لا كتب تصدر عن السجينات إلا نادرا، و لا أدب يتحدث عن معاناة المرأة السجينة. ما زال أدب السجون الذي يتقاطع مع الأدب “السيرذاتي” في غالب الأحيان يختزل السجين السياسي في الرجل. ظلت سجون النساء مغلقة على أسرارها ومجاهل غفل باستثناءات قليلة مع نوال السعداوي في كتابها “عنبر غير السجينات” و”مذكراتي في سجن النساء”، أو مع زينب الغزالي في “أيام من حياتي” التي روت فيه مذكراتها، أو مليكة أوفقير التي سجلت حياتها في سجن الحسن الثاني ونشرتها بعنوان “السجينة”.
ولعل تلك الندرة في كتابة معاناة المرأة السجينة في العالم العربي ليس مرتبطا بندرة التجربة السجنية بل بطبيعة المجتمعات العربية التي تظل محافظة وتطلب فيها المرأة الستر بدل فضح جلاديها. ونادرا ما نجح صناع الوثائقيات السينمائية في إقناع السجينات السابقات برواية تجربتهن بكل جرأة ودون تشذيب. في المقابل لم يكن التخييل أكثر جرأة ولا اهتماما بهذه التجارب المسكوت عنها، فقد ظل هو الآخر يستبعد مقاربة هذه التجارب المريرة، ولن نفهم لذلك التهميش سببا، ولعل غياب الوثيقة إحدى مبررات هذا القصور في هذا الحقل من الأدب.
غير أن الروائي التونسي سمير ساسي حاول في روايته الثالثة “بيت العناكش” الصادرة عن دار سوتيميديا بتونس، اقتحام هذا المبنى المظلم من هذه المدينة الحالكة المتكونة من سجون النساء، ليكتب معاناة سجينات تونسيات في ظل النظام السابق.
أصل النص صدفة
خلافا لروايته “برج الرومي” التي انطلق فيها سمير ساسي من تجربة خاصة في السجون التونسية، ليروي قصة السجين المعارض فخر الدين والتي تتقاطع في شبه تطابق مع صورة المؤل، ينطلق في هذه الرواية من الآخر لا من الذات: الآخر التجربة والآخر الجنس، فهذه تجارب نساء.
ونقرأ في عتبات نصية عبر تصريحات الكاتب أن القادح في كتابة هذه الرواية هو خبر قرأه الكاتب في جريدة عن موت سجينة بعد خروجها من السجن بسبب التعذيب، استلهم منها شخصية “جميلة” التلميذة التي تسجن بعد اعتقال أبيها بتهمة الانتماء إلى التيار الإسلامي.
هذه الشخصية دفعت ساسي إلى البحث في الموضوع وتجميع عدد من الشهادات الحية حول مادتها إلى عمل أدبي؛ فالرواية من هذه الزاوية تندرج ضمن ما يسمى بالرواية الوثائقية، والتي تنشغل بقضية أو جريمة أو مجموعة من الجرائم. والجريمة هنا هي ما تعرضت له السجينات من التيار الإسلامي في المعتقلات التونسية في التسعينيات.
يحاول ساسي في الرواية أن يمحو حدود الوثيقة مع حدود التخييل، فلا تكاد تهتدي إلى الواقعة من التخييل ولا الشخص من الشخصية، بتذويب المرجعي في الحكاية المتخيلة.
الاسم الوحشي
بيتْ لعْناكشْ (هكذا تنطق بالعامية) هي الزنزانة التي تجمع فيها السجينات اللاتي صدر ضدهن أحكام بالإعدام أو المؤبد من سجينات الحق العام، زجت معهن سجينات التيار الإسلامي.
والعناكش في العامية التونسية تعني رقاب الطيور، تلك الأجزاء المهملة من الدجاج في المسالخ والكثير من الناس يرمونها للقطط والكلاب، وهي تسمية تعكس عنف اللغة التي يتوخاه النظام المستبد في التعامل مع المعتقلات.
فإطلاق هذا الاسم وتداوله بين الناس يمثل أولى أشكال الإرهاب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية عبر اللغة، قبل الوصول إلى التعذيب الجسدي. العناكش هنا هنّ رقاب النساء اللاتي ينتظرن الإعدام.
إن أفظع ما نمارسه من عنف في المتداول اليومي هو شطب اسم العلم من الإنسان ونعته بالحيوان، وهنا يقع تجريد السجينات من إنسانيتهن وإلحاقهن ببقايا الطيور والحيوان. والحق أن التعذيب السياسي في تونس والعالم العربي يعتمد كثيرا على هذا المعجم المرتبط بسلخ الدجاج وطهوه، فأشهر عملية تعذيب تمارس على السجناء هي ما يعرف بـ”الروتي”، والتي باتت وضعية شهيرة عند من عاش السجن ومن لم يعش، وهي وضع الدجاجة المشوية في سيخ الحديد لما فيها من تحقيق لهدف الإذلال والإهانة المرجوة.
