العراق وثورتُه بعد اغتيال سليماني

د. حيـدر سعيـد

لعلنا لم نتفق بعدُ، ونحن على هذه المسافة الزمنية عن حادث اغتيال الولايات المتحدة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية، قربَ مطار بغداد، يوم 3 كانون الثاني/ يناير 2020، على ما إذا كان هذا الحادث “تحولًا مفصليًا” أم لا، وقد أجمع على كونه كذلك أغلبُ مَن كتب عنه في الأيام الأولى التي تلته، من محللين وباحثين ومتابعين، من جهة أنه مؤشر على “تحول جذري” في طبيعة المواجهة الأميركية الإيرانية، القائمةوالمستمرة منذ 2017، أي منذ تولي دونالد ترامب الرئاسةَ، وانقلابه على ما أرساه سلفُه باراك أوباما من سياسة تجاه إيران، وانسحابه من الاتفاق النووي، وعودته إلى سياسة العقوبات، فالولاياتُ المتحدة قررت – أخيرًا على ما يبدو – مواجهةَ إيران في العراق، وهذا يعني تحولًا عن الإيقاع الذي حكم المواجهةَ الأميركية الإيرانية خلال السنوات الثلاث الماضية، والذي  تمثل بمناوشات محدودة، سواء من جانب إيران (عدد من الاستهدافات، المحدودة والصغيرة، التي طالت مصالحَ عدد من حلفاء الولايات المتحدة، ولم تتبنَها إيران، لكن، كان ثمة شبه إجماع على أنها هي المسؤولة عنها)، أو من جانب الولايات المتحدة (وربما حليفتها إسرائيل، وتمثلت في استهداف عدد ليس قليلًا من معسكرات وقواعد الفصائل المسلحة القريبة من إيران، في سوريا والعراق. والولايات المتحدة و/ أو إسرائيل، كإيران، لم تتبنيا هذه العمليات، لكن، هناك شبه إجماع كذلك على أنهما مسؤولتان عنها، ولا سيما في العمليات التي تنفّذها إسرائيل).

 

داخل الاستراتيجية الأميركية نفسها: ضربة ذات طابع ردعي، نوعية ولكنها محدودة

يختلف اغتيال سليماني، نوعيًا، عن هذا الطابع من المناوشات، فللمرة الأولى تستهدف الولايات المتحدة مسؤولًا إيرانيًا بهذا الحجم، ولم تُخفِ مسؤوليتَها عن العملية، بل إنها تبنتها. وبخلاف ما يسود من تفكير بأن هذا التحول هو ردّ فعل مباشر على محاولة عناصر موالية للحشد الشعبي اقتحامَ السفارة الأميركية في بغداد، يوم 31/ 12/ 2019، لما يعيده هذا من جروح في الذاكرة السياسية الأميركية (اقتحام السفارة الأميركية في طهران عام 1979، واقتحام القنصلية الأميركية في بنغازي عام 2012)، يبدو أن مؤشرات التحول (إذا جاز لنا أن نفهمه بأنه تحول) تسبق هذا الاقتحام، فاغتيالُ سليماني هو استمرار للضربة التي وجهتها الولايات المتحدة لخمس من قواعد ومقار “كتائب حزب الله” (وهو واحد من أهم الفصائل الشيعية العراقية المسلحة الموالية لإيران) في العراق وسوريا، يوم 29/ 12/ 2019، ثأرًا لمقتل متعاقد أميركي وجرح عدد من العسكريين الأميركان في قصف صاروخي استهدف قاعدة عسكرية عراقية قرب مدينة كركوك يستعملها المستشارونالعسكريون الأميركان يوم 27/ 12/ 2019، فهذه الضربة كانت، كذلك، خارج إيقاع المناوشات المحدودة، الذي طبع المواجهةَ بين إيران والولايات المتحدة، فهي لم تودِ بعدد كبير من القتلى فقط، بل كانت مدمرة وماحقة، وتختلف – في حجم الدمار ونوعه – عن سائر العمليات السابقة التي استهدفت مقار وقواعد للحشد الشعبي في العراق.

