قابض الرمل أو الذاكرة الفلسطينية المتمنعة

يبدو أن صرخة لمحمود درويش أطلقها منذ سنوات في وجه النقاد العرب “ارحمونا من هذا الحب القاسي” قد بدأت تؤتي أكلها مع الجيل الأدبي الفلسطيني الجديد. فما يقدمه الروائي الفلسطيني اليوم يمثل ثورة أدبية حقيقية على منجزه، إن كان ذلك في مقاربة القضية الفلسطينية كقضية سياسية أو الرواية كفعل إبداعي.

فقد تطور الخطاب الفلسطيني تطورا كبيرا عندما راهن على نفسه كخطاب فني، دون أن يجعل من القضية الفلسطينية ذريعة تشرع حضور نصه. ويمثل هذا الأدب الجديد في الغالب نصوص اللاجئين في القارات الخمس.

وتمثل “قابض الرمل” للفلسطيني الأردني عمر خليفة، أستاذ الأدب العربي بجامعة جورج تاون في قطر، الصادرة مؤخرا عن دار الأهلية، واحدة من هذه المدونة الجديدة المتحررة من الخطاب القديم والمؤسسة لأدب جديد يقارب القضية الفلسطينية من نوافذ جديدة.

هذه الرواية تحكي عن مجموعة من الصحفيين الشباب يحاولون استنطاق شيخ فلسطيني هو آخر من شهد النكبة وعمليات التهجير الفلسطيني، في حوار لصحيفة، غير أن هذا الشيخ المعروف بصمته يصبح عقبة كبرى أمام مشروعهم فقد امتنع عن الكلام ورفض التصريح بأي كلمة ونهرهم طاردا إياهم.

كل الرواية تتحدث عن استحالة زحزحة ذاكرة هذا الشيخ وجرها إلى الاعتراف. إنها رواية في قداسة الصمت أمام الخيبات وأمام محاولة استغلالها وتشيئتها.

من الذاكرة الخائنة إلى المتمنعة
صحيح أننا لا نتذكر كل شيء متى أردنا وأن “الذاكرة خؤون” كما يقول الناقد الفرنسي جورج ماي، وصحيح أن الذاكرة انتقائية أحيانا تتذكر ما تريد وتصمت عما تريد كما في السير الذاتية والاعترافات. صحيح أننا قرأنا ذلك عن الذاكرة وكيف أن الذاكرة خاصية بشرية، فالحيوان يذكر متى ذكر، لكن فعل التذكّر مرتبط بالإرادة والوعي أيضا، وهو ما يرفعه إلى مستوى الخصيصة البشرية.

غير أننا لم نقرأ عن شخص قرر أن يصمت وإلى الأبد، واعتبر أن ذاكرته أشرف من أن تخرج للعرض حتى وهي تختزن قضية يسعى أصحابها منذ بدايتها للتعريف بها.

هذا الشيخ الذي شهد النكبة في الرواية لا يطلق غير الشتائم المؤلمة لكل من اقترب من ذاكرته وكأنه يحرس كنزه القديم، ويكشف لنا السرد أنه لم يمتنع عن الحكي للصحفيين فقط بل امتنع عن أن يتحدث منذ زمن وفشل ابنه في أن يجعله يتكلم، كما فشلت من قبل زوجته.

يقول الحفيد الذي يتبنى رؤية جده “كان أبي في داخله يعرف أنه لم يبق أمام جدي ليعيشه ويتمنى لو يفصح جدي عن أسراره وذكرياته بصورة رسمية أمام أحد ما. لم يكن أبي وأعمامي مقتنعين بطريقة جدي في التعامل مع ماضيه، وكثيرا ما سمعتهم يتذمرون من تصرفاته الغريبة مع الكتب. أبي وأعمامي ولدوا بعد النكبة بسنين، ومن ثم فهم يتعاملون مع أبيهم كوثيقة تاريخية مهمة لكنها ترفض أن تكتب. هذا هو بالضبط، يريد أبي أن يحول جدي إلى كتاب، إلى وثيقة يتفاخر بها ربما أمام أصدقائه ومعارفه”.

تحطم الرواية المقولات القديمة وأولها مسألة التعريف بالقضية، وكأن مازالت تحتاج إلى تعريف بعد أن سمع بها العالم.

وتبدو السوداوية التي يشعر بها الشيخ الذي يردد طوال الوقت أن “فلسطين ضاعت” هي التي تشرع للصمت. وكأن بالشيخ يلعب غوايته الأخيرة، وهو الإضراب عن الحديث عن القضية في وجه “النفاق” الوطني والدولي حولها. وكأنه -بشتم الصحافيين الذين يبحثون عن السبق بطلب الحوار معه- يتساءل ما جدوى الحديث عن شيء ضاع إلى الأبد.

“ولاد الـ… بدهم يعرفوا شو صار قال. في آخر الزمن آجي أحكي قصصي للناس.. إتفو (تعبير عن السخط)” هكذا نقل عنه حفيده المتواطئ معه على الصمت بعد أن طرد الصحفيين الذين جاؤوا لمحاورته بأسئلة رسمية متكررة ساذجة محسوبة ومضبوطة سؤالا سؤالا كلها تؤدي إلى شيء سخيف أو إلى الـ “كيتش”.

