لا أحب أن أصير غريباً .. تحولات الحزن في ديوان “قمر يتبعني” لأحمد الشلفي

يطارد الحزن الشاعر أحمد الشلفي في ديوانه الجديد “قمر يتبعني” حتى يشكل إطارا كليا يحتويه لا يغادره إلا قليلا.. فيغدو أسلوبا لشاعريته يؤطرها نسقا مبثوثاً في المشاعر والتصوير والتدفق.. وهذا النسق يمنح قصيدته وجهها ووجهتها وحيويتها.

فبالحزن يُعرف نفسه وبوجوده يكتسب مصدر القوة فيقول “الحزن يمنحنا قوة”.. وهو الملجأ الآمن كلما نالت منه الأيام بالوجع والتشرد والانكشاف فيطلب من رفيقه..

“خبئني هناك.. خلف ذلك الحزن”

وكرفيقين يحمل حزنه مرات ومرات في البقاء والسفر.. “أحمل أحزاني وأرحل”.. إنه والحزن من سلالة واحدة، ولشدة ارتباطهما وتداخلهما وامتلاء كل منهما بالآخر لا يدري من جاء للحياة أولا.. فيستفهم.. “من وُلد أولا.. أنا أم الحزن؟”

ويبحث به عن ذاته الشاعرة متسائلا.. “وماذا عني؟.. ماذا عن هذا الحزين..؟”

وبثقته الكاملة بحزنه يوصي العاجز عن الاستمرار في مشوار التعب المضني بأن “تؤكأ على الحزن”.. ل

لأنه نبع الإلهام والغناء والصمود وكلمة سر الأوطان البعيدة..

فـ “لا تتركوا أحزانكم للريح

غنوا

كيفما اتفق الغناء”

ويذهب الشاعر بالحزن في ديوانه أبعد من هذا، لقد تغشاه كمحور ارتكاز ووطن لما يريد توصيفه يتجلى ذلك كقوله الكثيف.. “والمدى وطن حزين”

لقد اكتمل الحزن إذن عند الشاعر الشلفي، أخذ هيئة أيقونة في نموها وتخلقها.. حتى صارت مدارا للأشواق ولهفة للحنين وحارسة للمعنى.

تحولات الحزن
وحزن الشلفي ليس بالحزن الذي يَكسر ويعيق، ليس الذي يورث الكآبة وفقدان الاتجاه.. إنه كيان يشهد جملة من التحولات فيتبلور إلى: الحنين، وإلى الذكريات، وإلى التحدي، وإلى الأمل والحلم..

وسؤال عن الموعد النهائي لمغادرة الحرب والخراب، وهل حان مجىء..

“الذاهلون من الخراب

الذاهبون إلى الحقيقة”

هذه الحزن اللامتناهي جعله يعي عوالمه بأبعادها الجديدة موتا يتغلل في القلب وشرودا واسعا في المكان والزمان والغربة وجغرافيا الغياب القسري كخلاصة تجربة معاشة مطلقة..

“كل غريب يتخطف قلب الآخر

يموت بالفجيعة كل حين

كل غريب يموت”

ويعلو الشاعر بحزنه.. فإذا هو نجمة وطائر وقمر مكتمل، يتبعه فاتحا ذراعيه في السماء للأبد، يمنح الذات الشاعرة الشموخ كلما استوت على المنافي والغياب، وللوطن قمره يمنحه الشاعر الضياء في أتعس لحظات الذهول.. فيحكي أحمد في حكاياه..

“في الطفولة: كان أحمد ذاهلا

عن نفسه

وفي البراءة: كان أحمد ذاهلا عن قلبه

كان أحمد ذاهلا عن كل شيء

إلا الضياء”

وكما يكافح الشاعر بالشعر توقا لمجتمع حرمته إياه الحرب، يلاحق بالقصيدة روحه التى لم تغادر الوطن.. ظلت هناك ترفده بالوجع وبالناس والأصدقاء، وتطوف الشوارع والأسواق.. تمده بتفاصيل طفولته الرحبة، والبدايات التى صقلت الروح والقصيدة معا بالمعاناة.. تلك المعاناة التي أخذت شكلا جديدا من التموضع الشعري في مقامات الحنين. فكانت “أيقونة حزينة” تنكر البهجة وتنهشه.. أو كما قال..