جرّت عمليةُ اغتيال سليماني حزمةً من الأسئلة التي شغلت الأيامَ اللاحقة لها (وبعضُها كان ينطلق من هاجس أن ما جرى هو تحول مفصلي): هل العملية مستمرة وأبعدُ من هذا الاغتيال، كأن تكون تدميرًا شاملًا للبنية التحتية للفصائل العراقية المسلحة، أو ما يُعرَف بـ “أتباع إيران في العراق”، الذين باتوا يشكّلون ركنًا جوهريًا في النظام السياسي القائم في العراق، ما يعني إضعافًا لهذا النظام؟ وقد كانت ثمة مخاوف لدى العديد من قادة هذه الفصائل أنفسهم بأن العملية لن تتوقف عند اغتيال سليماني والمهندس، بل إنها ستطول قيادات أخرى ومواقع أخرى، وذهبت المخاوف إلى أن الولايات المتحدة قد تطيح، بالكامل، بالنظام القائم في بغداد، وتقيم بدلًا منه نظامًا عسكريًّا. أم سينتهي الأمر عند اغتيال سليماني، ضربةً موجعة للإيرانيين ورسالة سياسية لهم في الوقت نفسه، تجلبهم إلى طاولة المفاوضات مرة ثانية؟

ولكن، وبعد هذه المدة عن العملية، نستطيع أن نتحدث، وبيقين، عن أن الأزمة انتهت عند هذه الحدود (عسكريًّا في الأقل)، فالطرفان كلاهما لا يريدان أن تذهب الأمور أبعد: لا الولايات المتحدة تخطّط لأن تذهب أبعدَ من اغتيال سليماني (حتى ولا تريد أن تواجه، وبشكل كامل، إيران ونفوذَها في العراق)، ولا إيران قادرة على انتقام حقيقي، يشعل حربًا في المنطقة، أكثر من قصفها قاعدةَ عين الأسد.

وقد نكون أمام تفاهم ضمني جديد بين الولايات المتحدة وإيران على إنهاء الأزمة عند هذا الحد.

ومن ثم، فإن ما كان يبدو تحولًا مفصليًا قد لا يكون كذلك.

وفي تقديري، كانت الولايات المتحدة تستهدف من اغتيال سليماني ضربةً ذات طابع ردعي، محدودة، ولكن نوعية، وتكون ردًّا مباشرًا على القصف الصاروخي المكثف (الذي نفّذه أحد الفصائل الشيعية المسلحة الموالية لإيران، على الأرجح، وهو “كتائب حزب الله”، بحسب الجزم الأميركي، على نحو ما تقدّم)، للقاعدة العسكرية في كركوك يوم 27/ 12/ 2019، فهذا القصف يختلف عن سائر المناوشات التي نفّذتها إيران، وطالت حلفاء لأميركا، لا أهدافًا أميركية مباشرة، ولم يسقط فيها ضحايا أميركان، ولكن إيران – هذه المرةَ – استهدفت – بشكل مباشر – معسكرًا يستعمله المستشارون العسكريون الأميركيون مقرًّا لهم، وقد سقط منهم ضحايا، بين قتيل وجرحى.

غير أن اغتيال سليماني، على حدّته ونوعيته، لا يخرج عن الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران، التي رسمها ترامب، وهي من الأمور القليلة التي نستطيع أن نتحدث فيها عن أن ترامب يملك تصوّرا واضحًا عنها واستراتيجية محددة، وتتمثل بما بدأت الإدارة الأميركية بتسميته، منذ ربيع 2019، “سياسةَ الضغط الأقصى Maximum Pressure”، أي ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران، لإجبارها على الجلوس على طاولة المفاوضات مرة أخرى. وفي هذا الإطار، ينبغي أن نفهم ما قاله ترامبفي تغريدة بُعيد اغتيال سليماني: “إيران لم تنتصر أبدًا في أي حرب، لكنها لم تخسر أية مفاوضات”. وهذا يعني أنه يريد، حتى مع اغتيال سليماني وبعده، إعادةَ الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات، وفرض اتفاق جديد.

ومن ثم، لا يخرج اغتيال سليماني عن “سياسةَ الضغط الأقصى” تجاه إيران.

