حملت الثورة السورية مع انطلاقتها ربيع عام 2011 متغيرات جمة على الساحة السورية، التي شهدت توافد ملايين السوريين إلى الساحات مطالبة بإسقاط النظام في البلاد؛ ولكن قمع النظام السوري، وتخاذل المجتمع الدولي أديا إلى تحول الثورة إلى ثورة مسلحة، حيث وصفت المعتقلات في سورية بمقولة يتداولها السوريون، وهي الداخل مفقود والخارج مولود، فشاءت الأقدار أن يكون الروائي السوري عبد الله اليبرودي أحد “المولودين”، ويخبرنا عن المأساة التي عاشها هناك من خلال روايته (قضبان الربيع)، الصادرة حديثا عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت.
استعرض اليبرودي في روايته رحلته في المعتقلات السورية، حيث تنقل خلالها بين فروع المخابرات والأمن المختلفة من المخابرات الجوية إلى سجن صيدنايا ثم سجن مدني، وما حفظت ذاكرته من خلال تجواله في السجون، وذلك من خلال إلقاء الضوء على معتقلين يحار اللسان في وصفهم أهم أحياء أم أموات؟.
وإذا كانت الرواية تبدأ بعودة بطلها الراوي عبدالله خائبا من دولة خليجية، بعد أن سافر إليها حالما بفرصة عمل بعد نيله الشهادة الجامعية، فإنه وبعيد وصوله يجد نفسه منخرطا في المظاهرات التي تتم في الوطن بعد اشتعال فتيل الغضب في مركز محافظته، وتوسعها تدريجيا ضمن درعا وخارجها، ومواجهة النظام السوري للمظاهرات السلمية بالرصاص والنار، “بكل ما أوتي من بطش؛ بل والبدء باقتحام الجامع العمري، وانتهاك حرمته دون أي وازع أخلاقي”، بعد أن احتج المصلون على أسر وتعذيب أطفال مدارس درعيين، وإهانة ذويهم، وكان هؤلاء الأطفال قد كتبوا على أحد جدران مدينتهم بعض العبارات التي تستهدف رأس النظام، حسب الراوي.
نسائم الربيع الأولى
ثمة ما يمكن تسجيله للرواية التي كتبت بلغة “ريبورتاجية” صحفية جذابة، أنها وثيقة أو مدونة بطلها هو المؤلف/الراوي الذي يستعين بذاكرة قوية لتدوين تفاصيل كثيرة مما عايشه، منذ لحظة إلقاء القبض عليه، وهو مع عدد من أبناء قريته في طريقهم إلى “مظاهرة صيدا” المكرسة لفك الحصار عن درعا، بعد أكثر من شهر من انطلاقة شرارة الثورة السورية، التي قد يختلف في تحديد نقطة بدئها: هل بدأت من دمشق أم أنها بدأت من درعا؟ كما سجل مكان ولادتها هناك على نحو رسمي.
يقول الكاتب “دخلنا من البلدات المجاورة إلى مدينة درعا تجولنا في المدينة، وسرنا باتجاه مركز المدينة حيث تجري التظاهرات، ما إن اقترب الناس من بناء الأمن السياسي حتى استقرت إحدى الرصاصات القادمة من البناء في صدر أحد المشاة فخرّ صريعا، وبدأت الحيرة تكتسي وجوه الجميع.. جالت الأفكار بسرعة في أذهان المتظاهرين عما يتوجب عليهم فعله؛ إلا أن سرعة الرصاصات كانت أكبر، فأسقطت رجلا أخر”.
خيار الموت
يفتح عبد الله اليبرودي نافذة جديدة على التاريخ السوري، وعبره يفكك خطاب الثورة، التي أسقطت الكثير من الثوابت في مسيرة النظام السوري منذ ستينيات القرن الماضي، يتناول اليبرودي كل ذلك انطلاقا من المآسي التي عايشها شخصيا متنقلا في عدد من السجون على طول وعرض الجغرافية السورية.
تنطلق الرواية من مشاهد الثورة الأولى والعنف الذي صاحبها حيث يصفه الراوي قائلا “جاء أحد الضباط وقد خاطب عساكره الذين يحاصرون المتظاهرين: لا تضايقوهم إنهم إخواننا”.
يقول اليبرودي “سررنا بهذا الكلام وتفاءلنا أن الأمور لن تسوء أكثر من ذلك”، ويضيف “كان العساكر يستهزئون سرا منا ويتوعدوننا: إنكم لم تروا شيئا بعد. صعدنا إلى الباص حيث كانت كراسيه فارغة، وقد تحول إلى سيارة شحن، كان بإمكان العسكري أن يضرب الجميع دون استثناء، كان العساكر يتناوبون علينا بقصد التسلية، وقد بدا لنا أن خيار الموت أرحم من وجودنا في المعتقلات”.
