حسين معلوم*
لم تكن الاختلافات الاقتصادية بين جناحي الغرب، الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بمثل هذا الوضوح، مثلما تبدت قبل أيام في قمة مجموعة العشرين الأخيرة، في مدينة أوساكا اليابانية؛ إذ مثَّل الخلاف حول المصالح والتوجهات الاقتصادية بين القوى الدولية الكبرى عموماً، وبين أميركا وأوروبا بشكل خاص، العنوان الأهم الذي اختتمت به القمة أعمالها.
هذا الخلاف الذي أدى إلى ازدياد حدة الاستقطاب الأميركي – الأوروبي، تبدى بوضوح في قضايا التغير المناخي والتجارة الحرة، فضلاً عن إصلاح منظمة التجارة العالمية؛ وهو الاستقطاب الذي عبَّر عن نفسه في اتجاهين بدا أنهما يتنافسان، بل يتصارعان: الأول، التوجه المُعبر عن “الحمائية” الأميركية، أو “حمائية ترامب” (الرئيس الأميركي دونالد)، التي تستهدف حماية التجارة الأميركية، وتأتي على خلفية “أميركا أولاً”. أما التوجه الآخر، الذي يتبنى ما يُطلق عليه “التعددية”، فهو ذلك الذي تقوده ألمانيا، ومعها فرنسا والصين، دفاعاً عن حرية التجارة، في مواجهة التوجه الأميركي.
مثل هذا التمايز في السياسات المالية والاقتصادية عموماً بين القوى الغربية، والتوجهات الخاصة بـ”حرية” التجارة العالمية بشكل خاص، يؤكد أن استمرار الاستقطاب سوف يدفع إلى تدعيم التحالف الألماني – الفرنسي في إطار الاتحاد الأوروبي، من جانب؛ ومن جانب آخر، سوف يدفع إلى بناء تحالف أوروبي مع عمالقة آسيا، كالصين والهند، وقبلهما اليابان.
على هذا الجانب الأخير، تأتي أهمية القمة المُصغرة غير المسبوقة، التي عُقدت في باريس أواخر شهر آذار (مارس) الماضي، وشاركت فيها فرنسا وألمانيا والصين، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي؛ وهي القمة التي دعت إلى “تعددية متجددة” في غياب الولايات المتحدة، في ظل اتخاذ الأخيرة مواقف أحادية بشكل متزايد. أيضاً، يأتي الاتفاق التاريخي الذي تم التوقيع عليه، بين الاتحاد الأوروبي واليابان منتصف تموز (يوليو) الماضي، ودخل حيز التنفيذ في شباط (فبراير)؛ والذي ينص على إقامة منطقة للتبادل التجاري الحر بين الطرفين “جيفتا”، تُغطي نحو “ثلث” الاقتصاد العالمي، وتشمل مساحة يشغلها نحو 635 مليون شخص. هذا الاتفاق يحمل، بالتأكيد، رسالة رمزية واضحة، ويأتي كـ”خطوة” في مواجهة تحركات الإدارة الأميركية، بعد انتخاب ترامب، للانسحاب من اتفاق التجارة عبر المحيط الهادي، وتركه المحادثات مع الاتحاد الأوروبي في حالة معلقة؛ بل، ويُمثل بادرة لمواجهة “الحمائية” التي ينتهجها الرئيس الأميركي.
أما الجانب الخاص بتدعيم التحالف الألماني – الفرنسي، في إطار الاتحاد الأوروبي، فيتبدى بوضوح في ظل تأكيد الطرفين أن “اتفاق باريس”، الذي يتعلق بالتغير المناخي، “لا رجوع عنه”، على رغم الانسحاب الأميركي منه؛ هذا، إضافة إلى إعلان ألمانيا عن مساندتها مشروع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الهادف إلى تعزيز الدفاع على المستوى الأوروبي عن القطاعات الصناعية الاستراتيجية “في مواجهة أطماع الخارج”. ناهيك عن دلالة ما طالبت به المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، الدول الأوروبية، في سابقة هي الأولى من نوعها، بأن تتولى أمورها بذاتها في ما يخص قضايا الأمن والدفاع الجماعي، وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة مستقبلاً.