 

ثمن اغتيال سليماني: التدافع الأميركي الإيراني لإعادة تفسير ما جرى

ومع ذلك، لا تريد إيران وحلفاؤها أن يمضي اغتيالُ سليماني من دون ثمن. وهذا الثمن يمكنها أن تقبضه من العراق، تحديدًا، المنطقة الرخوة من بين سائر مناطق تدافعها مع الولايات المتحدة.

وفي تقديري، سيشهد العراق نزاعًا بين حركتين: إيران التي تريد أن تتعامل مع اغتيال سليماني بوصفه حدثًا لا ينبغي أن يكون ما بعده استمرارًا لما قبله، ذلك أنه أطلق سيولة، ينبغي أن تعيد رسم الحدود، والأدوار، وموازين القوى، والفاعلين، والولايات المتحدة التي لا تريد لهذا الحادث أن يتجاوز طابعَه الردعي وما يمكن أن يُنتجه في إطار مواجهتها مع إيران، بل ينبغي للأوضاع وموازين القوى في العراق أن تظل كما هي.

وسيكون ثمنُ اغتيال سليماني، لإيران وحلفائها، هو انسحاب القوات الأميركية من العراق. وهو فهم عبّر عنه صراحةً أحدُ أقطاب هذا المحور، السيد حسن نصر الله، الذي قال في أول خطاب له بعد اغتيال سليماني: “القصاص العادل هو الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، […] وأضعف الإيمان […] هو إخراج القوات الأميركية من العراق”.

ولكن، ما معنى هذا الثمن؟

بالتأكيد، أن فيه معنى رمزيًا كبيرًا، ولا سيما حين يوضع الامتلاك الكامل للعراق مقابل فقدان سليماني، ولكن – أيضًا – فيه معنى سياسي واستراتيجي، ذلك أنه إذا كانت عمليةُ اغتيال سليماني خروجًا على قواعد الاشتباك بين إيران والولايات المتحدة، فإنها ينبغي أن تستتبع وتعني – بحسب الفهم الإيراني – فضًّا للتفاهم الضمني على العراق وتقاسم النفوذ عليه بينها وبين الولايات المتحدة. وبالنسبة لإيران، سيعني إبعادُ الولايات المتحدة عن العراق (عسكريًّا، وبالتالي سياسيًّا) نفس ما عناه لها حين توقيع الاتفاقية الأمنية عام 2008، ثم الانسحاب عام 2011: إبعاد شبح أن تفقد العراق، أحد أركان المحور الإقليمي الذي تقوده، بإبعاد القوى الأجنبية التي يمكن أن تدعم معارضيها فيه.

ولذلك، ستكون معركة الأيام القادمة هي معركة قبض الثمن: العمل على إخراج القوات الأميركية من العراق.

وهي معركة مغرية للعديد الأطراف الإيديولوجية، في العراق وخارجه، إذ ستنخرط فيها، بغض النظر عن سياقاتها السياسية المحددة، لتبدو معركة على مبدأ التواجد العسكري الأميركي (وليس التواجد العسكري الأجنبي، على نحو عام). وأنا أقول إنها معركة إيديولوجية، لا لأنها تضع المبدأ فوق التاريخ، بل لأنها تضع المطالبة به فوق التوقيتات والسياقات، وهي معركة إيديولوجية، بسبب أنها استمرار للتنشئة الإيديولوجية التي تربّى عليها معتنقوها، والتي انتهت بهم – في نهاية المطاف – إلى عدم فهم (أو التعامل مع) رفض التواجد العسكري والنفوذ الأجنبي بوصفه مبدأ عامًا، فقد قبلوا بأن يكونوا أداة تدفع بالاحتلال الأصغر من أجل الاحتلال الأكبر.