يقول الكاتب والروائي السوري إبراهيم اليوسف المقيم في ألمانيا “ثمة إغراق للرواية في واقعيتها، من خلال: أسماء الأمكنة، والشخوص؛ بل وإيراد التواريخ والأرقام بما يثير الدهشة، بل إن الاستعانة ببعض الصور الواقعية، ومن بينها صور للناس/الراوي عزز سيروريتها السجنية، وذلك على حساب روائيتها، وفنيتها، ناهيك عن أن الرواية لم تتعد حاجز مشاهدات ومعايشات الكاتب في محنته؛ لأن أحداث الثورة شملت خريطة سوريا كاملة، وكان هناك ما يمكن إضافته واقعا أو تخييلا”.
ذكريات الموت والحياة
وثقت الرواية معاناة اليبرودي وآخرين مثله، وأرّخت لمرحلة من تاريخ سورية الحديث قبل وبعد ثورة 2011، يقول المؤلف “وقعت عيناي على معتقل قيدت يداه خلف ظهره، وأُلبس عصابة سوداء على عينيه، وأُلقي على الأرض، رفض الأسير الاعتراف بما يريدون، فقام السجان برفع عصا جاوز طولها المترين، وقفز بها إلى أقصى ارتفاع استطاعه ليهبط على جسم الأسير النحيل، الذي ترددت أصداء صرخته في جميع أنحاء الفرع (مكان الاعتقال)”.
ويضيف الكاتب “تم نقلنا إلى معتقل أخر في القصاع وسط مدينة دمشق تابع للمخابرات الجوية، أحسست في هذا المكان بالكرامة؛ لأن أحد المعتقلين تشاجر مع السجان بسبب شتمه الذات الإلهية، وما كان من السجان إلا أن اعتذر من المعتقل”. هذه الحادثة كان لها تأثير معنوي على المعتقل (المؤلف) كما يؤكد الراوي “كان النوم ممنوعا بأمر السجانين، وفي النهار تبدأ حفلة الإهانات مع السجان أبو أحمد الذي يأمر السجناء بكلمتين (سنطرْ. سنطرْ!) كلمة تعني أن تضع وجهك في المكان المناسب لتلقي الصفعات من كل جانب”.
الدولاب الناري
وعبر صفحات هذا الكتاب، يحاول المؤلف الإضاءة على عتمة المعتقلات السورية، وتدوين ما شاهده من تعذيب وامتهان لحياة الإنسان، ومن أجواء المعتقلات، يذكر الكاتب تفاصيل مأساوية عن حياة السجناء اليومية، ونقل ما يجري داخلها من إذلال متعمد لأناس حاولوا مجرد التعبير عن مشاعرهم بالحصول على الحرية، والحد الأدنى من الكرامة.
ويوضح الراوي يجب على المعتقل خلع ثيابه جميعها إلا ما ستر عورته، وألا يتجاوز استعماله للحمام مدة 30 ثانية، فمجرد سماعنا لصوت مفاتيح الزنازين، التي يحملها السجان، وهو يسير في الممر ذلك يجعلنا نشعر بتوعك وألم في المعدة وارتفاع في ضغط الدم.
ويقول المؤلف “خرجنا من الزنزانة متتابعين الواحد تلو الآخر، ونلقن كاتب المخابرات الجوية معلوماتنا بسعادة غامرة، فما هي إلا لحظات حتى نرى ضوء الشمس، قيدنا كل شخصين معا، صعدنا إلى الحافلة التي أقلتنا إلى معتقل جديد، انطلقت الحافلة والسجانون يزيدون متعتهم بالضرب إضافة إلى بذاءة اللسان، وعندما وصلنا إلى المكان بدأت الزفة فعلا، وبدأ كل عسكري يزف سجينا”.
ويضيف الراوي “ألقى السجان البطانية العسكرية على وجهي، وبدأ يضربني باتجاه مكان قريب، وبدأت أسمع أصواتا غريبة جدا، وأنا أحاول الدخول إلى الزنزانة؛ لكني تعثرت، أمسكني عسكري آخر ثم أدخل ركبتيّ في إطار السيارة، ووضع عصى بين الدولاب وركبتي من الخلف، وقلبني على وجهي، ثم بدأ بالضرب. هذا ألم لم أشعر به من قبل، ولا شك أن هذه الأصوات هي أصوات رفاقي؛ لكن شدة الألم جعلت أصواتهم مختلفة”.
بين يدي العسكر
يصف الكاتب أجواء المعتقل “حلّ الليل، وقد وصل السجان، وخاطب المعتقلين: بعد أن أعد للثلاثة يجب أن يكون الجميع نائما، طبق المعتقلون الأوامر بدقة، وبعد ساعتين وقف سجان آخر أمام الباب، وبدأ يكيل الشتائم لأعراض المعتقلين: يا ابن… يا أخو….”، ويضيف الكاتب “كانت هناك زيارة دورية لطبيب السجن كل أسبوعين ربما أو كل شهر أحيانا. يشعرك هذا الطبيب بمستوى خلقه العالي عندما يدخل سائلا: من الحيوان المريض؟”.
