فرهاد علاء الدين*
فور تقديم حكومة عبد المهدي استقالتها يوم ٢٩ تشرين الثاني الماضي بعد شهرين من الحراك الشعبي الناقم والمطالب بالإصلاح، انطلق ماراثون الاجتماعات السياسية بين الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة لإيجاد البديل لتسنم مهام إدارة شؤون البلاد وسط أعنف تظاهرات تشهدها منذ قرابة قرن كامل من تاريخها الحديث.
جاءت الاستقالة أثر خطاب المرجعية العليا في النجف الأشرف الذي جاء فيه “إن مجلس النواب الذي انبثقت منه الحكومة الراهنة مدعو إلى أن يعيد النظر في خياراته”، معربة عن تخوفها من انزلاق البلد “إلى دوامة العنف والفوضى والخراب”، ولم تكتف المرجعية بمناشدة مجلس النواب فحسب، بل أشركت المجتمع الدولي من خلال بعثة الأمم المتحدة في العراق التي نقلت وجهة نظر المرجعية لمجلس الامن في جلسة يوم ٣ كانون الأول ٢٠١٩ في نيويورك على لسان ممثلة الأمين العام التي قالت وبوضوح “في لقائي مع آية الله العظمى السيستاني، أعرب عن قلقه من أن الجهات الفاعلة ذات الصلة قد لا تكون جادة بما يكفي لتنفيذ أي إصلاح ذي مغزى”.
وبحسب مراقبين، فإن مناورة المرجعية كانت ذكية جداً ووضعت القوى السياسية تحت ضغط داخلي متمثل بالمتظاهرين وضغط سياسي خارجي متمثل بالأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولا نستبعد أن تبقى أنظار الدول الأعضاء تراقب مجريات الأحداث عن كثب وعلى نحو مباشر، سلسلة الانتهاكات الجارية لحقوق الإنسان والحريات العامة.
استقالة الحكومة الحالية وتمرير قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بعيداً عن المحاصصة الحزبية كما أرادتها المرجعية والمتظاهرون كانت من بين نتائج الضغوطات الداخلية والخارجية وأصبح المتظاهرون يرون أن الدماء التي قدموها باتت تأتي بثمارها، وأن تضحياتهم لم تذهب سدى، برغم أن الطريق مازال طويلاً طبقاً لطبيعة وسلسلة مطالبهم التي بات سقفها يرتفع يوما بعد يوم، مقابل أحزاب حاكمة وأخرى تشاركها الحكم لا يبدو أنها عازمة على التخلي عن مكاسبها وامتيازاتها المتحققة بهذه السهولة، وستحاول بشتى السبل الإفلات من قبضة الضغوطات القائمة.
من المؤكد أن القوى السياسية ستواجه في غضون الأيام القليلة القادمة تحديات كبيرة في محورين مهمين، أولهما اختيار مرشح لرئاسة مجلس الوزراء قبل انتهاء المدة الدستورية في ١٩ كانون الأول، وثانيهما تمرير قانون جديد للانتخابات النيابية، ذلك أن مطالب المتظاهرين واضحة ومشددة على ضرورة اختيار شخصية مستقلة وكفوءة ونزيهة لقيادة مرحلة انتقالية تفضي إلى انتخابات مبكرة وشفافة تحت أشراف أممي وبموجب قانون جديد للانتخابات يلغي هيمنة الأحزاب الكبيرة ويدعم حرية الأفراد بالترشح.
كل ذلك وجد أصداء واسعة تمثل بدعم المرجعية العليا والمجتمع الدولي على حد سواء، لكن بوادر تعامل الأحزاب الحاكمة مع هاتين المسألتين تدل على أنها تسعى جاهدة للإبقاء على الوضع كما كان في السابق مع إجراء بعض التغييرات الطفيفة، حيث تبحث عن مرشح يجمع بين المقبولية الشعبية مع معرفة للواقع السياسي الحالي والحرص على عدم إلغاء نظام المحاصصة سيئ الصيت، ليحفظ لكل كيان سياسي استحقاقاته القديمة، كما تحاول صياغة نظام انتخابي يحفظ لها الحضور القوي في الانتخابات القادمة، لكن تلك الأحزاب تواجه انقساماً بالرأي واختلافا بالرؤية.
