ماهر جبره*
“ما الذي نحتاجه لتتقدم مصر وفق منظور علماني؟ نحتاج لإتاحة العهر بالتراضي، وإتاحة الشذوذ، وإتاحة الملاهي الليلية، وإتاحة المشاهد المُبتذلة في التلفاز، وخلع الحجاب، وخلع النقاب، واحتقار التراث الإسلامي، وشتم البخاري وابن تيمية، والتطاول على الأزهر الشريف، والاستهزاء ببعض الشعائر الدينية، وإظهار الصحابة بمظهر البلطجية، والاستهزاء ببعض الأحاديث النبوية، والتحقير من مكانة اللغة العربية”.
هذا ما كتبه الشيخ عبد الله رشدي منذ أيام على صفحته التي يتابعها حوالي مليوني شخص على فيس بوك. هذا البوست القصير يلخص ببساطة الفكرة التي تروجها جماعات الإسلام السياسي منذ عقود طويلة عن العلمانية. ففي نظرهم العلمانية تساوي الإلحاد والفجور، وهدفها هو تدمير الأخلاق والقضاء على الإسلام.
هذا البوست ذكرني بالتصريح الشهير للشيخ حازم شومان سنة 2011، عندما عرّف المدنية وقال: “مدنية يعنى إيه؟ يعني أمك متلبسش حجاب”، كما لو كان تطبيق العلمانية في مصر يعني تجريم لبس الحجاب! فللأسف كثير من أنصار الإسلام السياسي يصورون العلمانيين على إنهم مجموعة من الناس الذين يحلمون بأن يرقصوا عرايا وسكارى وهم يمارسون الجنس حول الأصنام التي سيبنونها في ميدان التحرير، بعد أن يهدموا كل مساجد مصر!
تصور عبثي ساذج وطفولي ومبني على أوهام، ولكن للأسف تكراره جعل قطاعا كبيرا من المواطنين وخصوصا البسطاء من أصحاب القيم المحافظة يخافون من الفكرة ويهاجمون كل من يدعو إليها، مما دفع معظم الأحزاب والسياسيين لاستبدال مصطلح العلمانية بالمدنية محاولين تفادى السمعة السيئة للكلمة.
استخدام هذه الفزاعة مكّن الإسلاميين من الانتصار في بعض المعارك السياسية بسهولة ملحوظة. وقد كانت تجربة إنشاء الحزب العلماني المصري القصيرة والتي تم وأدها في بدايتها في عام 2015، خير مثال على استخدام هذا التكنيك الفعال.
فالحزب الذي حاول تأسيسه مجموعة من المهمومين بالشأن العام في مصر، بهدف إرساء قيم المساواة ومناهضة التمييز على أساس ديني، قدمته وقتها بعض وسائل الإعلام وعلى رأسهم جريدة الوطن باعتباره حزب ملحدين يهدف إلى مناهضة الإسلام.
هذا فضلا عن هجوم بعض الأزهريين عليه، مثل الدكتور عبد المنعم فؤاد المشرف العام على “الرواق الأزهري” والعميد السابق لكلية العلوم الإسلامية للوافدين الذي قال إن الحزب يهدف إلى نشر الإلحاد وإنكار وجود الله، والذي بدوره سيؤدى إلى إباحة كل الشرور. وبالطبع بعد هذه الحملة فشل وكيل المؤسسين هشام عوف في جمع التوكيلات المطلوبة لتأسيس الحزب.
العلمانية المفترى عليها هي ببساطة فصل الدولة عن الدين، ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع المعتقدات والأديان.
وبعبارة أبسط هي العلاج الذي وصلت إليه البشرية للقضاء على النزاعات الطائفية والقتل والتمييز باسم الدين. فالعلمانية هي دواء الطائفية المقيتة التي أدخلت لبنان في حرب أهلية مدتها 15 سنة، وقسمت السودان ومزقت العراق.
أما المحاولات المزمنة لشيطنتها في منطقتنا فهدفها ببساطة هو إجهاض حقوق الأقليات، وقمع المختلفين التي تحميهم العلمانية. فنقيض العلمانية ليس الدين وإنما ديكتاتورية الأغلبية وقمع الأقليات وتأجيج الطائفية وتقييد حرية الفكر والمعتقد باسم الدين.
فالعلمانية مثلا هي ما تحمي حق المسلم الذي يعيش في ألمانيا أو أميركا في أن يمارس شعائره بحرية دون اضطهاد من الأغلبية التي لا تؤمن بالإسلام. فلو رفضنا العلمانية فكأننا ننادي بقمع ملايين المسلمين الذين يعيشون كأقليات في دول مختلفة من العالم.
فلولا العلمانية التي يهاجمها الإسلاميون لما وصل مثلا صادق خان لمنصب عمدة لندن عاصمة المملكة المتحدة، ذات الأغلبية المسيحية وهو مسلم من أصول باكستانية. ولما حقق الدكتور أحمد زويل (1946-2016) الإنجازات العلمية التي استحق بسببها جائزة نوبل وهو مصري مسلم عاش وعمل في الولايات المتحدة.
ولكن يبدو لي أننا ندافع عن العلمانية في الغرب حيث يعيش المسلمون والعرب كأقليات ونهاجمها في بلادنا. فكثيرون ممن عاشوا في الغرب وأنا منهم يستطيعون أن يرصدوا في دوائرهم من الجاليات العربية، كثيرين ممن يصوتون لأصحاب الأفكار العلمانية في الغرب ويصوتون في نفس اللحظة لأصحاب مشاريع الإسلام السياسي في بلادهم الأصلية.
وقد لخص هذا التناقض عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي (1913-1995) عندما قال: “لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية”. فهم يريدون ثمار العلمانية من مساواة وفرص وعدم تمييز في البلاد التي يعيشون فيها وفي نفس الوقت يريدون فرض معتقداتهم الدينية على الآخرين في بلادهم!
ومن ناحية أخرى فالعلمانية لا تعادي الأديان كما يدعي البعض وإنما فقط تمنع فرض المعتقدات من قبل شخص أو جماعة أو حتى الأغلبية على الباقيين بدعوى امتلاك الحقيقة. ففي دولة علمانية لن يتم اضطهاد مواطن بحجة أنه مسيحي أو قرآني، ولن يضطر مواطن أن يعيش بلا أوراق رسمية بسبب إنه بهائي. ولن يضطر مواطن لا ديني أن يعيش حياة مزدوجة خوفا من التمييز ضده.
هل يعني ذلك إن أي دولة علمانية هي يوتوبيا؟ بالتأكيد لا. فالعلمانية تختص بعلاقة الدين بالدولة، والعلمانية وحدها بدون ديموقراطية قد تتحول إلى استبداد. فكثير من الدول الاستبدادية التي تفتقر لأبجديات الديموقراطية والليبرالية تتبني العلمانية حتى ولا ظاهريا، ولنا في نظام الأسد الذي استباح وقتل الآلاف من شعبه خير مثال.
في النهاية فأن ما نراه من تشويه لفكرة العلمانية من قبل الإسلاميين وتقديمها بخجل من قبل المدافعين عنها، هو خطيئة ندفع ثمنها جميعا. ففي الوقت الذي لا يخجل فيه أزهريون مثل الشيخ رشدي وسعاد صالح من الدفاع عن سبي النساء وفي الوقت الذي لا يخجل فيه السلفيون مثل الشيخ ياسر برهامي من الدعوة لزواج القاصرات، نتحدث نحن عن العلمانية التي نحن في أشد الحاجة لها على استحياء وكأننا نرتكب جرما!
*كاتب مصري والمقال من موقع “الحرة”