ماذا سيعني كل هذا للنظام السياسي القائم في العراق؟

يعني أنه باقٍ كما هو، ولكن، بأحد شكلين، ستحدّدهما تطورات الأيام اللاحقة:

• إما أن يُفسح المجال، أكثر فأكثر، لتغوّل قوى الإسلام السياسي الشيعي القريبة من إيران، إذا قرّر الأميركان الانسحاب بشكل كامل من العراق، استجابةً لقرار البرلمان العراقي القاضي بذلك. وعلى الرغم من تغريدة ترامب التي تتوعد العراقَإن هو قرّر إنهاءَ التواجد العسكري الأميركي على أراضيه، وعلى الرغم من “الممانعة السياسية” التي تبديها الولايات المتحدة لقرار البرلمان العراقي، يبدو أن هناك اتجاهًا داخل الولايات المتحدة يدعم الانسحاب من العراق. ولن يكون هذا الانسحابُ عسكريًّا فقط، بل انسحاب سياسي. وفي هذه الحالة، سيكون العراق أمام اللحظة الأكثر مفصلية منذ نيسان/ أبريل 2003، ذلك أنه سيكون – وللمرة الأولى – خارج “الحظوة” الأميركية، التي استمرت – على الرغم من قلة عناية الولايات المتحدة به خلال حقبتي أوباما وترامب – لدواعٍ عدة، أمنية واستراتيجية، وحتى أخلاقية وبراغماتية. غير أن العراق، في واقع الحال، لم يحظَ بشيء من هذه “الحظوة”، فخلالها، استتبعت إيرانُ العراقَ، وكان فيه نحوُ 150 ألف جندي أميركي ومشروع للدمقرطة، وخلالها، نمت التنظيمات الراديكالية، وتكرّس نظامُالمحاصصة، وشاعت الكراهيةُ المجتمعية إلى درجة الحرب الأهلية، وخلالها، تصدر العراق مراتب الفساد والدول الفاشلة في العالم، وخلالها، لم يغادر العراقُ آلامَ عقود مضت، بل تضاعفت، واستفحلت، وتعقدت.

الخشية ليست من غياب “إيجابية” الحضور الأميركي في العراق، وهو أمر لم يلمسه العراقيون والعراقيات، ولكن، أن تقود قوى الإسلام السياسي الشيعية القريبة من إيران، إلى إغلاق البلاد، والقضاء على انفتاحها النسبي على العالم (أو ما تبقى منه)، ليس سياسيًّا فقط، بل حضاريًا أيضًا، ليكون نسخة من إيران أو كوريا الشمالية.

• الخيار الآخر يتمثل في أن ترفض الولايات المتحدة، لأسباب استراتيجية، الانسحابَ من العراق، وتستمر باستراتيجية مواجهة إيران فيه، وتقليم أظفار حلفائها، وهو ما عاد ترامب وأكّده، في تصريحه يوم 7/ 1/ 2020، بأن الانسحاب من العراق سيخلّف موطئَ قدم أكبر لإيران. هذه الحال ستجعل النظامَ القائم في العراق أمام ضغوط، لا لفك تحالفه مع إيران بالضرورة،ولكن بما يجبره على تحجيم نشاط الفصائل المسلحة، ولا سيما ما يستهدف الوجود والمصالح الأميركيين في العراق. وستوظّف الولايات المتحدة (كما حاولت أن توظّف سابقًا) التناقضات والصراع بين النخب السياسية الشيعية على الموقف من إيران، بين الطرف الذي ينخرط في محورها الإقليمي، والآخر الذي يعارض النفوذَ الإيراني ويطمح إلى بناء سياسات داخلية ولعب دور إقليمي مستقل عن إيران.

وهنا، ينبغي أن نتذكر، دائمًا، نقطةً في غاية الأهمية، وينبغي أن تكون حاضرة في أي تحليل، وهي أن طبيعة النظام السياسي في العراق لم يعد أمرًا يعني الأميركان. ولا أقصد، هنا، النزعةَ التي تبناها أوباما بمحاولة الخروج من أزمات المنطقة، بل النزعة التي انجرف إليها ترامب، والتي تتمثل بدعم الأنظمة السلطوية، انطلاقًا من النزعة الانكفائية المعادية لليبرالية، ككل اليمين الشعبوي الصاعد في العالم، ومن علاقات المصالح، التي جعلته يسخّر إمكانيات الولايات المتحدة لدعم الأنظمة القائمة، بغض النظر عن طبيعتها.

