدة الخلافات بين كبار الشعراء العرب وقتها فإنها أسهمت في رفد الفكر وتنشيط الحركة الثقافية والصحافة والتأليف.
واستمر التنابز بين أنصار الشاعرين حتى وفاة الزهاوي في 23 فبراير/شباط 1936 عن عمر ناهز 73 عاما، ورثاه الرصافي بأبيات مؤثرة.
عمداء الأدب
الزهاوي والرصافي قامتان شعريتان احتلتا مساحة كبيرة في الساحات الشعرية والاجتماعية والسياسة في النصف الأول من القرن الـ20، بحسب أستاذ الأدب والنقد الدكتور سعد التميمي.
ويبين التميمي للجزيرة نت أن الكثير من الصفات والمواقف كانت تجمعهما، فكلاهما من أصول كردية لكنهما دافعا بشراسة عن القومية العربية، وكلاهما ولد في بغداد، ودرس كل منهما اللغة العربية ثم عملا في تدريسها، وأصبحا عضوين في مجلس النواب العثماني.
ويضيف التميمي أن الشاعرين كانا من المطالبين بحقوق المرأة، ورغم تراجع الزهاوي وصمته بسبب احتجاج المحافظين فقد أصر الرصافي على موقفه بقصائد تصدح بحرية المرأة وحقها في التعليم.
ويعتقد أن الزهاوي كان يتقرب من السلطة، أما الرصافي فلم يكن قريبا منها، وقد هاجم البريطانيين واعترض على تعيين فيصل ملكا للعراق، واستمر في انتقاد الحكومة.
وبعيدا عن الخصومة بينهما -يؤكد التميمي- تسيّد الشاعران الساحة الشعرية في العراق، واشتهرا في الوطن العربي، فالدكتور طه حسين لقب الزهاوي بشاعر العقل ومعري العصر، أما الرصافي فقد امتاز شعره باللغة المتينة والأسلوب الرصين.
ويرى الباحث والمؤرخ زيد خلدون جميل أن شعر الزهاوي والرصافي تميز ببساطته، ولكن الرصافي فاق الزهاوي رصانة ولغة، وحاول الاثنان استعمال الشعر للتعبير عن آرائهما الفكرية في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية.
ويضيف جميل للجزيرة نت أن الشاعرين امتازا بدعوتهما لتحصيل العلم وتحقيق التطور، وكان الرصافي الأغزر إنتاجا والأكثر حدة.
تنافس وخلاف
خلاف الزهاوي والرصافي كان أدبيا ثقافيا حول الأفضلية في كتابة الشعر وزعامته، فضلا عن حظوظهما في الحياة، بحسب التميمي.
ويضيف أن الصراع بدأه الزهاوي عندما سطع نجم الرصافي في الساحة العراقية والعربية، حيث اعتقد الزهاوي أن مركزه الشعري يتزحزح فأخذ بمهاجمة الرصافي، واتهمه بالجهل في العلوم العصرية، ليرد الرصافي بقصيدة طويلة تضمنت هجاء لاذعا مطلعها:
“قل للزهاوي إني كنت لاقيه مقالة كان فيها بادي الحذر
لقد بلعت علوم العصر قاطبة بلعا تضيق له بالوعة القذر”.
وفي حفل استقبال الرصافي بعد عودته من منفاه لا يخفي الزهاوي غيرته من الرصافي، فيعرض به بشكل غير مباشر ليغيظه، فيقول:
“لقد عاد معروف أخي بعد غيبة فأهلا برب الفضل والأدب الوفر
كلانا يريد الحق فيما يقوله وإني وإياه إلى غاية نجري
فخذ بيدي اللهم في كل دعوة وهذا أخي معروف اشدد به أزري”.
ليؤكد علو مكانته على مكانة الرصافي، وقد فهم الرصافي ما قصده الزهاوي فاغتاظ وخرج مسرعا.
ويذهب الشاعر رياض شلال إلى تشبيه ما كان يجري من مساجلات بين الرصافي والزهاوي بما جرى من معارضات ومعارك أدبية بين الأخطل وجرير والفرزدق أيام نهضة الشعر العربي في الزمن الأموي.
ويضيف شلال للجزيرة نت: تصدّر الشاعران موسوعة الشعر بشتى أساليبه وجميع أغراضه، وكانت للرصافي بصمة سياسية شديدة الوضوح، حيث كان يعتبر النفوذ البريطاني طاغيا على العهد الملكي السابق.
ويتابع شلال أن الشاعرين يعتبران من شعراء التجديد في ذلك العصر، خصوصا الزهاوي، حيث أدخل في شعره كل ما يدعو إلى ذلك فكرة وبيانا.
فيما يرجع جميل أسباب الخلاف إلى قيام بعض الخبثاء بتحريض الزهاوي، خاصة أنه كان حساسا ونرجسيا، ولم يقبل الرصافي بتهجم الزهاوي وهو الذي يهوى المواجهة والقتال، فرد الصاع صاعين وتصاعد الموقف بين الشاعرين حتى توسط الأصدقاء بينهما وتم التصالح.
مصالحة
الخصومة وتضاد الأقران موجودان في التاريخ منذ القدم، ولا سيما بين الشعراء والعلماء وبين المثقفين والكتاب وغيرهم كما يفيد الشاعر والكاتب مصطفى العاني.
ويروي العاني للجزيرة نت قصة تصالح الشاعرين الزهاوي والرصافي عام 1928 عندما أقام الوزير محمود صبحي الدفتري حفلة صلح أدبية في بيته بالحيدر خانة بحضور جمع من الأدباء والشعراء والوجهاء في بغداد آنذاك.
ويؤكد أن الدفتري نجح في إنهاء سنوات الخصومة بين الشاعرين بعد أن انتشرت في بغداد وأصبحت على كل لسان، لكنها لم تنته بين تلامذتهما وأنصارهما الذين استمروا في التنابز والقدح.
أدب الخصومة
ويلفت العاني إلى أن الرصافي كان أكثر سماحة من الزهاوي، فعندما سافر الزهاوي إلى مصر استقبله الرصافي بقصيدة في حفل أدبي حضره الشعراء، وقال:
“أرى بغداد من بعد اغبرار زهت بقدوم شاعرها الزهاوي
زهت بكبيرها أدبا وعلما زهت بطبيب علتها المداوي”.
ولم يدع في شعره ما يقدح بالزهاوي كما فعل الأخير حينما استقبله من المنفى، فكان هذا الموقف يحسب للرصافي في أدبه مع خصمه الزهاوي على حد قول العاني.
يذكر أنه وبعد وفاة الزهاوي وقف الرصافي على قبره باكيا، وقال:
“أيها الفيلسوف قد عشت مضنى مثل ميت وصرت بالموت حيا
ما حياة العظيم إلا خلود بعد موت يكون للجسم طيا
سوف يبقى بين الورى لك ذكر ناطق بالبقاء لم يخش شيا
أنت فرد في الفضل حيا وميتا حزت في الحالتين ذكرا عليا
سوف أبكي عليك شجوا وإني كنت أبكيك في الحياة شجيا”.
المصدر : الجزيرة