“وتركتني للحزن ينهشني”

“فكيف أبتهج وأنا في مدار الغربة؟”

وبإيحاء غير مباشر في بعض قصائد الديوان، يأخذ الحزن شكلا تأمليا ليؤكد جسارته وعمقه في بث الرؤية الشعرية، وتفاعل الأنساق اللغوية والإيقاعات الصوتية حركة وتموجا.. كهذه المقطوعة التي تستعرض قدراته في التناغم مع الأم الكبرى الحياة والمستمدة من أغاني الفجر في قريته..

“أطلب من الوردة أن تتبسم

فتتفتح

أطلب من الغصن أن ينحني

فيتبرعم

يا لهذه الكائنات

كيف تتلون..؟

والنهر من علمه كيف يصغي؟

أدري أن شيئا ما خلف هذه التلال

أغاني الفجر في قريتي

البعيدة”

زجاج يكسر الذكريات
وبلدان الآخرين مهما تبدت، هي الفراغ لا يرى نفسه فيه إلا غريبا في أبراج زجاجية تكشف وتكسر المشاعر لا تأبه لجرح.. فكيف يمكن أن تكون وطنا لشاعر له مدار مولع بالأشواق والأحزان .. فيُلقي استفهاماته في مدار التعب الواسع يختبر عذاباته..

“يا لهذه الذكريات المجنونة

لم أختبر قبل هذا العذاب

عذاب الرحيل والحنين

عذاب الوطن المجروح”

ويؤلف متوالية عن تحولات الصوت المنفي المحزون كلما باح..

“استحال البوح وطنا

استحال الوطن جرحا

واستحال الجرح غربة

لكن من يمنحك الوطن”

ويستنتج”

“لا شيء يمنح الوطن

سوى الوطن”

وليس فقط بمجرد استنتاج بارد.. هو امتلاء القلب.. يقرر:

“وهذا الساكن ملء قلبي

وطني”

وكما يغلف الحزن الأشياء والمعاني والاتجاهات، فهو عند الشلفي بوابة الملاذات والميلاد، إذ يتمدد أكثر في الشعر والمنام والصحو، تستغرق فيه لتحتوي وطنك كلما طالت غربتك عنه أو شروده عنك، يغمض عينيه ليحلم حلم يقظة.. يرى نفسه في وطنه، يراقب حربه ويعدد أوصافه وصفا وصفا ويبتهل.. ثم لا يكون الحلم حلما في بلاد المنافي، إنه يتبخر على الكورنيش منكسرا كموجة كلما فتح عينيه من إغماضتهما..

“من على طيرمانة بجانب سمسرة النحاس

أراقب الحرب

وهي تذوي

والطرقات وهي تمتلئ بالصغار والمهرجين

والمسرح المفتوح يضج بالنشيد

كأنها لحظة الميلاد

أفتح عيني على الفراغ

وأعدو بلا حلم”

والذكريات الراحلة لليمن، يمشي الحزن على رجلين وبعينين تقترب به فيبتديها، يخطوها خطوة خطوة.

وفي صنعاء، تخطفه صنعاء القديمة فيغوص في الأسواق، سوق الملح، واهتزار الستائر الصنعانية، وسمسرة النحاس، و”الطيرمانات” وهي دواوين تحتفل بالأصدقاء والبهجة الاستثنائية، نكهة التاريخ والحاضر والباب الواسع للمستقبل والذات والمجتمع.

يكلمها فتتحدث روحا تترى وحنينا يهيج.. تمشي وتعدو..

“الأشياء تعدو معي

وظلي يبتعد أيضا

أغمضت عيني وسرت ببطء

كان سوق الملح يمر بذاكرتي

القمريات تلوح لي

والأضواء الخافتة

والستائر الصنعانية

وبعض المارة والمشردين

يا لهذا الحلم

فتِيٌ وأرعن”

والحزن العابق بالحنين لا يكاد يستقر بالشاعر في صنعاء أم المدن حتى يطير إلى “تعز” .. المدينة التى كانت طفولته وطموحه ومعاناته، يتلمس فَتاته في شارعها الأكبر نبعا للشعر وجرسا للحياة بنكهتها ولكنتها التعزّية..

“ووحدها اللكنة التعزّية اختصرت كل هذه الأنصاف”

وكطائر هو الحزن ينهل بالذكريات، فلا يكاد يستقر به في أيام دراسته وفتاة شعره حتى ينتقل به إلى “السنعات” قريته لا يمل طرقاتها وناسها ورائحة خبز السادسة صباحا.

وتتجلى الأم كالقرية كالابن كالحزن وكالوطن.. فاتحة العمر وملاذ الروح والجسد..