فقد بادرت كتلة تحالف سائرون بالوقوف بالضد من رغبة الأحزاب الحاكمة عندما توجهت الى رئيس الجمهورية بكتاب رسمي يؤكد بأنها الكتلة الأكبر، معلنة تنازلها عن استحقاقها الدستوري بتسمية مرشحها لرئاسة الحكومة وتأييدها لمن يختاره الشارع المنتفض الذي يمثل إرادة الشعب بحسب وصفها. في الوقت نفسه عملت الماكنة الإعلامية للتيار الصدري بكل قوة على تسقيط من يعدون أنفسهم مرشحين، بل وكل من يعتقد بأن لدى هؤلاء مؤهلات لتولي هذا المنصب. لكن لم نر حد اللحظة أي نتيجة لما طرحته كتلة سائرون ولم تعمل على ترشيح أحد أو تتبنى آلية معينة لاختيار مرشح بعينه، لكن المقربين من التيار يؤكدون أن المتظاهرين سيكون لهم مرشح قبل انتهاء المدة الدستورية.
في حين كثفت القيادات المنضوية تحت مظلة كتلة البناء اجتماعاتها ومشاوراتها بعيداً عن الإعلام، وانضم إليها لاحقا تيار الحكمة والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف القوى الوطنية، حيث تداولوا في اجتماع عقد يوم ٥ كانون الأول الخيارات المتاحة بل تم استدعاء المرشحين الأوفر حظاً بحسب قناعاتهم لنيل منصب رئيس مجلس الوزراء للحضور وطرح أفكارهم ورؤاهم حول إدارة المرحلة القادمة. ما يعني بأن كتلة البناء تنوي اختيار المرشح القادم باعتبارها الكتلة الأكبر ولديها العدد الكافي من الأصوات البرلمانية ما يقارب (٢٠٠) صوت لتمرير أي مرشح من قبلها.
إلى ذلك لم تكشف أي من الكتلتين الرئيسيتين (سائرون والبناء) عن مواصفات شخصية المرشح القادم، لكنهما لا تخفيان بأن المرشح سيكون أمام تحديات كبيرة تتمثل بما يلي:
أولا: الحصول على المقبولية من المرجعية والمتظاهرين معاً، حيث أن اجتماع ٥ كانون يمثل القوى المتنفذة في الساحة السياسية العراقية وأن هذه القوى تمثل السلطة الحالية المتهمة بطبيعة الحال بقمع التظاهرات واستخدام القوة المفرطة، خصوصاً بعد أحداث ساحة الخلاني ومرآب السنك ليلة ٧ كانون الأول التي أودت بحياة ٢٥ متظاهراً وعشرات الجرحى حسب بعض المصادر.
ثانيا: الحصول على قبول من بعض القوى السياسية وخاصة التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر، والذي بإمكانه كما هو مسلم به تحريك جموعه الحاشدة وقت ما يشاء وبالتالي إعطاء زخم كبير للمتظاهرين ومساعدتهم للبقاء في ساحات الاعتصام.
ثالثا: مقبولية المرشح من المجتمع الدولي، وقد سمعنا بيانات وتغريدات تدين استخدام العنف ضد المتظاهرين، غرد السفير الكندي في العراق بقوله “بعد أحداث أمس الشنيعة أدعو السلطات إلى أداء مسؤولياتهم بمحاسبة المجرمين اللذين هجموا على المتظاهرين بشكل مخطّط. على الدولة حماية مواطنيها في سياق القانون”، فيما قال مارتن حوث، سفير الاتحاد الأوروبي في العراق “استخدام الذخيرة الحية من قبل قوات الأمن ضد المتظاهرين أمر غير مقبول ويجب محاسبة المسؤولين”، وجاء في بيان مشترك صادر يوم ٨ كانون الاول عن سفراء بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعد اجتماعهم مع رئيس مجلس الوزراء “أدان السفراء قتل المتظاهرين السلميين منذ يوم ١ تشرين الأول بالإضافة الى قتل ٢٥ متظاهراً في أحداث نهاية الأسبوع المنصرم”.
يتوجب هنا أن تكون بيانات الإدانة من قبل سفراء دول كبرى ومؤثرة في القرار الدولي مصدر قلق كبير للدولة ولرئيس الوزراء القادم حيث أن المجتمع الدولي بدأ ينظر الى العراق على أنه “دولة مارقة” وقد يتحرك لاحقا نحو وضع العراق تحت الوصاية الدولية اذا أستوجب الأمر وهذا يعني المزيد من التدخل الأجنبي في الشؤون العراقية.
رابعا: تلبية طلبات المتظاهرين الخدمية والاجتماعية المتمثلة بتوفير فرص العمل وتقديم الخدمات الأساسية وتطبيق العدالة الاجتماعية.
