الأصل الأسطوري وقضايا البيئة.. الأدب العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الروائية

يرى الفيلسوف الروسي-البريطاني إيسياه بيرلن أن الكتّاب نوعان، الكاتب الثعلب والكاتب القنفذ، أما القنفذ فهو الذي يحفر في الحقل نفسه في حين أن الثعلب هو ذلك الذي ينطّ من حقل إلى حقل ومن موضوع إلى آخر.

ويستند بيرلن في تصنيفه إلى عبارة الشاعر اليوناني أرخيلوخوس “يعرِف الثعلب العديد من الأشياء، أما القنفذ فيعلم شيئًا واحدًا مهمًا”، ونحسب أن الروائي الليبي إبراهيم الكوني من صنف القنفذ الذي يحفر في الموضوع نفسه لينتج مدونة ضخمة حوله، وكل مرة يتوغل أعمق ليكتشف جديدا دون أن يغادر حقله.

كانت هذه المدونة الضخمة التي أنتجها إبراهيم الكوني طوال الوقت قبلة النقاد والباحثين العرب، فمنهم من اهتم بالصحراء ومنهم من اهتم بالهامشي والهوية الطارقية، ومنهم من اهتم بالسحري والأسطوري والعجيب والعجائبي، ومن ضمن من اهتم بهذا الجانب الأخير الجامعي التونسي البشير الجلجلي في كتابه الصادر أخيرا عن دار “سوتيميديا” بتونس “العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الروائية.. بحث في سردية التعجيب”.

مشكلات الحد ومزالق الكتابة
قسم الباحث الكتاب إلى 3 أبواب كبرى هي “إشكالية مفهوم العجائبي في الرواية العربية الحديثة”، و”من مظاهر العجائبي ومآتيه في (نزيف الحجر)”، ثم “العجائبي منحى فنيا دلاليا”.

ومهد الباحث لإشكالية مفهوم العجائبي في الرواية العربية الحديثة بجزء تقصّى فيه أخبار العجائبي ومرادفاته في المدونة العربية والمدونة الغربية قبل أن ينهمك في تقصي حد العجائبي لغة واصطلاحا، وفي هذا الجزء توقف الباحث عند مفاهيم العجائبي من خلال المعاجم والقواميس والموسوعات العربية والأجنبية ليفرق بين الغريب وفوق الطبيعي والعجيب، وتعالق هذه المصطلحات بأخرى كالماورائي والمدهش والوهم واللاواقعي.

غير أن الباحث يطمئن للناقد البلغاري الفرنسي تزيفتان تودوروف صاحب الكتاب العمدة في هذا المجال الممهور بـ”مدخل إلى الأدب العجائبي” الذي يرى فيه أن العجائبي يعيش “حياة ملؤها المخاطر ويمكن أن يتلاشى في أي وقت، ويبدو أنه يتموضع في الحد بين جنسين هما: العجيب والغريب”.

وهو أيضا -وفقا لرأيه- التردد الذي يشعر به كائن لا يعرف سوى قوانين الطبيعة أمام حدث له صبغة فوق طبيعية. والعجائبي -حسب ما توصل إليه الباحث- “يتموضع في لحظة مفارقة بين قرار تفسير واقعي للظاهرة وتفسير خارق لها، ويأتي كذلك في سياق حضاري وثقافي وأخلاقي لدى جهة ما أو أفراد معينين أو مجتمع ما مثل مجتمع الصحراء وأفراد الطوارق، فالعجائبي عندهم سلوك يومي يعيشه الفرد ويحياه”.

ومن ثم رأى الباحث أن “وصف حدث أو أمر ما يفوق العقل إذا ورد على الإنسان دهَش وتحيّر لعدم تعوده عليه وألفته له” هو العجائبي، وعليه انطلق يحلل الظواهر والأحداث وما يطرأ على البشر والطبيعة والكائنات من أمور مدهشة غير قابلة للتفسير وفق المواضعات العقلانية والواقعية.

وينشغل الباحث في القسم الثاني بالتعمق في عجائبية الشخصيات الروائية عند الكوني وخاصة في روايته “نزيف الحجر”: أسوف بطل الرواية وقابيل والودان والغزالة الحكيمة ومسعود الدباشي وآدم، كما ينعطف الباحث نحو رصد تعجيب الفضاء الذي رأى أنه أقل العناصر الروائية اهتماما من النقاد حتى سبعينيات القرن الـ20، وأعطى اهتماما لفضاء الصحراء عند الكوني باعتبارها صحراء مختلفة تتجانس مع طبيعة الشخصيات التي سكنتها فكانت بدورها صحراء عجائبية .

ويقول الباحث الجلجلي “إن الكوني يصف من خلال محاولته تعجيب الفضاء (لاشعور) الصحراوي تجاه المكان، والصحراء/الجبال، فتظهر علاقته بالفضاء الممتد علاقة تخييلية تعجيبية، مما يرشح ظهور الخارق في تشكيل المكان بشحنه بفضاءات سحرية مسكونة بالجن والخارق والعجيب”.