يعني هذا، في ما يعنيه، أن العلاقات الأميركية مع “الحلفاء التقليديين”، أوروبا تحديداً، تشهد تغيرات حادة، خاصة وقد بدا واضحاً أن الرئيس الأميركي لا يأخذ على الأوروبيين، فقط، أنهم لا يساهمون بما يتوجب عليهم لـ “الحلف الأطلسي” (2 بالمئة من الدخل القومي الخام)؛ ولكن، أيضاً، ووفق تصريحات ترامب في مقابلة مع شبكة “سي بي إس”، في تموز (يوليو) الماضي، عندما قال: “إنهم يمولون روسيا التي يطلبون منا حمايتهم منها، والدليل على ذلك مساهمة ألمانيا في مشروع الغاز الروسي الجديد”.
بالطبع، يبدو الاستقطاب الأميركي – الأوروبي، نتيجة لتوجهات الإدارة الأميركية نحو الحمائية، والاختلافات الأميركية مع أوروبا عموماً، بخصوص النزاع التجاري بينهما حول صادرات الصلب الأوروبية؛ والاختلافات الأميركية – الألمانية، في الوقت ذاته، في ما يتعلق بالصادرات الألمانية من السيارات وغيرها؛ وهو الخلاف الذي يضع ألمانيا في موقع قيادة المواجهة مع الولايات المتحدة، وإدارتها، في ما يخص الدفاع عن مبادئ حرية التجارة العالمية.
لكن هناك، أيضاً، عوامل تدفع الإدارة الأميركية إلى تبني مثل هذه التوجهات. إذ إن الولايات المتحدة، التي يُعاني اقتصادها، ترغب في أن تضع حداً لإغراق أسواقها بالبضائع الصينية والأوروبية. فمن جهة، تعاني واشنطن من إغراق الاتحاد الأوروبي لأسواقها بصادرات الصلب الرخيصة، وكذلك السيارات الألمانية المصنعة في أميركا الجنوبية. ومن جهة أخرى، تعاني من الصين، التي تعتمد على رخص أياديها العاملة وسعر صرف عملتها المنخفض.
صحيح أن وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2017، أحدث ما يشبه الزلزال في العلاقات الدولية، وخصوصاً الاقتصادية منها؛ إلا أنه يبقى صحيحاً كذلك أن ترامب ـ بصفته رئيساً ـ لا يعكس رؤيته الشخصية للعالم، وللقضايا التي فجرها على الساحة الدولية، بقدر ما تتقاطع هذه الرؤية مع آراء الحزب، والتيار الذي يمثله في الداخل الأميركي. وبالتالي، فإن ترامب كإدارة، والحكومة الأميركية كمؤسسات، والحزب الذي أوصل ترامب إلى البيت الأبيض، هم جميعاً وراء التغييرات الكبرى في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
في هذا الإطار، تبدى بوضوح ما يمكن أن نُطلق عليه “مُفارقة أوساكا”، أي المُفارقة التي شهدتها قمة العشرين الأخيرة؛ ففي هذه القمة، بدت أوروبا ومعها الصين، من أبرز المدافعين عن حرية التجارة العالمية، في حين بدت الولايات المتحدة ضد هذا التوجه. إلا أن ما نود التأكيد عليه هنا، أن هذه المُفارقة لم تأت ـ في نظرنا ـ من فراغ، أو من توجهات اختيارية من جانب القيادات السياسية في كلٍ من أميركا وأوروبا، ناهيك عن القوى الدولية الكبرى (الصين واليابان والهند)؛ بل، هي تعبير عن محاولات من جانب هذه القوى لأخذ مواقع متقدمة على خريطة العالم المستقبلية.
ويبدو أن الاستقطاب الحاصل حالياً، والمتوقع استمراره لفترة طويلة قادمة، بين الولايات المتحدة وأوروبا، سوف يؤثر، بلا شك، على مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، والتحالفات المحتملة في إطار مساراته وتداعياته؛ ليس، فقط كتعبير عن التمايز الغربي في السياسات المالية والاقتصادية عموماً، والتوجهات الخاصة بحرية التجارة الدولية بشكل خاص؛ ولكن، أيضاً، من منظور ما تفرضه الحمائية الأميركية على أوروبا من التوجه إلى الشرق الأقصى.
ولعل هذا ما يوضح الكيفية التي سوف تتقاطع من خلالها مؤشرات هذا التوجه على القضايا الاقتصادية للمنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً؛ بل، وهذا هو الأهم، في الملفات المعقدة والمتشابكة سياسياً في هذه المنطقة من العالم.
* كاتب مصري والمقال عن صحيفة “الحياة”