بين تلاوة القرآن وابتهالات المناجاة وتواشيح المديح؛ تنقل صوت الشيخ المصري طه الفشني لأكثر من 5 عقود، وكأنه يشدو بحنجرة ذهبية على أوتار قيثارة النفس ليثري الروح بالإيمان.
ويبدو أن رفضه استخدام الآلات الموسيقية في الابتهالات والتواشيح التي قدمها السبب وراء تأخره قليلا في الرواج الشعبي، مقارنة بزميله سيد النقشبندي، إلا أن مشواره ازدحم بالأعمال الفريدة.
ومع الذكرى 49 على رحيل الفشني -إذ توقف وهج صوته في ديسمبر/كانون الأول 1971- يظل إرثه باقيا وشاهدا على كونه أحد أبرز رواد فنون الابتهال والموشح والنشيد الديني، الذين انفتح أمامهم طريق الإبداع والاتساع الشعبي خلال النصف الأول من القرن 20.
ومع النصف الثاني من القرن الماضي أصبح الفشني -مع زملائه سيد النقشبندي ونصر الدين طوبار ومحمد الطوخي ومحمد الفيومي ومحمد الكحلاوي- علامات للإنشاد الديني، وبدا إنتاجهم في مراحله الأخيرة من النضوج، الذي سيصبح مرجعا لمن يريدون المضي في طريق صوت الإيمان.
بزوغ الموهبة
في عام 1900 ولد طه حسن مرسي الفشني، في إحدى قرى مركز الفشن بمحافظة بني سويف في صعيد مصر، لأب ميسور الحال يعمل في تجارة الأقمشة ولديه طموح كبير نحو مستقبل ابنه ليكون قاضيا شرعيا.
لذا كان المسار التعليمي لطه مرسوما بدقة؛ فالتحق بكتّاب القرية إلى جانب دراسته في المدرسة الابتدائية، ونجح في حفظ القرآن الكريم كاملا قبل أن يتم عامه العاشر، ثم أتم الشهادة الإعدادية، وبعدها حصل على شهادة الكفاءة عام 1919.
وخلال سنوات التعليم الأساسي، عُرف بعذوبة صوته؛ فأسندت إليه القراءة اليومية للقرآن في الإذاعة المدرسية.
وفي عام ثورة 1919، سافر طه إلى القاهرة لدراسة ما يؤهله لأن يصبح قاضيا شرعيا، حاملا في قلبه موهبة تحاول البزوغ، وفي ذهنه طموح أبيه الذي بدا زاهدا فيه.
اعلان
وبسبب أحداث الثورة، ارتأى ابن الصعيد العودة إلى بلدته، إلى أن يهدأ غليان العاصمة، ويبدو أن الوقت هناك سنح له بحسم أمور موهبته، فعاد إلى القاهرة، ولكن هذه المرة ليلتحق بمعهد القراءات التابع لمؤسسة الأزهر، ليتعلم فنون التلاوة وعلوم القراءات وأحكام التجويد.
الفرص والصدف
في بداية الطريق نحو إصقال الموهبة كان الفشني متخبطا، وهو ما ظهر جليا عندما اتجه إلى الغناء، وأتقن العزف على العود، بل إنه اتفق مع شركة لإنتاج الأسطوانات على تسجيل عدة أغان لطرحها في الأسواق، وبالفعل صدرت له أسطوانتان.
لكنه شعر بأنه ليس ميسرا للغناء، وأدرك أن ارتياحه يكون مع القرآن الكريم، وصاحبت ذلك الإدراك فرصة للانضمام إلى فرقة الشيخ علي محمود للتواشيح الدينية، حيث كان جارا للشيخ بحي الحسين.
وتميز بين أعضاء الفرقة بالإحساس المتميز والأداء الفريد، وبدأ صوته العذب يأخذ مكانه المستحق داخل الفرقة.
إلى أن لعبت الصدفة دورها؛ ففي عام 1937 شاركت فرقة الشيخ علي محمود في إحياء حفل ديني حاشد بمسجد الحسين، وكان يحضره رئيس الإذاعة المصرية آنذاك سعيد باشا لطفي، وسُمح للشيخ طه بوقت للتلاوة منفردا.
وأعجب لطفي بصوت الفشني، ودعاه للحضور إلى مبنى الإذاعة في اليوم التالي لتختبره لجنة الاستماع كقارئ للقرآن، وبالفعل اجتاز الاختبار، وخصصت له الإذاعة المصرية قراءتين يومي السبت والأربعاء مدة كل منهما 45 دقيقة، ليصبح أحد أهم أصواتها الدينية على مدار عقود، كما أنه من أوائل من رتلوا القرآن الكريم في التلفزيون مع افتتاحه عام 1960، بعد الشيخين محمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي.
التفرد
ليس فقط صوته العذب ونقاء الإحساس ما امتاز به الفشني، بل أيضا عُرف بطول النفس وقدرته على الإنشاد لمدة 4 ساعات متتالية من دون توقف، إلى جانب موهبته في الشدو بـ17 مقاما صوتيا، والانتقال بينها بمرونة وسلاسة.
كذلك كان يجيد تلاوة القرآن بالقراءات العشر، وإنشاد المديح بـ6 طرق مختلفة، واشتهر بأداء الأذان بمقامات متنوعة، منها الرست والحجاز والبياتي.
وبأداء فريد، قدم الفشني عددا كبيرا من التواشيح والابتهالات، بلغت مدتها أكثر من 14 ساعة، جعلت منه “ملك التواشيح”، كما لقبته كوكب الشرق أم كلثوم.
ومن أشهر ابتهالاته وتواشيحه “إلهي إن يكن ذنبي عظيما”، و”يا رسول الله يا خير البرايا”، و”سبحان من تعنو الوجوه”، و”يا أيها المختار”، و”حب الحسين”، و”مولاي الهادي”، و”إله العرش”، و”ميلاد طه كامل”، و”الله زاد محمد تعظيما”، و”إمام المرسلين”، و”يا أرض الحجاز”.
وتعاون مع أشهر الملحنين مثل محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد ودرويش الحريري ومرسي الحريري ومحمد إسماعيل وسيد شطا، لكنه كان يرفض استخدام الآلات الموسيقية في إنشاده، وربما يكون هذا هو السبب في تفوق سيد النقشبندي عليه من حيث الانتشار والتواجد عبر التلفزيون.
كما شرع “ملك التواشيح” في تسجيل القرآن الكريم كاملا بصوته خلال فترة الستينيات، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون استكماله.
مشوار وإنجاز
عُين الفشني قارئا لمسجد السيدة سكينة عام 1940، ومؤذنا لمسجد الحسين، وظل في عمله حتى آخر أيامه، كما أنه اختير رئيسًا لرابطة القراء خلفًا للشيخ عبد الفتاح الشعشاعي سنة 1962، وكان مبعوثا للمؤتمر الإسلامي بتونس عام 1958.
وظل لمدة 9 سنوات، بين عامي 1943 و1952، يرتل القرآن الكريم في السهرات الرمضانية بقصري عابدين ورأس التين في عهد الملك فاروق، وفي عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر كان المقرئ المفضل للزعيم الراحل، وفي إحدى الاحتفالات أهداه طبقا من الفضة يحمل توقيعه.
وتعددت زياراته للدول العربية والإسلامية، مثل العراق وتونس والكويت وسوريا، وباكستان، وإيران، وإندونيسيا، وماليزيا. وحصل على أوسمة من رؤساء تلك الدول.