اعلان
ويشير الباحث إلى أن الكوني يحتفل بالفضاء الموازي للفضاء الواقعي، وهو “فضاء النفس البشرية”، فيعلي من الجانب “اللاشعوري” في الشخصية الروائية في علاقتها بالمكان، مما يقود العالم الروائي إلى عالم آخر هو عالم الصوفية وفكرة الحلول، حلول المكان في روح شخصية آدمية أو حيوانية ليخرج المكان من أسطوريته ويحقق عجائبيته في تشكل جديد.

من أين يأتي العجائبي وما دلالاته؟
يمثل الفصل المعنون بـ”من مآتي العجائبي” أهم فصول الكتاب حيث يذهب الباحث إلى التنقيب عن أصول العجائبي في أعمال الكوني الروائية ومنابعه، وعبره تتكشف لنا ثقافة الكاتب الليبي إن كان ذلك عن طريق ما يعرف بالتناص أو التضمين والاقتباس، لينتهي الباحث إلى أن العجائبي عند صاحب “المجوس” يأتي من 4 مصادر هي الديني والأسطوري والتاريخي والصوفي. فالكوني يستحضر في أعماله الكثير من القصص الديني مثلما فعل في “نزيف الحجر” عندما استحضر قصة بداية الخلق، وقصة قابيل وهابيل لكتابة قصة “أسوف” و”قابيل”، كما استدعى صاحب “نزيف الحجر” قصة يوسف عليه السلام وقصة إبراهيم عليه السلام وقصة التضحية بابنه إسماعيل، ولا يكتفي الكوني باستدعاء القصص الديني فحسب بل يستدعي أحيانا الدلالة مثل فكرة “الإعجاز”.

والكوني كما يثبت الباحث “يحوّل القصة الدينية إلى نواة سردية تغذّي أحداث الرواية وتزيد في “عجائبيتها”، وهو ما يؤكد اتّكاء الكوني في تشييد سردياته على القرآن من جهة والكتب المقدسة الأخرى كالعهد القديم، وهو ما تؤكده حتى عناوين فصول رواياته ومعجمها.

الأصل الأسطوري
أما الأصل الأسطوري للعجائبي عند صاحب “التبر” فيأتي من مشكّلات “الوعي الجمعي” التي اشتغل عليها الكوني وأساسها المعتقدات والخرافات المتعلقة بالجن وأصل الطوارق مثل تلك الأسطورة التي تقول بأن أصلهم جنّ وليسوا بإنس.

فقال أسوف في نزيف الحجر “هل أجدادنا القدماء جن؟.. سأل أباه، فضحك وقال: ربما كانوا من الجن، ولكن جن الخير، الجن مثل الناس ينقسمون إلى قبيلة الخير وقبيلة الشر. نحن ننتمي إلى القبيلة الأولى، قبيلة الجن التي اختارت الخير”.

إن هذه الأسطورة التي يستند إليها الباحث لتأكيد عجائبية نص الكوني كان يمكن أن تقود إلى محفل نقدي آخر متعلق بالأقليات وثقافتها، فاعتقاد الطوارق الأمازيغ هنا أن أجدادهم جن لا إنس يحيلنا على معتقد طائفة من الأكراد تعتقد ذلك أيضا، ويمكن أن نجد صداها عند الناقد الكردي إبراهيم محمود في كتابه “القبيلة الضائعة”، وفي أعمال الروائي السوري الكردي سليم بركات، وكم تتقاطع تجربة الكوني وتجربة سليم بركات في مسألة العجائبي.

وقد يقودنا هذا إلى التساؤل عن علاقة هذا الاعتقاد بترميم الهوية عند الأقلّي في ظل ثقافة المهيمن. فالرد على التهميش قد يذهب بالأقلّي إلى أسطرة الذات والهوية ليرتفع بها عن المشترك، والتنصل من البشرية نفسه رد فعل على التهميش وتقزيم له في آن، إذ إن هذه الكائنات التي تحارب في الصحارى وفي الجبال وتعاني وتشقى لا لأنها ضعيفة بل لأنها ما فوق طبيعية، إنها لا ترضى بالحياة البشرية الساذجة من منطلق عمق رؤيتها، لذلك تلوذ بالتيه من ناحية وبالأقاصي كالآلهة في الأساطير. ولا يمكن أن نغفل أن هناك فئة في الشرق لا تختلط فعلا مع البشر وتعيش في عزلة تامة ولا تزوج أبناءها ولا بناتها بأي إنسي لاعتقادها أنها تنحدر من الجن، ولعل ذلك كان سببا آخر من أسباب ما حدث للإزيديين من تنكيل من تنظيم داعش حيث اتهموا بالإلحاد وعبادة الشيطان.