لا يفتأ قارئ نص هذا العمل السردي يلتقط أنفاسه، على امتداد 300 صفحة ونيف، لا سيما وأنه منذ بداية هذا الشريط اللغوي المثير والاستفزازي والبسيط حتى أواخره ثمة ما يشد، بدءا من عودة الراوي بالطائرة خائبا إلى بلده دون أن يحصل على عمل، وكان يمكن لهذا المشهد أن يكون له حضوره في مواطن أخرى من النص بغرض كسر رتابة التوثيق، وإطلاق عنان التخييل، أو التخلص من الطابع المذكراتي، لا سيما لفترة السجن التي بلغت سنتين و10 أشهر و11 يوما.
محطات سيئة
الرواية سيرة جماعية توثق ما يجري داخل السجون السورية بكل تجرد، حيث لم تقتصر على تجربة المؤلف إنما تطرقت إلى علاقة المؤلف مع المعتقلين على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، وقد كان السجان يجسد ممثل شخصية الحاكم في السجن كما يؤكد المؤلف “يقوم السجانون باستخدام أساليب وحشية تجاه المعتقلين، وحاول السجانون محو الصفة الإنسانية عن المعتقلين وتحويلهم إلى مجرد حيوانات داجنة، حيث يقوم السجان بالسخرية من السجناء بالقول ماذا أنتم؟، هنا ينتظر السجناء من السجان بماذا يجيبون بعد لحظات من التفكير يخاطبهم أنتم (بطاطا)، ثم أعاد عليهم السؤال، (ماذا أنتم؟)، فيجيب المعتقلين فرحين (بطاطا)، فالبطاطا أفضل الأشياء التي ننعت بها أنفسنا حتى الآن” كما يقول المؤلف.
ويضيف الراوي “بعد ذلك بدأت عملية نقل المعتقلين إلى سجن أخر هذه المرة ستكون المحطة المقبلة صيدنايا سيئ الصيت، نزل المعتقلون من الباص الذي أقلهم إلى محل إقامتهم الجديد، قام السجان بنظم السجناء في صف؛ لكنه ابتكر هذه المرة طريقة جديدة لنمسك بعضنا ببعض، فأمر كل واحد منا أن يعضّ بأصبع صاحبه الذي أمامه ليمسك به، قمنا بذلك وبدأ الرتل يمشي؛ ولكن لا ندري إلى أين”.
السجّان
وحسب نص الرواية كان السجانون يطلقون ألقابا على السجناء مثل “ختيار الكبة، والصرصور”؛ لكي يحطوا من قيمتهم، ويؤكد الكاتب بأنّ “أحد السجانين وضع نعله في فم رجل سبعيني من بين المعتقلين، وكان نصيب المعتقلين من التعذيب كلّ حسب مؤهله العلمي، خريج الجامعة ينال قسطا أعلى من التعذيب والإهانات، بينما صاحب الشهادة الثانوية فعقابه أخف وطأة”.
ويضيف الناقد والروائي اليوسف للجزيرة نت “إن خط السير الزمني بدا تصاعديا دون أي كسر بما يخدم التوثيق، والواقعية الصرفة؛ لتكون أهمية هذا النص في قساوة، بل صدمة الشهادة المقدمة، وكأن الراوي أمام محكمة لمقاضاة القتلة والمستبدين بعد خلاصه وحريته؛ ليكون ذلك الخيط الهيولي الذي يجذب القارئ -بالرغم من استفزازية الأحداث- وهكذا بالنسبة إلى اللغة السردية البسيطة المستوفية، التي كتب بها هذا العمل الذي ستكون له أهميته كوثيقة، أو شهادة أدبية من أسير، ليضاف إلى مكتبة أدب السجن في سوريا؛ بل إلى روايات الثورة السورية”.
من العبودية إلى الحرية
عانى الراوي ومن معه من آلة العنف والرعب منذ لحظة إلقاء القبض عليهم حتى لحظة حصار بعض فصائل الجيش الحر للسجن المدني الذي انتهوا إليه، بعد مرورهم بدهاليز وزنزانات العديد من الفروع والسجون، وكان ومن معه قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، لا سيما بعد أن أكره على الاعتراف بأنّه حمل السلاح، وكان يقود عصابة إرهابية مأجورة وغير ذلك تحت وطأة التعذيب.
ويقول الكاتب عبد الله اليبرودي للجزيرة نت “إن الثورة التي انطلقت عام 2011، وقدمت مئات الآلاف من الضحايا، وسجن في سبيلها الكثير، وإن بدا للكثيرين أن جذوتها خافتة؛ إلاّ أنها ماضية إلى تحقيق أهدافها، ويقضي الله أمرا كان مفعولا”.
وبعد تلك المعاناة غادر مؤلف هذا الكتاب عبد الله اليبرودي وأسرته سوريا نحو ألمانيا لاجئا بعد خروجه من السجون السورية في غضون الصراع السوري المحتدم منذ عام 2011، على الرغم من أنه لم يتوقع في بدايات الثورة أن يغادر مدينته، التي وهب حياته لها منذ البدايات الأولى لانطلاق الثورة.
المصدر: الجزيرة نت