ومن ثم، لم يعد يعني الولايات المتحدة ما إذا كان النظامُ في العراق ديمقراطيًّا أم لا، ليبراليًّا أم لا، يصون حقوق الإنسان والحريات أم لا، ولم يعد يعنيها تقويمُ هذا النظام ودعمه ليتقدم في هذا المجال، بقدر ما تعنيها مواجهة إيران، وتبعية النظام في العراق لإيران، ونفوذ أتباعها فيه.

ولا ينبغي أن ننسى أن الولايات المتحدة كانت مع بقاء عادل عبد المهدي في منصبه رئيسًا للوزراء، لولا شجاعة الحراك الثوري، الذي دفعه مرغمًا على الاستقالة، على الرغم اتفاق إيران والولايات المتحدة على بقائه.

 

الثورة العراقية بعيدًا عن تنازع الولاءات

تسعى كل هذه التمهيدات إلى أن تنتهي إلى أمر واحد، ليس صغيرًا، ولكن لا يراه الكثيرون أكبرَ ما في حادث اغتيال سليماني، بل أمرًا عرضيًا، غير أنه – بالنسبة لي ولسواي ممّن هم على شاكلتي – الأكثرُ أهميةً لبلدي ومصير نظامه السياسي: كيف سيؤثر هذا الحادث في مسار الحراك الثوري في العراق، المستمر منذ نحو أربعة أشهر، والذي قلت عنه إنه أول ثورة في تاريخ العراق، وإنه يحمل نزعة راديكالية، لا تريد إصلاح النظام السياسي القائم منذ 2003 فقط، بل إنها تتجه إلى إعادة صياغة الهوية الوطنية وعلاقة المجتمع بنظامه السياسي.

وقد كان ينبغي لهذا المقال أن يُفرد لهذا الأمر، غير أن ما كنتُ أريده من هذه الكلمات، ليس فقط أن تساعد في النظر إلى ما جرى خارج الانفعالات العابرة، تشفيًا، أو حنقًا، أو غبطة، أو حماسًا، وفي صياغة رؤية تمتزج بالفعل الثوري وتسهم في بناء موقفه، وهي من أولى مسؤوليات المثقف في لحظات كهذه، بل كذلك – وكما الولادة الثالثة للثورة بعد أسبوع فقط على اغتيال سليماني – أن يظل الخطابُ عنها حيًّا.

علّمتنا دروسُ المنطقة أن السياقات الإقليمية والقوى الخارجية تؤثر، على نحو حاسم وجوهري، في تحديد مسار ومصير الثورات والمراحل الانتقالية، ففي أحيان كثيرة، تفشل الثورات والمرحلة الانتقالية، بسبب إرادة وفعل خارجيين، وقد يكون ذلك مضافًا إلى عوامل أخرى. وفي أحيان أخرى، ينجح الانتقال، بسبب الإرادة والدعم الخارجيين كذلك، أو بسبب قلة عناية الفاعلين الخارجيين، من بين عوامل أخرى، بكل تأكيد.

وفي العراق، يلعب العاملُ الخارجي تأثيرًا حاسمًا في نجاح، أو عدم نجاح، الحراك الثوري.

كانت إيران تحديًا رئيسًا للثورة العراقية، فهي صاحبة النفوذ الأكبر في الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، وقد قرأتِ الاحتجاجاتِ بوصفها جزءًا من صراع إقليمي ومؤامرة تستهدفها، للإطاحة بأحد أقرب حلفائها والركن الجوهري في المحور الإقليمي الذي تقوده: النظام السياسي القائم في العراق، تمامًا كما قرأت الوضع في سوريا، وقررت خوض معركة الدفاع عن نظام الأسد على حساب ملايين السوريين، الذين قُتلوا وشُرّدوا واقتُلعوا من ديارهم.

وكنتُ، ولا أزال، أحد الذين يؤمنون بأن إيران لديها استعداد للدفاع عن النظام القائم في العراق، تمامًا كما دافعت عن نظام الأسد وأكثر. ولذلك، أؤمن – دائمًا – بأن معركتنا لاستقلال الإرادة العراقية عن إيران هي واحدة من معاركنا الأساسية.

