يبدو أن إثيوبيا تقترب بسرعة من شفا الحرب الأهلية. فقد أسفر القتال الدائر بين القوات الموالية للحكومة الفيدرالية برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد، وجبهة تحرير شعب تيغراي عن مقتل مئات الأشخاص، وبات يهدد بتمزيق البلاد.
وفي وقت تحتدم المعارك على الأرض، يخوض الطرفان حرباً كلامية أيضاً. يحاول كل طرف منهما فيها حشد أتباعه وإقناع العالم أيضا بأن لديهم سند أخلاقي عال ومعنويات عالية.
وتتهم كل من الحكومة في أديس أبابا وجبهة التحرير الشعبية لتحرير تيغراي، بعضهما البعض بالمسؤولية عن بدء الصراع.
وقال آبي أحمد إن ضباطا في الجيش قُتلوا بدم بارد.
وقال زعيم تيغراي دبرصيون جبراميكائيل: ثمة هجوم منسق شنته القوات الخاصة الإثيوبية وقوات من إريتريا المجاورة.
وإلى أن يتم إجراء تحقيق مستقل، تظل الروايات المتنافسة مجرد مزاعم بدون أدلة تُستخدم لإثارة المشاعر العدائية.
“سنوات من الظلام”
يرى الجانبان تاريخ إثيوبيا بشكل مختلف تماماً.
فقد أطيح بالإمبراطور الإثيوبي هيلا سلاسي في ثورة عام 1974. واستولت على السلطة طغمة عسكرية عرفت باسم “الدَرغ”، وهو مختصر لاسم لجنة التنسيق بين القوات المسلحة والشرطة والجيش في الأقاليم.
لن تنسى الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي معركتها الطويلة للإطاحة بالنظام العسكري الذي كان وراء ما عُرف بـ “الإرهاب الأحمر”
وقد تسبت الطغمة العسكرية بما عرف بـ “الإرهاب الأحمر” سيئ السمعة، عندما قتل عشرات الآلاف من الشباب على يد النظام العسكري، ووقعت حرب أهلية طويلة ضد المتمردين في جميع أنحاء البلاد.
ويتذكر سكان تيغراي تلك السنوات بوصفها سنوات من الظلام، عندما أجبرهم القصف اليومي لطائرات سلاح الجو على التحرك في الليل فقط.
وفي إحدى الغارات الجوية المريعة في عام 1988 على بلدة “هاوسين” ، قتل 1800 من المتسوقين وحول الدخان والغبار الناجمين عن القصف ذلك اليوم إلى ظلام دامس بالمعنى الحرفي.
وهزم تحالف حمل اسم الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية (إي بي أر دي أف) قادته جبهة تحرير شعب تيغراي (تي بي أل أف)، الحكومة العسكرية في عام 1991.
وفي اليوم الذي استلم التحالف السلطة، قال ميليس زيناوي، زعيم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية، وهو من تيغراي، إن هدفه الأول هو أن يتمكن الإثيوبيون من تناول ثلاث وجبات في اليوم.
انتهت المجاعة في ظل حكومة الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي لكن الديمقراطية لم تزدهر
وعلى مدار 27 عاما من حيازة الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية على السلطة، انخفض معدل وفيات الأطفال من حوالي واحد من كل خمسة إلى واحد من كل 20 طفل.
وانتهت المجاعة والحرب الأهلية التي جرت على نطاق واسع في البلاد.
لكن إثيوبيا لم تر الديمقراطية. ويصف رئيس الوزراء آبي وأتباعه هذه السنوات بـ “27 عاماً من الظلام”.
وشعر جيل صاعد من الشباب بأن أصواتهم قد كتمت وحرموا من المشاركة في الحياة السياسية. ويعيدون أسباب ذلك إلى من يصفونهم بأنهم زمرة من التيغراي هيمنوا على السياسة والجيش والاقتصاد لمصلحتهم الخاصة.
وقد قادت موجة السخط تلك إلى أن يكتسح آبي أحمد – وهو من اثنية الأورومو – السلطة؛ بعد أن اختارته الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية زعيما للحزب ومن ثم رئيساً للوزراء في عام 2018.
وقام أحمد بخطوات سريعة لدفع السياسة الاثيوبية في اتجاه أكثر ليبرالية، وحلّ تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الأثيوبية، وأنشأ حزبا جديداً سماه “حزب الرخاء”.
1px transparent line
هذه التحركات أكسبته شهرة واسعة، وعلق منتقدوه بامتعاض قائلين إن “التفكيك لا يعني البناء”، في إشارة لحله تحالف الجبهة الديمقراطية الشعبية.
وأبرم آبي اتفاق سلام مع إريتريا، وفاز بسبب ذلك العام الماضي بجائزة نوبل للسلام، وأصبح صديقاً مقرباً من الرئيس أسياس أفورقي، على الرغم من هدف الزعيم الإريتيري المعلن منذ فترة طويلة هو تفكيك إثيوبيا، بدءاً من جيشها.
طوابير للتبرع بالدم في أديس أبابا من أجل المقاتلين في تيغراي
ويعد آبي من المتدينين ومن اتباع الحركة الخمسينية (حركة دينية بروتستانتية)، وغالباً ما يتحدث كما لو أنه مفوَّض من الله.
وعندما تقرأ كتاباته، وبضمنها رسالته للدكتوراه، وكتيبات إرشادية للتطوير الذاتي في كلية إدارة الأعمال، تجد أن لديه ثقة عالية في أن القيادة النشطة الديناميكية الواثقة من نفسها تُولّد واقعها الخاص.
ويعتقد أنه يستمد الكثير من دعمه الآن من اثنية الأمهرة في أديس أبابا ومنطقة أمهرة. لكن لم يواجه لا هو ولا حزبه الجديد أي تجربة انتخابية.
