جوروج منصور*
استقطبت الدعوة التي وجهها رئيس جمهورية العراق برهم صالح الى قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس لزيارة العراق، المزمعة في العام القادم، اهتماماً متزايداً على الصعيد الرسمي ومن شرائح مختلفة في المجتمع، خاصة في لدن من تبقى من المسيحيين في العراق، بعدما تناقص عديدهم بشكل ملحوظ بسبب أعمال العنف التي طاولتهم والاستهداف على الهوية واتهامهم بالعمالة للمحتل الأميركي وتفجير كنائسهم وانعدام الاستقرارالأمني وتعرضهم لعمليات ترهيب واستيلاء على ممتلكاتهم أو إجبارهم على بيعها بأسعار بخسة، ما زرع الخوف والرعب في نفوسهم، فاختاروا الهجرة القسرية أواللجوء الى منافي دول العالم.
زيارة البابا تعدُّ الأولى من نوعها في تاريخ العراق، ووفق بطريرك الكلدان الكاردينال لويس ساكو، من المتوقع أن تشمل مدينة آور التاريخية في جنوب البلاد، حيث ولد النبي ابراهيم. والتي تعتبر مهداً للديانة الإبراهيمية ومكاناً مقدساً للديانات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.
ثمة أمل في أن تسهم زيارة البابا في تقوية النسيج الاجتماعي العراقي وأن تفتح آفاقاً جديدة للحوار الإسلامي – المسيحي، وتعزز مبدأ التعايش المشترك والتسامح، في ظل تساؤلات عما إذا كانت ستولد حراكاً سياسياً للاعتراف بالتعددية ونبذ الخلافات والصراعات والنزاعات وسياسات التمييز والاستبداد والقهر وتحقيق الوحدة الوطنية، ورفض التمييز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي أو فكري أو سياسي، بما يفسح المجال لمشاركة أوسع للمسيحيين في العملية السياسية ومؤسسات الدولة، وتبعث الأمل فيهم للتشبث بأرض آبائهم وأجدادهم الأوائل؟ ذلك أن الحفاظ على النسيج الاجتماعي واعتماد مبدأ المواطنة كأساس لتحديد الحقوق والواجبات، ومد جسور التفاهم والتقارب وتعزيز الإخاء بين أتباع الديانات والمذاهب في العراق، مهمة حتمية لإرساء مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.
تشير المعطيات التاريخية الى أن العراق كان يتشكل، منذ الآف السنين، من دويلات المدن التي أقامت فيها عشائر وقبائل ذات إثنيات وديانات ومذاهب متعددة. وعلى رغم أن كل جماعة اثنية كانت تتميز بخصائصها الدينية والثقافية والحضارية، بيد أنها، بفعل التعايش والتلاقح الحضاري المتبادل، اشتركت مع بعضها في العديد من السمات والتقاليد والعادات، وعاشت في منطقة إقليمية واحدة هي ميسوبوتاميا (وادي الرافدين) أو العراق الحالي. حينها، ازدهرت مدارس المسيحيين وكان لهم فلاسفة وعلماء ومؤرخين وفلكيين ومترجمين، لعبوا دوراً بارزاً في إثراء الثقافة والعلوم. لكن السياسات الخاطئة التي انتهجتها الأنظمة اللاديموقراطية التي تعاقبت على حكم العراق، منذ قيام الدولة الحديثة، أضعفت فرص معالجة حقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب بطرق إنسانية وعادلة وعلى ضوء المبادئ التي أقرتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، إذ أخل الظلم والتعسف الذي مارسه النظام السابق ومصادرته حريات الشعب، بسبب الانتماءات القومية والدينية والمذهبية وزرع الفرقة، بالوشائج التي كانت ولا تزال تربط المكونات العراقية.
بعد العام 2003 تغيرت صورة الانتهاكات التي طالت المكون المسيحي العراقي، والتي قامت بها التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة والمليشيات السائبة والمنفلتة المؤمنة بالعنف والتطرف، ما أودى بحياة عشرات المسيحيين الأبرياء في بغداد والبصرة والموصل وكركوك، وتم الاستيلاء على ممتلكات آخرين وحرق محلاتهم ومراكز أعمالهم التجارية وطالتهم عمليات تهجير قسري وقتل على الهوية في الموصل وبغداد والبصرة، من دون أن تكشف الحكومة عن الجناة أو تقوم بتقديمهم إلى المحاكم.