إن هذا المعتقد المشترك بين الأقلي المغاربي الأفريقي والأقلي المشرقي واشتراكهما في أسطرة الذات يمكن أن يقود البحث إلى اكتشافات أخطر متعلقة بالدلالة في روايات الكوني المؤرخ والفيلسوف والسياسي أيضا، فالكاتب الأقلي لا يمكن أن ينجو من السياسي كما يرى جيل دولوز وفيليكس غاتاري، والكوني المتشبع بثقافات العالم تتقاطع نصوصه مع نصوص غيره وتؤسس رؤيته لذاته ولهويته الطارقية الصحراوية.

والتاريخي الذي رصده الباحث في هذا الكتاب من خلال الإشارة إلى الاستعمار العثماني لليبيا والتاريخ الحديث، باستدعاء شخصية الضابط الأميركي جون باركر، ليس سوى قسم معلن من توظيف التأريخ بقصد تشييد العجائبي، لأن التاريخي في نصوص الكوني مبثوث بطريقة غير مرئية، والكوني ذوّبه في التخييل من ناحية ولأنه يأتي بالتاريخ القصي أحيانا الذي يبدو خرافة وأسطورة.

وكذلك الصوفي بالعودة إلى التاريخ كما قال الباحث “لا يعني بالضرورة الوقوف عنده فنيا وفكريا، بل يجعله بداية موضوعية للنهاية التخييلية العجائبية.. فقد وظّف الكوني اللامعقول والخوارق، علّ التاريخ يحين ويرفع عنه غبار النسيان ويبعث فيه لواعج الواقع الذي ما زال يئن تحت وطأته”، وهنا كان ينبغي للناقد أن يحدثنا عن هذا الواقع، أي واقع بالضبط ذلك الذي يريد الكوني تقويضه؟ وما علاقته بسياسة ليبيا القذافي وحماسته القومية؟ تلك الحقبة التي كتب فيها الكوني نصوصه، وكذلك اعتقادات الكوني ونظريته لمسألة العروبة مثلا، فالكوني وهو يتكئ على الصوفية لا يذهب إليها في نسختها العربية فقط بل يستدعي وجوهها المختلفة من البوذية والأفريقية .

أدب البيئة
إن من الدلالات التي لامسها البحث دون التعمق فيها هي صلة روايات الكوني بما يطلق عليه اليوم بالروايات البيئية التي تكتب لإنقاذ البيئة، وذهب الباحث الجلجلي إلى أن رواية الكوني كانت بحثا عن استعادة حياة ما قبل الحضارة، وهذا يتقاطع تماما مع فكرة الرواية البيئية التي تدين الحضارة والبشر الذين جرّوا الحياة والطبيعة إلى هلاكها بالصيد والإبادة كما في رواية الكوني للحيوانات النادرة خاصة ما بعد اكتشاف النفط. يقول الباحث “يشير إبراهيم الكوني بهذا إلى أهالي تاسيلي وأهالي الصحراء وتطيّرهم من صيد الودان لأن نتيجته الدمار كالنتيجة التي انتهت إليها الصحراء بغرق قابيل في الطوفان كما أغرق قوم نوح..”

كما أن تناول أعمال الكوني من نافذة الرواية البيئية سيجعلها تتقاطع مع تيار عالمي تلتقي فيه رواية نزيف الحجر برواية “كل الحيوانات الصغيرة” لووكر هاملتون، ورواية “العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية” للروائي التشيلي لويس سيبولفيدا الكاتب المدافع عن البيئة. ونحسب أن التورط في النقد المقارن لأعمال عربية مثل أعمال الكوني المقيم في الغرب منذ عقود ستكشف عن قيمة تلك الأعمال وانتظامها في أدب ما بعد الحداثة وفي الأدب العالمي عوضا عن مقاربتها استنادا إلى الأدب العربي القديم، لنكتشف أيضا أن إلحاق الكوني بصفة الكاتب القنفذ هو نفسه حكم جائر لأن “ثعلبة” نصوصه لا تُدرك إلا بالتأمل الطويل وبالثقافة الموسوعية للقارئ.

كتاب البشير الجلجي كتاب لافت ومهم في التطرق إلى أعمال الكوني الروائية من زاوية العجائبي، ويمكن أن يكون منطلقا لبحوث جديدة تقطع مع المقاربات الكلاسيكية التي تردد المقولات نفسها، وتنسى أن تستنطق النصوص أو حتى مقارنتها بغيرها، أو النظر إلى ما فيها من حقول فنية وفلسفية أخرى، ونحسب أن ذلك سببه أزمة النقد العربي المعاصر المكبّل بالبحث الجامعي الواصف الذي لا يتجرّأ على المغامرة والتفكير بطريقة أخرى، فحتى وهو يتحدث عن الرواية التجريبية التي تُكتب على غير مثال يكتب الناقد العربي بحثه، مع الأسف، على مثال. ومرد ذلك إلى أن الناقد العربي لا يقرأ الأدب العالمي بالشكل الكافي والمواكب لكي ينصف الأعمال العربية المعاصرة، فلا يمكن أن يدرك ما وصل إليه المبدع العربي وهو لا يعرف ثقافته ولا يدرك مسار تطور الأدب العالمي اليوم.

المصدر : الجزيرة

Related Posts