تقول مريم (إحدى شخصيات الرواية السجينات) متحدثة عن هذا الأسلوب وهي تصف وضع الدجاجة: “يعشق الحرس القديم وضع الدجاجة في التعذيب، هو عندهم كالملح في الطعام، يعجلون به إلى كل وافد عليهم ولا يهتمون لجنسه، يتندرون بالزرقة حين تعلو وجه السجين لانحسار الدم عنه بحبل الوثاق، وبالزرقة في يده وفي كل جسده، ويبحثون كالبهائم عما يشبع غريزتهم حين يكون الوافد أنثى، ففيها ما يظنونه يدفع ضحيتهم للسكوت والاعتراف. بلا رحمة كان الروتي”.
سيرة جماعية لسجينات في معتقلات تونسية
الرواية سيرة جماعية لسجينات تونسيات، جميلة وخديجة ومريم وليلى ومنى ونور. تروي كل واحدة قصة اعتقالها وتتناوبن على رواية المشترك من عذاباتهن في السجن عبر التعذيب والتنكيل من الجلادين والسجينات الأخريات، فقد كان “الحاكم” -كما يسميه الرواة- يتفنن في تعذيبهن من التعنيف اللفظي إلى الجسدي، ويسعى في ذلك إلى تدمير كل ما هو حميمي لهن بتجريدهن من حجابهن وتمزيق ملابسهن المدرسية وتعريتهن وضربهن، واستعمال أساليب فظيعة “كالفونتوز” الذي يشد أثدائهن حتى تتعفن فتهاجمهن الأمراض والسرطانات.
إلى جانب الاستعانة بسجينات من مستويات أخرى في فضائهن كبائعات الهوى، للتحرش بهن ولتدميرهن نفسيا، إضافة لما تفعله بهن ناظرة السجن المرأة الشرسة والغليظة.
لا تهتم الرواية بالعنف ضد المرأة بل بعنف المؤسسة ضد المعتقلات المنتميات، لأن المرأة في الرواية تمثل جزءا من ذلك العنف المسلط عليها عبر السجينات والنظار والحارسات.
وكما يسيطر النظام على المواطنين بالمجرمين خارج السجون فلا يحتاج إلى تدخل الشرطة إلا نادرا، بل يكلف هؤلاء بالمهام القذرة إلى وقت قريب؛ كان أيضا يستعين بالسجينات العنيفات أو المريضات كالسجينة “فلتة” المريضة نفسيا بسبب قتلها أمها، لتنكل بجميلة الفتاة البريئة التي زجت ببيت العناكش مع الوحوش، بحسب الرواية.
لغة تراثية تنحو نحو البراغماتية
تبدو هذه الرواية التي لم تتجاوز 140 صفحة متماسكة البناء وفق برنامج سردي واضح وضعه الكاتب لتوزيع النص على الشخصيات، والراوي العليم عبر مراوحة ذكية تتراوح من فن الاعترافات من جهة والذي يأخذنا إلى عوالم الكتابة الأوتوبيوغرافية من مذكرات ويوميات إلى الكتابة التخييلية القائمة على مبدأ اللعب والتقطيع والتنضيد والتأجيل.
كما اجترح سمير ساسي لغة روايته من الموروث الديني والتراث السردي والذي يتناغم مع موضوعات الرواية التي يكتبها ومع أبطالها وانتماءاتهم الأيديولوجية والثقافية، دون أن نغفل أن الكاتب يصرّح في أكثر من مرة أنه ينتمي إلى ما سمي بـ”الأدب الإسلامي”.
غير أن اللغة في رواية بيت العناكش بدت أقل استعارية ورمزية من سابقاتها، واقترب من اللغة البراغماتية المطلوبة في الكتابة الروائية، ولعل اللغة الاستعارية في روايته “برج الرومي” كانت من إكراهات السجن والرقابة التي تلاحق كل مكتوب داخل المعتقل.
بقي أن هذه اللغة التي ظلت لغة متعففة عن نقل الوقائع اللغوية والمادية بدقة، بل كانت تقولها في تلميحات، إذ اختار ساسي أحيانا ألا ينقل مشاهد التعذيب ولا مشاهد الاغتصاب ولا نقل عنف اللغة بل تحدث عنه.
وظل الرواة محافظين على تعففهم، ويقول الروائي في حوار إذاعي معه أنه اختار ذلك واختار أن يزين القبح ولا ينقله، فتوسل بلغة أدبية وهو أمر يناقش في كتابة الرواية التي يعرفها أغلب المنظرين لها باعتبارها ممارسة أدبية تهدف إلى الإيهام بالواقعية.
لذلك يحاول الروائي أن يتلبس بشخصياته ويطلق لهم ألسنتهم في ما سماه المنظر الروسي ميخائيل باختين “بالأسلبة” التي تسمح بظهور مستويات من اللغة حسب مستويات أصحابها الأخلاقية والثقافية والاجتماعية، لتتضح الصورة ويظهر المعنى، خاصة أن هذا النوع من الروايات قائم أساسا على فكرة الفضح، فضح أساليب القمع ومستويات العنف الممارس ضد المعارض السياسي أو أهله.