تلك الأوضاع المرعبة والمأسوية، أدت إلى هجرة العائلات المسيحية الى مدن إقليم كردستان أو لجوئها إلى دول العالم، وما زال نزيف الهجرة قائماً في ظل استمرار عمليات إفراغ العراق من مسيحييه الذين تراجع عددهم من مليون ونصف المليون نسمة في العام 2003 إلى قرابة 250 ألفاً، ما يعني انخفاضاً في نسبة المسيحيين السكانية بحدود 85 في المئة. علماً أن منظمات حقوقية عالمية، صنّفت العراق كثامن اسوأ بلد في العالم في موضوع اضطهاد المسيحيين. إلى ذلك، قتل أكثر من ألف مسيحي في حوادث عنف متعددة شملت عموم أرجاء العراق، بينهم رجال دين، وتم الاستيلاء على 23 ألف عقار، وفجرت 58 كنيسة، عدا هن حرق كنائس الموصل وبلدات سهل نينوى وتدنيسها. ففي حزيران (يونيو) 2007 قتل القس الشاب رغيد كني وفي شباط (فبراير) 2008 قتل المطران فرج رحو بطريقة شنيعة شرق مدينة الموصل وفي أيار (مايو) 2010 تم استهداف حافلات نقل طلبة “جامعة الموصل”، وأدى تفجير الى إصابة عشرات الطلبة المسيحيين ومقتل طالبة منهم، كما تعرضت “كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك” في بغداد في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 إلى هجوم مسلح هو الأعنف من نوعه. وبعد سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على مدينة الموصل في صيف العام 2014 ، أفرغت بلدات المحافظة من مسيحييها وكتب على جدران بيوتهم حرف “ن” الذي يرمز الى النصارى، للتمييز بينهم ومطالبتهم باعتناق الإسلام او دفع الجزية أو الهجرة أو القتل.
ولم تقم الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام 2003 بالكثير للحيلولة دون ترسيخ المشاعر المعادية للمسيحيين، سكان البلاد الأصليين، الذين خيرهم “داعش” بعد سقوط الموصل في عام 2014 بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة بيوتهم وأراضيهم، ما أدى إلى نزوح 125 ألف مسيحي، لم يتم تعويضهم عن ممتلكاتهم التي سرقت ونهبت أو تم الاستيلاء عليها سواء في الموصل أو في بغداد أو غيرها. كما سن في عام 2015 قانون مثير للجدل يلزم أطفال المسيحييين وغير المسلمين اعتناق الديانة الإسلامية، إذا اعتنق آباؤهم الأسلام أو تزوجت أمهاتهم من مسلمين. وتحتوي الكتب المدرسية لمناهج التاريخ معلومات خاطئة ومشوهة عن تاريخ المسيحيين العراقيين، وفيها أيضاً معلومات شحيحة وغير دقيقة عن المسيحيين في الغرب.
تقع حماية المسيحيين والحيلولة دون رحيلهم إلى خارج موطنهم الأصلي على عاتق الدولة العراقية، عبر العمل الجاد لتغيير الصورة النمطية الراهنة إزاء حقوقهم ومعالجة التجاوزات التي تقع عليهم. كما يجب تطبيق ما جاء في الدستور العراقي في ما يخص أتباع الديانات والمذاهب في العراق، إذ ورد في الفقرة الثانية من المادة الثانية منه: “… ويضمن (الدستور) كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والإيزيديين، والصابئة المندائيين”. وأقرت المادة الثالثة بأن “العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب…”، فيما أكدت المادة العاشرة على أن “العتبات المقدسة، والمقامات الدينية في العراق، كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد حرمتها وصيانتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرّية فيها”.
ويشكّل التعدد القومي والإثني في العراق، ظاهرة إيجابية تغني المجتمع ويمكن توظيفه لصالح تطور الفرد والمجتمع. وهذا يتطلب صياغة استراتيجيات جديدة تؤكد على العيش المشترك والتفاعل والتلاقح والتلاحم، بدلاً من الفرقة والصراع والنزاع، وتستند إلى التجارب المريرة السابقة والمبادئ العامة للمجتمع المدني الديموقراطي التعددي، من أجل تأصيل التضامن والإخاء وتعزيز احترام حقوق الانسان وتصفية آثار الانتهاكات الشنيعة السابقة لهذه الحقوق. كما يتطلب احترام خصوصية المسيحيين العراقيين، وحمايتهم من الاستهدافات المتكررة، وبناء الثقة بينهم وبين جيرانهم في الموصل وسهل نينوى، عبر إجراءات عملية، منها معاقبة الجناة، وتعويض الضحايا، واستعادة أملاكهم، ونزع الألغام من حقولهم، وإعمار مناطقهم وتحسين الخدمات وتسهيل ظروف عودتهم الى ديارهم.