“تخلص من الدستور”
بيد أن آبي يقول إن جبهة تحرير شعب التيغراي تجاوزت الخط الأحمر عندما أجرت انتخابات إقليمية في سبتمبر/أيلول.
ولم تأذن الحكومة الفيدرالية بهذه الانتخابات ولم يكن حزب الرخاء قادراً على خوض المنافسة فيها.
وترد جبهة تحرير شعب تيغراي، بقولها إنه كان من المقرر إجراء الانتخابات الوطنية في وقت سابق من العام وإنها أجلت مراراً وتكراراً، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى وباء كوفيد 19، وأن ولاية الحكومة قد انتهت دون موعد محدد لإجراء الاقتراع. ويقولون إن حكومتهم هي الحكومة الإقليمية الوحيدة بتفويض من الناخبين.
وباتت ساحة المعركة السياسية هي دستور إثيوبيا، إذ يعتمد في البلاد نظام فيدرالي تدير فيه المجموعات العرقية الرئيسية مناطقها الخاصة.
حرر آبي السياسيين ورفع الحظر عن بعض الأحزاب، ومع ذلك يشعر شعب الأورومو بأن رئيس الوزراء خذلهم
وقد تم تبني ذلك في عام 1994 بعد وقت قصير من تولي الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية للسلطة. ويريد آبي التخلي عن ذلك.
وتتمتع ولايات إثيوبيا التي تشكل أقاليم، بشكل فريد، بالحق في تقرير مصيرها.
وكان السبب وراء هذه الروح الإقليمية لإيجاد ضمانات في العملية الديمقراطية، ففي حال انهارت الديمقراطية في حكومة المركز، يُمكن للإقليم أن يختار الطريق المناسب لها.
لم يطالب بذلك سكان تيغراي فحسب، بل قادة الجماعات الأخرى المهمشة تاريخياً أيضاً، بما فيها الأورومو، وهي أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا.
لم تطالب الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بالانفصال. لكن منطق المواجهة اليوم يقودهم نحو هذا الطريق.
واستاء العديد من الأورومو والجماعات العرقية الأخرى في جنوب إثيوبيا من الهيمنة السياسية للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي. لكنهم جميعاً يعتزون بقوانين الحكم الذاتي في الدستور.
وفي الواقع، صوتت إحدى هذه المجموعات – سيداما – على أن يكون لها دولة فيدرالية خاصة بها العام الماضي.
يعتقد البعض أن رئيس إريتريا أسياس أفورقي ربما شارك في التخطيط لغزو تيغراي مع آبي
“حكم أم خراب”
انقلب آبي ضد حركة شباب أورومو التي أوصلته إلى السلطة في هذا العام. فبعد مقتل مغني الأورومو هاتشالو هونديسا، قتل أكثر من 150 شخصاً في أعمال شغب، وتعرض ما يزيد عن 10 آلاف شخص للقمع والسجن في ظل إدارته.
ومن بينهم جوار محمد، مؤسس شبكة أورومو الإعلامية، الذي يواجه تهماً بالإرهاب، وآخر، هو زعيم المعارضة المخضرم ليديتو أيالو، الذي لا يزال في السجن رغم أمر المحكمة بالإفراج عنه.
وقتلت عصابات مسلحة تطلق على نفسها اسم “جيش تحرير أورومو” أكثر من 50 قروياً من قرية أمهرية في منطقة ووليجا قبل أسبوعين.
وألقى آبي باللوم على “أعداء إثيوبيا” المصممين على “حكم أو تدمير البلاد” – وهي كلمات مشفرة بقصد بها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.
وتتركز قاعدة سلطة أبي، في الغالب، بين النخبة السياسية من الأمهرة التي تريد إلغاء النظام الفيدرالي لصالح نظام حكومي موحد.
وهناك العديد من الأسباب الوجيهة لانتقاد الفيدرالية العرقية، لكن الجماعات الإثيوبية المتنوعة – مسلحة جيداً ومدركة سياسياً – أوضحت أنه لا يمكن لأحد حكمها ضد إرادتها.
وتشير التقارير الواردة من جبهة الحرب إلى وقوع مذبحة بحق المدنيين الأمهرة، وتقارير أخرى من أديس أبابا ومدن أخرى عن عمليات اعتقال جماعي لسكان تيغراي.
وتتهم القوات الحكومية بفرض تعتيم إعلامي على تيغراي. وبفرض حصار شامل على المنطقة ومنع الإمدادات والمساعدات الإنسانية عنها.
عبر آلاف الإثيوبيين الحدود إلى السودان بحثاً عن ملجأ في هذا المخيم بولاية كسلا
وتقول جبهة تحرير تيغراي إنها أسرت القوات الإريتيرية التي حاولت غزو تيغراي.
إن هدف آبي المعلن لإعلان الحرب هو فرض سيطرة الحكومة الفيدرالية على تيغراي.ولا يعتقد أي مراقب لما يدور في إثيوبيا أن ذلك ممكن.
ولم يدل الرئيس الإريتري، الذي يعتقد البعض أنه ربما شارك في التخطيط لغزو تيغراي، بأي تصريح في هذا الشأن.
ويتصاعد الصراع في إثيوبيا ويخرج عن نطاق السيطرة يومًا بعد يوم.
ومن المحتمل أن يكلف هذا عشرات الآلاف من الأرواح. وكما توقع الكتاب الأبيض عن الأمن القومي الصادر عن الحكومة الإثيوبية عام 2002: “لا يمكن استبعاد احتمال التفكك تمامًا”.
أليكس دي وال هو المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس في الولايات المتحدة.
المصدر: بي بي سي عربي