إن الذاكرة عند الجد شرف ولا يمكن أن تهب نفسها لمن هب ودب وأحيانا، كما في موقفه، تفضل أن تبقى متمنعة.

الذاكرة المفقودة
يناقش هذا العمل الروائي، ما بعد الحداثي، حقيقة وعي الفلسطيني اليوم بقضيته أو اهتمامه بذاكرته حقيقة، ويعكس ذلك من خلال مشهد حواري خطير لطالب أردني من أصل فلسطيني مع زميلته الأميركية التي يريد التقرب منها، فتسأله عن ترتيب الألوان في العلم الفلسطيني فيعجز عن تذكره رغم محاولاته الكثيرة أمام صدمة الأميركية التي تعرف أكثر منه.

هذ الجيل الجديد من الفلسطينيين -بالنسبة إلى العجوز- عليه ألا يروي له أسراره، فهو جيل لصوص يسرقون أخباره لينشروها في العالم، بحسب الرواية.

بل إن الشيخ يحذر يوما حفيده الذي رباه على الصمت من أن يعرف، فالمعرفة تعني عنده هتك السر وتعريض الذاكرة للقتل. فيخاطبه بتحذير “إياك يا جدي. إياك أن تعرف شو صار يا جدي”.

إن الروائي عمر خليفة يلعب لعبة انقلاب العين التي يتحدث عنها ابن سينا فيقلب كل شيء، المعرفة تهدد الفرد لأنها ستجعل منه مستهدفا، وعليه أن يظل على جهله لأن ما حدث أيضا فظيع وسيدمره.

لم يكن الجد رمزا لفلسطين بل كان رمزا لكل ذاكرة الفقراء والمسحوقين والذي يسميه المساكين الذين “سيلاحقون من لصوص الحكايات” وكان هذا موقفه من العراقيين بعد حرب الخليج 2003، يقول “لا تكونوا زينا، لا تحكوا” وكان نفس موقفه من حرب لبنان عام 2006 ومن الانتفاضات العربية “فالمساكين سيمتلئون بالذكريات وسيأتي من يسطو عليها”. فآلامنا حسب رأي هذا الجد الثمانيني ليست سوى ذكريات يأتي الأغراب أو المتواطئون معهم والانتهازيون ولصوص الحروب والكوارث والمرتزقة لينهبوها ويعرضوها للبيع، لذلك يكتم الجد آلامه وذكرياته.

لغة الرواية: الفحش والصمت ضد اللصوصية
وينهي الروائي عمله بالبياض المعبر عن الصمت. فبعد محاولات كثير وألاعيب من الصحفيين يتوصلون إلى دفتر مذكرات الجد، لكن الغنيمة تتحول إلى كابوس فظيع عندما تكون المذكرات النكبة تدوين لكلمتين اثنين فقط لكل ذكرى النكبة “ضاعت فلسطين”. وأنهى الروائي عمله بوضع الدفتر كاملا في 8 صفحات تردد العبارة نفسها تحت تاريخ جديد.

اختار الكاتب أن ينعت الشخصيات التي تبحث عن الحقيقة من الصحفيين بالخيانة، وكلهم يشتركون في الخيانة مقابل الحقيقة المطمورة في صدر الجد، وهو ما يعني أن الجد يعتبر أيضا أن قصته ستحرف وتُخان لو رويت لأن كل الذين يترصدونها من الخونة.

إن الرواية دعوة لإعادة التفكير في القضية الفلسطينية بمواجهة الذات، بعيدا عن الفلكلور الشعبي، الطبخ وألوان العلم والدبكة… وبذلك يفتح الكاتب موضوعا خطيرا متعلقا بحق العودة أيضا، ويطرح السؤال عبر شخصيات أخرى: هل الفلسطيني الأردني أو غيره، اليوم، عنده استعداد للعودة فعلا لفلسطين؟

يتخذ الجد من اللغة العارية والكلمات النابية لغته في التواصل مع الآخرين كلما تحدث عن فلسطين والنكبة والتهجير، ألفاظه النابية كانت تعري كل المنافقين الذين يأتون لسرقة ذكرياته إن كانوا أبناءه أو معارفه أو الغرباء. كانت لغته الفجة توقف الحديث.

فعندما تكلم الجد تعمد أن يروي حكايات مختلفة ومتناقضة لنفس الحدث وهو خروجهم من القرية ليتمنى الحفيد أن يتوقف ويصمت، فالجد في الحقيقة بالكلام المتناقض يواصل صمته بل تدمير أفق الانتظار عندهم. إنه يردد ما يرددهم الجميع من حكايات متناقضة عن الأحداث والحدث ونقيضه يعدمه.

اختيار هذه اللغة العارية كأنما بالروائي يقول إنه لم يعد ممكنا أن نقول شعرا لنعبر عن الوضع الفلسطيني، وعلى اللغة أن تتخلص من السياسة عبر تخلصها من شعريتها الزائدة، وتقول الحقيقة دون استعارة لأن الوضع وصل ذروته، والضياع هنا لا يعني الموت بل التيه، وعلينا أن نبحث عنها بأساليب جديدة وخطابات جديدة تقول الحقيقة دون استعارة لكي تنطق الذاكرة المضربة وما دون ذلك “قبض رمل”.

Related Posts