لا شك في أن غنى العراق، هو حصيلة التاريخ المادي والروحي للشعوب التي عاشت فيه منذ أقدم العصور. ومن الصعوبة بمكان، النهوض بالعراق الجديد من دون ربط الجسور بين الحضارات السابقة وتأثيراتها، وبين الواقع الحاضر حيث تعيش تلك الشعوب، وبين ما يراد تأسيسه في العراق من حضارة انسانية مدنية حديثة وديموقراطية.
نحن اليوم في حاجة ماسة الى استنهاض هذا الكم الكبير من التراث العراقي، ولكن ضمن سياقه التاريخي، أي أن نضع كل لبنة منه في مكانها الصحيح تاريخياً وعمرانياً وثقافياً. لأن الحضارة الجبارة، التي نعتز بها اليوم، لم تكن من صنع حاكم معين، أو سلالة بعينها أو جنس (عنصر، عرق) دون الآخرين، إنما هي نتيجة تضحيات هائلة قدمها سكان هذه المنطقة عبر آلاف السنين، فامتزجت عناصرها ومكوناتها، تماماً كما امتزجت دماء ودموع وموروثات أبنائها وبناتها في وحدة تاريخية – بشرية عضوية يستحيل الفصل بينها.
يعتز الإنسان العراقي، سواء كان مسلماً أم مسيحياً، ايزيدياً أم صابئياً، أم من ديانات ومذاهب أخرى، وسواء عاش في وسط العراق وجنوبه أم في إقليم كردستان، بحضارات الشعوب التي تسكن هذه المنطقة منذ آلاف السنين، وإذا تمتع بحقوقه العادلة والمشروعة، حينها ستتغلب حال الوحدة والتضامن والتآخي على حال الفرقة والصراع والنزاع، وتتعزز روح التعاون والتضامن والإخاء والشعور بالمواطنة الحرة والمتساوية في جمهورية العراق الاتحادية.
تضم العديد من الدول الأوروبية والاسكندينافية، أقواماً ذات تاريخ وحضارات متعددة. ومع ذلك، فإن الحرية الواسعة التي يتمتع بها أبناء كل قومية، والمتمثلة بمدارسهم الخاصة ومنتدياتهم ومؤسساتهم ومكتباتهم وصحفهم التي تعرض تراثهم القومي، وكذلك ممارستهم الحرة لشعائرهم الدينية وطقوسهم واحتفالاتهم الموسمية ومهرجاناتهم، لا تعرض وحدة هذه البلدان للخطر، بل هي تقوى يوماً بعد آخر. كما أن المتنورين في الدول المتحضرة، يدافعون بلا هوادة عن التعدد الحضاري ويرون فيه غنى لا فقراً ما دام الولاء الوطني قائماً، وما دامت جميع الثقافات تتفاعل وتتلاقح في ما بينها وتتطور.
بناء على ما تقدم، يبقى السؤال: هل ستضمد زيارة بابا الفاتيكان جراح المسيحيين، الذين تعتبر ديانتهم ثاني أكبر الديانات في العراق ويمثلون أقدم المجتمعات المسيحية في منطقة الشرق الاوسط؟ وهل ستفلح تلك الزيارة في حث الحكومة على طمأنة المسيحيين وتوفير الحماية لهم من خلال وضع استراتيجيات ناجعة لضمان حقوقهم وحماية وجودهم وأفساح المجال أمامهم للمشاركة في مؤسسات الدولة وأجهزتها الامنية، والكف عن استحواذ الأحزاب السياسية على الـ”كوتا” المخصصة لهم، وإعمار مناطقهم في سهل نينوى وكذلك أديرتهم وكنائسهم التي طالها الإرهاب، إضافة إلى الحد من التغيير الديموغرافي لمناطقهم؟
*سياسي وصحافي عراقي والمقال عن “الحياة”
LEAVE A COMMENT