“قُبيل الغروب..

تتجمع الطيور في السماء

وحده صوت الأم يوصد باب الذكريات

يعود الطفل محملا بذكرياته

وقُبله”

مجد أحمد
وعلى تلك المساحة الوارفة من حزن خصب يشف، التقى “أحمد” طفولته كلها، والتى لطالما تلوذ به ولا تدع له فكاكا.. فتداعى كمن وجد روحه لأول مرة..

“يااااه كم أنا عصي على البعاد.

كما لو أن طفلا اكتشف فجاة أنه يريد العودة إلى المكان الذي وجد نفسه طفلا فيه.. الجدران والأرض والتراب واللعب القديمة والمطر الذي يهطل على القلب.

وكم يحاول الإنسان أن ينسى ذلك الطفل، لكن الإنسان كائن طفل، يشتاق ويحب ويكره ويغضب ويغيب ويتعكر ويصفو، ويشعر حينا بالنصر وأحيانا كثيرة بالهزيمة..

ويطوح بيديه في الهواء كالمجانين حين يحرز تقدما، فيتذكر أن هناك أشياء لا يستطيع الإنسان تعلمها.. من بينها الغياب”

والابن هو المعادل الحيوي، لهذا كله يغالب به الشلفي التشرد بالامتداد الروحي والاتصال العاطفي عابرا لصورة ابنه “مجد” في هاتفه تحول بينهما البلدان.. و”مجد” وطن مكتمل وشُبابة مقاوِمة وفيض.. يتشابهان .. و”مجد” مطر يغيث الروح والمنفى والحزن والهوى والقصائد فيخضر الوجود بنوره وصفاته..

“هذا الفتي وطن من الكلمات

شُبابة بفم الزمان العاتي

اشتقت من شوقي إليه جمل الهوى

وعشقت فيه براءتي وصفاتي

أَبُني أوقدتَ القصائد كلها

وفتحتَ فيضا من سنا الصلوات

نورٌ يطل إذا لمحتك عابرا

في هاتفي تخضر كل حياتي”

مدونة الذات للحرب
تأخذ الناس والأمكنة والأزمنة والدمار صورا تستجمع قناعات تبلور نفسيته ورؤيته المستوحشة بالبعد والحرب.. وتكشف عن الشاعر منبثقا من ظل المعنى ومن تجلياته، ففي نص “2019” يبدو وكأنه يقدم ما يشبه مدونة أخلاقية، مراجعات الذات للحرب.. ومن بنودها..

“- قررت أن أركل كل هذه الحرب بعيدا

– أن أصلي لأرواح من ماتوا

– ألا أكون رصاصة في جوف بندقية”

وفي نص “آخر تابوت” ما يشبه ديباجة هذه المدونة..

“- كل نعش يحمل موتا كاملا

– والضحايا وحدهم لا يعرفون الكذب”

وتتمحور الأحزان وما صنعت في نهاية شوط الاغتراب المضني إلى أمل بارق بقرب استعادة الوطن من الحرب والعودة إلى صنعاء مبشرا بالفجر..

“أعبر العيون الهاربة من نفسها

إلى ضفة الحياة الأخرى..

أشعر بالأمل”

وإلى تلك الضفة يُحَمل صديقه رسالته لصنعاء بالخلاص والتئام شملها بأبنائها المشردين.. ثم يتلو عليه مراسيم هذا الاحتفاء العظيم: بتقبيلها ولملمة الأماني المبعثرة ومخاطبتها بالنشيد..

“يا صاحبي قل لصنعاء

إن اللقاء قريب برغم الحكايا المريرة

قل يا بلادي أحبك

فجر الحكايا الأثيرة

وقبل سماها

ولملم أمانيك فيها

بلادي بلادي

ومن كبلادي”

سلام
وكطير خارج سربه بلا روح وبلا أجنحة يسلم الشاعر الشلفي على نفسه المجروحة في مدار الغربة فهي سربه التي لم تخذله..

“سلامٌ عليٌ

أنا الجريح بالمنافي

وبالوجوه التي لا أتذكرها”

فأي بحر يغسل عن الشاعر الأشواق.. وأي يَم سيقذف به إلي وطن لم يمنح فرصة واحدة للهذيان، فوقت الوطن كله حضور.. يا لهذه الذكريات المجنونة.. لهذا الوجع.. لهذا التشرد.. ولهذا الأمل.. ولهذا السلام.. وذلك كله قوة الحزن.

Related Posts