تختلف الآراء حول ما إذا كان ينبغي أن نعتبر نهاية العبودية نقطة تحول مهمة في التاريخ الأميركي، أو أنها مجرد إعادة تشكيل لنظام قمعي، حيث يرى كاتب وأكاديمي أميركي بارز أن الانتصار للعرق الأبيض هو المحرك الاقتصادي الأساسي للتاريخ الأميركي.
وقال نيكولاس ليمان في تقرير نشرته مجلة “ذي نيويوركر” إنه قبل الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب، اعتاد أصحاب العبيد الجنوبيين الادعاء بأن نظام عملهم كان أكثر إنسانية من “عبودية الأجور” في مصانع الشمال الصناعي، ونشر 12 كاتبا جنوبيا من البيض مقالات لدعم تلك الفكرة.
وأكد أستاذ الصحافة في جامعة كولومبيا الذي ترعرع في نيو أورليانز (جنوب شرق الولايات المتحدة)، أن المؤشرات الاجتماعية في الجنوب -على غرار الدخل والصحة والتعليم- كانت متدهورة مقارنة بالشمال، وذلك بسبب الاستغلال والضعف السياسي الذي ترافق مع نظام الطبقات العرقية، وهو ما اعتبره أسوأ من الرأسمالية، وليس نوعا من أنواعها.
وأشار الكاتب إلى أنه منذ أعوام عديدة، اختلف المؤرخون حول كيفية ارتباط الجنوب والعبودية بالرأسمالية. وعلى سبيل المثال، دافع المؤلف إيريك ويليامز في كتابه “الرأسمالية والعبودية” -الذي نشر عام 1944 وتم تجاهله إلى حد كبير على مدى نصف قرن- عن مركزية العبودية ودورها في صعود الرأسمالية؛ غير أن هذا المرجع لم يعد ملهما لجيل جديد من الدراسات الحالية.
ويُنظر إلى ملاك العبيد الجنوبيين اليوم على أنهم كانوا خبراء في استغلال العمال وإخضاعهم لممارسات تنطوي على الأعمال الشاقة. وبدلا من تمثيل نظام بديل للرأسمالية الصناعية الشمالية، مكنت المزارع الأميركية (في الجنوب حيث يعمل المستعبدون) من تطوير نظام سمح لها بتزويد مصانع النسيج في مانشستر وبرمنغهام بالقطن الذي استخدم لنسج الأقمشة بواسطة الطبقة العاملة الإنجليزية الجديدة.
تاريخ حديث للرق
عام 2018، قال والتر جونسون -وهو أحد كبار مؤرخي العبودية- “لم يكن هناك شيء اسمه رأسمالية دون عبودية”.
ونوّه جونسون إلى أن تاريخ الرق الجديد يسعى إلى طمس التمييز الاقتصادي والأخلاقي بين العبودية والرأسمالية، وبين الجنوب والشمال، من خلال إظهار أنهما كانا جزءا من نظام واحد.
واختلفت الآراء حول ما إذا كان ينبغي لنا أن نعتبر نهاية العبودية نقطة توقف مهمة في التاريخ الأميركي، أو مجرد إعادة تشكيل لنظام قمعي.
وأضاف جونسون أنه بالنسبة للبعض، شهد النظام تطورا بطيئا نحو مجتمع أكثر عدلا وديمقراطية. لكن بالنسبة للبعض الآخر، ما زالت الاختلافات قائمة بشأن التسلسل الهرمي العرقي وعلاقتهما بالاستغلال الاقتصادي.
وبمجرد وضع العبودية كمؤسسة أساسية للرأسمالية الأميركية، يمكن تصوير تاريخ البلاد اللاحق على أنه امتداد لهذه الديناميكية الأساسية. وقد دعم هذه الفكرة المؤرخ والتر جونسون في كتابه الجديد “قلب أميركا المكسور: سانت لويس والتاريخ العنيف للولايات المتحدة”.
واستلهم كتاب جونسون من أحداث اضطرابات فيرغسون عام 2014 التي خلفت مقتل المراهق الأسود الأعزل مايكل براون، على يد ضابط شرطة يدعى دارين ويلسون. ووظف جونسون مصطلح “الرأسمالية العرقية”، إذ إن العنصرية بالنسبة له تُعد تقنية لاستغلال السود وإثارة عداء البيض تجاه الطبقة العاملة من السود، وذلك لصالح الرأسماليين البيض.
تاريخ الأجور
ويصرّ جونسون على أنه “لا بد من التأكيد على أن تاريخ الرأسمالية العرقية هو تاريخ الأجور، وكذلك تاريخ السياط والمصانع، فضلا عن المزارع والعرق الأبيض مقابل الأسود والحرية مقابل العبودية”. ويضيف أنه بالنسبة للسياسيين البيض، خضع الغرب الأميركي لمفهوم أصولي عنصري للعالم ولسياسات إمبريالية المستوطنين البيض والتطهير العرقي.