وبعد اغتيال سليماني، وفي ظل السياق المعقد الناشئ، وأيًّا كان الخياران اللذان ستمضي في أحدهما الأمور، يبدو أن الحراك الثوري في العراق سيكون أمام أكبر تحد يواجهه، بل سيكون المِحنةَ الكبرى التي يخلّفها هذا الحادث، فمن جهة، ستمضي القوى الحاكمةُ إلى أن تكون أكثرَ تغولًا وشراسة، وهي تنظر للحراك الثوري بوصفه أقوى تحدٍ داخلي يواجهها (وهو كذلك بحق). وحيث أنها تعدم أية رؤية ومسعى وإرادة لإصلاح جاد، فإنها ستكثّف مسعاها للقضاء على أي صوت معارض، هذا فضلًا عن أن ديناميكيتها الداخلية تحرّكها لإعادة بناء نظام سلطوي مغلق، يقضي على ما تبقى من الحريات النسبية التي تمتعت بها البلاد ما بعد 2003. وسيكون الحراك الثوري هدفًا رئيسًا، أو الهدف الرئيس. وسيكون، أيضًا، كبشَ الفداء، وقد عجزت الفصائلُ المسلحة وأتباع إيران عن الانتقام الجدّي لاغتيال سليماني. ستتجه شوكتهم، الآن، إلى من يسمونهم “أتباع أميركا”، وهو مصطلح معمّم، يشمل كل معارضة للنظام القائم، ليصفها بأنها أميركية المصدر، وهو جزء من خطاب سائد من بدايات الحركة الاحتجاجية (شبيه بخطابات الأنظمة السلطوية التي تصف أي حراك احتجاجي بأنه مؤامرة خارجية)، إلا إنه سيكتسب الآن عدوانية أكبر. ومن ثم، سيتحمل الحراك الثوري عبئًا مضافًا.

ومن جهة أخرى، سيكون العراق، وثورتُه كذلك، أمام ما يبدو أنه “تنازع للولاءات”، وهو أخطر ما خلّفه اغتيال سليماني، ذلك أنه وضع الثورةَ – أكثر من أي وقت مضى – أمام تحدي أن تُثبِت استقلاليتَها، في كل خطوة من خطواتها، وليست (ولم تكن) مضطرة لذلك.

وعلى الرغم من أن الثورة جزء من ديناميكية واسعة، بطيئة ومعقدة، تتجاوز الحدودَ العراقية، ليس فقط لمواجهة السلطوية، بل كذلك لإعادة فلسفة الاستقلالية وعلاقة المجتمع بنظامه السياسي، تدفع المقاربةُ الإيديولوجية إلى أن تقتلع الثورةَ من سياقها العراقي المعقّد، لتمضي بها أبعد، وترى فيها ما هو خارج زمانها ومكانها، فتكون عنصرًا، آنيًا ومباشرًا، لإعادة بناء النظام الإقليمي وتوازناته. ولا تستطيع الثورةُ قبولَ هذا الرهان، بكل تأكيد.

القاتلُ، الذي نعرف ملامحَه وبصمتَه، خلف الثورة يطاردها، فكيف تغفل عنه، لتكون نشيدًا إيديولوجيًا، في نسيج إقليمي عريض. وهو يرى فيها أنها أداة إقليمية. ومواجهتُه، من ثم، لا تكون إلا بإثبات الاستقلالية.

وبكلمة، لن تقتصر مطالبُ الثورة، منذ الآن، على إصلاح النظام السياسي، بل سينضاف إلى هذه المهمة – على أهميتها الأساسية – مهمات أخرى شديدة الأهمية كذلك: ليست فقط تعزيز التيار الغالب الذي يشعر به العراقيون والعراقيات بضرورة ألا تكون البلاد – مرة أخرى وأبدًا – ساحة لصراع إقليمي تُصفى عليها حسابات عابرة للحدود، أيًّا كان الطرف الذي يريد ذلك، وليست فقط مواجهة التغول القادم، بل – في مفتتح هذا وختامه – التأكيد على أننا ماضون لصناعة نظامنا السياسي بأيدينا، لا ننفّذ إرادةَ أحد، ولا تتوقف ثورتُنا على انتظار دعم أحد.

*باحث وكاتب عراقي والمقال من “العربي الجديد”

Related Posts