خامسا: حصر السلاح بيد الدولة في مجتمع نخرت سلميته مراكز القوى المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة بالرغم من كونها تحت مظلة الدولة، فالمجاميع المسلحة لا تأتمر بأوامر الدولة والقائد العام للقوات المسلحة، والعشائر أيضاً لديها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ولن تتخلى عنها وسط خوفها من ضعف سلطة الدولة وعدم تمكنها من فرض القانون، وكانت أحداث الناصرية وتدخل العشائر لبسط الأمن والسلم المجتمعي خير مثال على ذلك.
سادسا: لعل التحدي الأكبر والأهم للمرشح القادم هو كيفية التعامل مع الصراع الأميركي الإيراني الدائر في العراق والمنطقة. يرى المراقبون أن الجانب الإيراني سيكون له تأثير كبير على اختيار المرشح يقابله فيتو أميركي في حالة اختيار شخص لا يرونه صالحا للمنصب أو موالياً بشكل كبير لإيران، وهذا يعني أن النفوذ الإيراني والأميركي سيكون حاضراً بقوة هذا الأسبوع بشكل مباشر أوغير مباشر، والمرشح سوف يكون تحت ضغط الطرفين.
حيث أن الجانب الإيراني يريد أن يكون المرشح موالياً ومتعاوناً معهم للتقليل من آثار العقوبات الأميركية المفروضة، كما يريد بذات الوقت أن يبقى العراق منفذاً حيوياً لتطبيق استراتيجيته في المنطقة، فيما يريد الجانب الأميركي إبعاد العراق عن التأثير الإيراني وتحييده على أقل تقدير، وغلق هذا المنفذ الذي تستخدمه ايران للهروب من الحصار، كما يسعى لمنع استخدام أراضي العراق وموارده في تنفيذ المخططات الإيرانية في المنطقة وخصوصاً ما يتعلق بسوريا.
سابعا: أحد أهم مطالب المتظاهرين هو كشف هوية القناصين والمسؤولين عن التخطيط والتنفيذ لقمع التظاهرات بعنف مفرط، برغم أن الدولة العميقة داخل المؤسسات والأجهزة الأمنية لن تسمح لحكومة مؤقتة أو رئيس مجلس وزراء جديد فتح هذا الملف وسيبقى هذا المطلب يشكل تحدياً كبيراً امام المرشح القادم.
ثامناً: محاربة الفساد وتقديم الفاسدين الكبار إلى المحاكم واسترداد الأموال المنهوبة، ولم يعد خافياً بأن الفساد ينهش في جسد البلاد ومقدراتها، وليس من السهولة لأي مرشح جديد أن يقدم على فتح هذه الملفات الشائكة والملغومة.
لقد كان اختيار المرشح لمنصب رئيس مجلس الوزراء في الماضي بحاجة الى أربعة فاعلين في الساحة، وهم زعامات القوى السياسية البرلمانية والمرجعية في النجف الأشرف وإيران وأميركا، حيث لكل واحد منهم دور مهم في تثبيت المرشح. لقد دفعت الحاجة العملية في الماضي إلى اتفاق هذه الأطراف على مرشح واحد، أما الآن، فقد دخل المعادلة طرف خامس وهو المتظاهرون، ولديهم ثقل كبير في الشارع ويجب أن يكون لكلمتهم دور رئيسي في الاختيار، أما المرجعية فلقد انسحبت من تسمية المرشح وأغلقت أبوابها، والفجوة أصبحت كبيرة بين أميركا وإيران ومن الصعب تحقيق تقارب بين مصالحهما.
لذلك يجب على القوى السياسية أن تعي هذه التغيرات بدقة وتأخذها بالحسبان، فاذا استمرت باستخدام الأدوات والآليات القديمة دون الاكتراث لمطالب المتظاهرين وما دعت إليه المرجعية من مواصفات في الماضي القريب، فإنها تضع نفسها والبلد معها على حافة الانهيار الحتمي، وتعاملها مع حركة التظاهر والاحتجاج أثبت أنها لا تقرأ الواقع الجديد بشكل صحيح، وأن ما قبل تشرين يختلف كثيراً عما بعده طبقاً لما قالته المرجعية العليا بشكل صريح: “الوضع لا يمكن أن يستمر كما كان قبل المظاهرات”، أي إننا أمام وضع جديد والأحزاب الحاكمة عليها الاختيار واذا لم تحسن الاختيار فأنها سوف تذهب بالجميع الى المجهول ويصبح العراق دولة مارقة بدل أن يصبح دولة واعدة ذات مستقبل مشرق لمواطنيها.
*رئيس المجلس الاستشاري العراقي