اشتهر الأكاديمي والشاعر والكاتب الأميركي بيتر لامبورن ويلسون باسم “حكيم بك”، وهو الاسم المستعار الذي اختاره بنفسه ليدوّن به أفكاره اللاسلطوية عن “الشبكات المستقلة ذاتيا” التي تجلت في قراءته التاريخية لما أسماه “يوتوبيا القراصنة”.
بعد وقت قصير من اغتيال مارتن لوثر كينغ عام 1968، غادر “حكيم بك” جامعة كولومبيا، وسافر من نيويورك التي ولد فيها عام 1945 إلى لبنان في تجربة فريدة من نوعها لدراسة التصوف، ورحل بعدها إلى الهند ليمارس التأمل في كهف فوق الضفة الشرقية لنهر الغانج، ورحل بعدها إلى باكستان حيث اختلط مع أمراء محليين وشيوخ صوفية مسلمين، وجلس على كراسي مقاه تقدم المخدرات لروادها، فيما أسماه “تجاهلا تاما لوجود أي نظام حكومي” حيث اعتمد الناس على الأسرة والعشائر والقبائل لتسيير حياتهم.
ومن باكستان انتقل ويلسون إلى إيران ليطور أفكاره، وترجم عددا من النصوص الفارسية الكلاسيكية مع الباحث الفرنسي هنري كوربين، وعمل أيضا صحفيا في “مجلة طهران”، وفي عام 1974 كلفت إمبراطورة إيران فرح بهلوي والزوجة الثالثة لشاه إيران الأسبق محمد رضا بهلوي سكرتيرها الشخصي، الباحث الإيراني المعروف سيد حسين نصر (الأستاذ في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن حاليا)، بتأسيس الأكاديمية الإمبراطورية الإيرانية للفلسفة، وعرض نصر على ويلسون منصب مدير منشوراتها باللغة الإنجليزية، وأصبح محرر مجلة الأكاديمية “صوفيا بيرينيس” في الفترة من 1975 حتى 1978 قبل اندلاع الثورة الإيرانية 1979.
بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، عاد ويلسون إلى نيويورك، وتقاسم منزلا ريفيا من الحجر البني مع الكاتب الأميركي والفنان التشكيلي الما بعد حداثي ويليام بوروز الذي قال إن “حكيم بك” قدم له فكرة عن زعيم طائفة الحشاشين حسن الصباح واستخدمها في روايته الأدبية “الأراضي الغربية”.
فلسفة لاسلطوية
ويعرف “حكيم بك” بتنظيره لأفكار اللاسلطوية (الأناركية)، وقال حديثا في تعليق على حركة احتلوا وول ستريت “لقد بدأت أشعر أنه لن تكون هناك انتفاضة أميركية أخرى، وأن الطاقة انتهت، ولدي بعض الأسباب للاعتقاد بأن ذلك قد يكون صحيحا.. أود أن أشير إلى أن معدل الجريمة في أميركا آخذ في الانخفاض منذ فترة طويلة، لأن الأميركيين لم يعد لديهم ما يكفي من الشجاعة لارتكاب الجرائم بعد الآن، واضمحل الجانب الإبداعي من الجريمة، وبالنسبة للانتفاضة التي تتخذ موقفا مبدئيا ضد العنف، فأنا معجب بمثاليتها، لكن لا أعتقد أنها ستحقق الكثير”.
وفي كتابه “يوتوبيا القراصنة: القراصنة المغاربة والخونة الأوروبيون (Pirate Utopias: Moorish Corsairs & European Renegadoes)، يحكي حكيم بين الحقيقة والخيال قصة جزيرة سرية استخدمها القراصنة يوما ما بغرض توفير الإمدادات لعمليات القرصنة، وبحسب الكتاب فإن هذه الجزيرة (المستوطنة) تبنت نظاما لاسلطويا (أناركيا) بدائيا محكوما ذاتيا بعيدا عن الحكومات وأنظمة الحكم والقواعد التي تقيد الحرية.
ويقول حكيم إن هذه الجزيرة بموقعها على الساحل الأمازيغي قريبا من سلا المغربية وبلاد الجزائر كانت ملاذا للقراصنة والمتمردين بين القرنين 16 و18، وانضم لهؤلاء القراصنة عدد من الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام كمحاولة للتمرد على الأفكار السائدة في أوروبا آنذاك.
ويرى حكيم أن انضمام هؤلاء المتمردين لمجتمع القراصنة يعد تطبيقا لفكرته عن المقاومة الاجتماعية، ودرس حالة جمهورية سلا أو “جمهورية أبي رقراق” البحرية التي ظهرت في منطقة مصب نهر أبي رقراق بين سنتي 1627 و1668 كنموذج لفكرته النظرية، إذ تأسست من مسلمين وموريسكيين مطرودين من الأندلس، واعتمدت على القرصنة البحرية لبناء اقتصادها، وهددت المصالح الأوروبية جنوب غرب البحر المتوسط.
وكان نشاط القرصنة البحري في هذا العصر نظاما معتادا في أوروبا ومحيط المتوسط، ولا يمكن مقارنته باللصوصية البحرية الحديثة، إذ كانت “القرصنة التفويضية” تستند لتفويض خاص وتهاجم السفن المنتمية لصالح دول تكون في حالة عداء مع الدولة صاحبة التفويض، وتدفع الضرائب لفائدة الدولة المفوضة.
القرصنة المتخيلة
ويعارض حكيم في كتابه وجهات النظر التاريخية التقليدية عن “مرتدين” في القرن السابع عشر في الثقافة الأوروبية (المسيحيين الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام في تلك الحقبة)، معتبرا أن هؤلاء الرجال والنساء كان لديهم نوايا وأفكار خاصة بهم، ويمكن اعتبار تحولهم إلى الإسلام في وقت كانت فيه معظم أوروبا منخرطة في الحروب الصليبية بمثابة عمل ثوري.
ويستند الكتاب للعديد من المصادر بينها كتابات تاريخية لمسلمين وأوروبيين ومذكرات مستعبدين هاربين وقراصنة من شمال أفريقيا، بينهم من تحوّل للإسلام “لأن الإسلام في القرن السادس عشر كان أكثر ديمقراطية وتقديرا للمتعة وسعيا للحكمة من مسيحية القرن السادس عشر”، بحسب تعبيره.
ويوضح الكتاب أيضا أنه ربما كان هناك ما يسميه ويلسون “الظل الإيجابي للإسلام” في أوروبا، ويقصد أنه بينما كان التيار السائد في أوروبا يشوّه الثقافة الإسلامية، كان هناك أيضا ولا بد تيار مضاد من الأفكار الإيجابية عن الإسلام كان من شأنه أن يلهم “المرتدين” بالمئات.
ومع ذلك تعرض حكيم للنقد من قراء رأوا أنه لم ينجح تماما في إثبات وجود ثقافات قرصنة متماسكة ذات طبيعة ثورية وفوضوية (أناركية) منظمة، وأنه ربما تعسف لإثبات فكرته الأولية، كما يمتلئ الكتاب بالحكايات التفصيلية لأنشطة القراصنة اقتبسها من مصادر تاريخية.
ويركز حكيم بشكل خاص على المتحولين الأوروبيين للإسلام (المرتدين) على أمل العثور على دوافعهم، ويعتبر حالة ميناء سلا في المغرب، الذي كان لعدة عقود مستقلا عن الحكم العثماني ومتعدد الثقافات ويحكمه القراصنة كجمهورية مستقلة، واحدا من النماذج المثالية للقراصنة كيوتوبيا فوضوية “أناركية”.