وانتقد جونسون حقيقة أن هؤلاء السياسيين مذكورون في الكتب الدراسية اليوم على أنهم أبطال تاريخيون، ومن جملة هؤلاء: جون فريمونت المرشح الرئاسي الأول للحزب الجمهوري الذي “كان إمبرياليا، وبحسب المعايير الحديثة: مجرم حرب”، ويوليسيس جرانت الذي اعتمد سياسة عسكرية أساسية تقوم على “الغضب القاتل”، وكذلك أبراهام لينكولن الذي بدأ حياته المهنية “كعنصر مليشيا استيطاني”، وظل طوال بقية حياته “ملتزما بالتطهير العرقي”.
وطوّر لينكولن برنامجا سياسيا عارض فيه العبودية بشكل رئيسي لأنها تتنافس مع المصالح الاقتصادية للمزارعين والعمال البيض، كما أن الحركة الجمهورية الليبرالية التي أسسها هوراس غريلي في أعقاب الحرب الأهلية، والقائمة على أيديولوجية “قومية بيضاء”، كانت “نتيجتها المتوقعة” الإبادة الجماعية، بحسب المؤلف.
الجريمة والعقاب في أميركا
وبخلاف كتاب جونسون الجديد، وجد باحثون آخرون طرقا مختلفة لتفسير ظروف حديثة في أحياء السود البائسة مشابهة لما وقع قديما. وعلى سبيل المثال، أظهر جيمس فورمان الابن في كتابه “الجريمة والعقاب في أميركا السوداء”، كيف تسببت سلسلة من أنشطة الشرطة وإصدار الأحكام في أواخر القرن العشرين، في وضع عدد كبير من السود في السجن، وكيف جعلت الأمور أسوأ في مجتمعات السود.
وأوضح الكاتب أن النتائج التي يُمكن أن نستخلصها من مثل هذا النوع من الكتب، تتمثل في أن إحداث تغييرات سياسية من شأنه أن يدعم قضية مجتمعات السود ونضالهم، وهو الاستنتاج الذي ورد في العديد من الكتب السابقة حول الأميركيين الأفارقة في القرن العشرين، بما في ذلك كتاب سانت كلير دريك وهوراس كايتون “عاصمة السود” لعام 1945.
وبحسب الكاتب، كانت فكرة ارتباط العنصرية بالرأسمالية موجودة منذ فترة طويلة، ولكن يكمن السؤال حول هذا الأمر عن الكيفية التي يُمكن أن يحدث بها هذا الارتباط.
وفي هذا الإطار، قال مارتن لوثر كينغ الابن في خطابه العظيم حول خطوات مجلس ولاية ألاباما في عام 1965، “كان فصل الأجناس في الحقيقة خدعة سياسية استخدمت من قبل مصالح بوربون (شركة ناشئة لإنتاج الخمور) في الجنوب، لإبقاء الحشود في الجنوب منقسمة ولإبقاء العمالة الجنوبية الأرخص في الأرض”.
وكان كينغ يحاول في تلك اللحظة الضغط من أجل تفعيل قانون حق التصويت وغيره من تشريعات الحقوق المدنية. وفي غضون عام، قاد كينغ مظاهرات ضد مالكي العقارات في الأحياء الفقيرة في شيكاغو، ودعا إلى تفعيل أشكال جديدة من التشريعات الوطنية.
ويقول نيكولاس ليمان إنه عام 2018، أدلى أكثر من 90٪ من الناخبين الأميركيين من أصل أفريقي في ميسوري بأصواتهم ضد الجمهوري جوش هاولي الذي يقدم نفسه الآن على أنه ناقد للرأسمالية العالمية دون ذكر العرق؛ إذ من الممكن أن تكون معاديا للرأسمالية دون أن تكون معاديا للعنصرية، أو معاديا للعنصرية دون أن تكون معاديا للرأسمالية، بحسب الكاتب، ومن خلال كل ذلك، لا تزال أحياء السود -وخاصة الفقيرة- تئن تحت مظالم التاريخ.
وكتب جونسون مؤخرا: “لم أجد نفسي في مكان أكثر روعة وأملا في حياتي من هذا”. في الواقع، إن ما يكمن وراء تفاؤله المعلن هو قناعة ضمنية بأن البحث عن المساعدة من المجتمع الأكبر لن يجدي نفعا، ويجب على ضحايا الظلم أن يجدوا بأنفسهم الطريق المؤدي إلى التقدم.
وذكر الكاتب أنه عندما كان صغيرا، غالبا ما سمع أحاديث الكبار المريرة حول نفاق الليبراليين البيض في الشمال، حيث إنه نشأ في بيئة بيضاء محافظة. ويقدّم والتر جونسون قدرا كبيرا من الدعم التجريبي لآراء كهذه، وتثني روايته على التحلي بالكثير من الأمل تجاه الأحداث الماضية، مثل تمرير التعديل الثالث عشر أو انتصارات الحقوق المدنية الكبرى في الستينيات.
وقال الكاتب إن السياسات الديمقراطية -خاصة في بلد له تاريخ عنصري مثل تاريخ الولايات المتحدة الأميركية- هي بالضرورة فوضوية وقذرة وقادرة على تحقيق ما لا يزيد على انتصارات جزئية، لكن الاستهتار والتقليل من التقدم الذي أحرزته هذه السياسات في الماضي من شأنه أن يؤدي إلى روح انهزامية، فذلك يعمل على تشتيت الانتباه عن ذلك النوع من الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية وإصلاحات العدالة الجنائية التي يأمل التقدميون أن يسنها.