إن الاستعارة التي تخلص منها الروائي في عمله هذا مقارنة بنصوصه السابقة، قد قفزت من الاستعارة في اللغة إلى الصورة والحدث، فأصبحنا أمام استعارة في وقت نحتاج فيه إلى مشهدية، وإن ظهر المشهد ظهر مخففا من واقعيته.
والحق أن تجنب النقل المباشر هنا بدعوى أن الأدب ترميز وإيحاء وأنه ليس بالضرورة أن نعيد كتابة المشاهد بتفاصيلها، وأن ذلك ليس من قبيل الأدب، ليس صحيحا؛ لأن الروائي هنا يقوم بعملية تخييلية، فهو لم يحضر هذه المشاهد، ومن ثمة فإعادة تمثلها في ذهنه ونصه هو أمر من صميم العملية التخييلية نفسها، لكشف وحشية العمل البوليسي في هذه الأنظمة.
وإن نجح الروائي في المرور من الشعرية والرمزية -وهو الشاعر- في عمله الجديد نحو البراغماتية اللغوية، فإنه لم يمر معه نحو التعدد اللغوي المطلوب فظل العمل في غالبه مونولوجيا.
والحق أن مثل هذه النصوص تعيد طرح السؤال عن ماهية الأدبية نفسها، فبعض الكتاب -ومنهم على ما يبدو سمير ساسي- يرون أن أدبية النص تتمثل في اللغة الاستعارية والترفع عن لغة العوام، وأن الأدب عليه أن يكتب بلغة راقية وبلاغية، وطرف آخر يتبنى فكرة معارضة أن الأدبية في العمل الروائي ماثلة في قدرة الروائي على التقمص وإدارة ذلك التنوع اللغوي من البلاغة في الفصحى إلى الرطنات واللهجات.
الأيديولوجي والإنساني بداية
يبدو أن المسافة بين ألم التجربة وقراءة الواقع بدأت تتشكل في تجربة سمير ساسي من خلال شخصية عم أحمد رئيس مركز الحرس، يد السلطة الأولى في التقاط المعارضين، فتلك المسحة من الإنسانية التي ظهر بها في الرواية تشير إلى عقل الروائي الذي يكتب، خلافا لبعض الذين كتبوا في أدب السجون، دون رغبة في الانتقام، فرئيس المركز ليس سوى ضحية أخرى من ضحايا النظام البوليسي الذي يدفعه إلى تنفيذ الأوامر، وكان ينفذها على مضض وبكثير من الألم في بعض الأحيان.
غير أنه بدا لنا أن الروائي يتعامل بحذر مع الاتجاهين فيما يسمى بالإسلام السياسي وقراءتهما للنص الديني، فقد ظل شيخ الجبل بقراءته السلفية والحرفية للنص بعيدا عن مرمى نقد عبد الله ممثل التيار الاسلامي المجدد، يتعامل معه بحذر دون أن يأخذ منه موقفا حاسما، مع أن خطاب شيخ الجبل المتشدد هو ذريعة النظام في التنكيل بالإسلاميين.
يبقى أن نسجل أن سمير ساسي فتح بابا مهما في الرواية التونسية وفي أدب السجون وهو عالم السجينات، بعد أن قدّم إضافة مهمة في أدب السجون عامة في روايته السيرية “برج الرومي”.
وكشف عن فظاعة نظام نكّل بالشباب ولم يستثن الأنثى ضاربا عرض الحائط بالنواميس والأخلاق والدين في تعاملنا مع المرأة، لتزهق روح جميلة البريئة بسبب التعذيب الوحشي.
فهل يفعل ذلك في روايته القادمة “جنون رجل عظيم” ويكسر ذلك الحاجز بين الشخصيات المتقاربة أيديولوجيا والمختلفة جوهريا، ويترك لها المجال لتتصارع دون الخوف عليها من أن تضعف أمام التيارات الأخرى؟ هل يتخلص التخييل عند صاحب “برج الرومي” من خوفه ليعبر بالروائي من أسر الأيديولوجيا إلى رحابة الفكرة الإنسانية؛ كما حدث مع كاتب الأوروغواي الكبير كارلوس ليسكانو؟
أم أن سمير ساسي ما زال يحتاج إلى نصوص أخرى لتصفية حسابه مع تجربته السجنية وما علق بها من تجارب غيرية، وما زال لم يحن الوقت لتصفية الحساب مع التجربة الأيديولوجية كما فعل بعض الروائيين عندما كتبوا مراجعاتهم لانتماءاتهم اليسارية والقومية، مثل علي مصباح في “سان دني ” و”حارة السفهاء” وخير الدين جمعة في رواية “صفحات المهزلة”؟ ولكن هل الكاتب مطالب حتميا بالخروج فعلا من قناعاته الخاصة لإرضاء الجميع؟ ألا تنسحب المطالبة بالتعايش المجتمعي على الخطابات الأدبية والفنية؟