د. جعفر المظفر*
من الصعوبة البالغة وصف حالة التردي الرهيب الذي يعيشه العراق بعد سقوط نظام صدام دون أن يعني ذلك أن العراق كان يعيش قبلها حالة رخاء واعدة. لقد أكلت حروب صدام الكثير من فرص إستقراره وتقدمه غير أن فرصة تجاوزه وعبوره لأزماته بعد الإحتلال الأمريكي للعراق كانت قد ضاعت حينما أقدمت إدارة الرئيس بوش الإبن على إقامة نظام طائفي وقومي بدلا من مساعدتها العراقيين لإقامة دولة علمانية متقدمة تعتمد على مؤسسات قانونية لا تميز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو الطائفة.
على صعيد آخر ساعد الدستور الذي كتبه بشكل رئيسي ممثلون من الأحزاب الطائفية الشيعية ومن الأحزاب القومية الكردية الإنفصالية وبرعاية من سلطة بريمر على إقامة سلطة عراقية مؤلفة من أحزاب لا تؤمن بالدولة العراقية الوطنية وكان لها تاريخ واضح وخطير في الوقوف ضد مشروع هذه الدولة التي كانت قد تأسست بعد الحرب العالمية الأولى في أعقاب سقوط الدولة العثمانية وكان لها حضور متميز على الصعيد الدولي إذ أنها كانت من ضمن الدول التي ساهمت حينها بتأسيس منظمة الأمم المتحدة.
لقد أصبح العراق, بمساعدة من إدارة حاكمها العسكري الأمريكي بريمر, وبمساهمة أساسية من قبل مجموعة الأحزاب الطائفية الشيعية والسنية والأحزاب القومية الكردية, أصبح في ظل وضع مهلك وخطير. ولم يكن صعبا حينها إدراك ضحالة المستنقع الذي يغرق فيه فلقد كان من السهل معرفة أن القوى التي أعدت لإدارة البلد ستحكمه من موقع الخصومة لا من موقع الحكومة.
ومن موقع الخصومة لا موقع الحكومة راحت الأحزاب الشيعية الطائفية التي هي جزء من المشروع الإيراني لدولة الفقيه الإيرانية “العظمى”, وبمساعدة من الأحزاب الكردية ذات المشروع الإنفصالي, والقوى السنية التي إلتحقت سريعا بمشروع الدولة العراقية المتآكلة, راحت جميعها تلتهم بقايا هذه الدولة وتتقاسمها فيما بينها وفق مشاريع تتخذ من العناوين الديمقراطية أغطية لنظامها الطائفي العنصري. وبدلا من أن تستقوي هذه القوى ببعضها البعض لتأسيس مشروع وطني علماني ديمقراطي إلا أنها راحت تستقوي على بعضها بالقوى الإقليمية المجاورة, ولقد كانت الغلبة في النهاية لإيران التي إستطاعت تدريجيا أن تكون هي الحاكم الفعلي للعراق.
لم يقتصر الأمر على فقدان العراق لإستقلاله وقراره السيادي بعد أن صار يأتمر بأوامر الجنرال سليماني ملتحقا بالمشروع الإيراني في المنطقة بأذرعه الممتدة في سوريا ولبنان واليمن والبحرين, بل أن نظامه السياسي المحاصاتي تأسس على مبدأ إقتسام الدولة وليس على مبدأ بنائها فتوزعت مؤسسات هذه الدولة على أحزابها الطائفية الشيعية والسنية والكردية, وجعلها دستور المكونات الدينية والطائفية والقومية عرضة لمزيد من التجزئة والإقتسام والتفتيت, أما على صعيد الحكومات المتعاقبة فلم يكن مقدرا أن يغادر هذا النظام مساحة النزاع على تقاسم الدولة إلى مساحة بنائها.
ونتيجة لنظام المحاصصة دخلت أحزاب السلطة الجديدة في سباق محموم من أجل كسب ولاءات العراقيين الذين لم يكن أمام العديد منهم سوى الإلتحاق بهذه الأحزاب من أجل الحصول على لوازم الحياة الأساسية.
بذلك فإن المتفحص لهذا النظام كان بإمكانه أن يرى كيف أن أسسه البنيوية كانت عاجزة عن الإستجابة للأساسيات الدنيا لبناء الدولة والمجتمع بل صار مبدا الإستيلاء على مؤسسات الدولة وتوزيع غنائمها على قيادات الأحزاب وغلق باب الرزق المشروع إلا على الموالين والأعضاء وحرمان الأغلبية من فرص العيش المشروع والحياة الكريمة, صار كل ذلك سببا في تدهور الدولة العراقية على المستوى الإجتماعي والإقتصادي ووفر أيضا لإيران, من خلال منظومة الإحزاب التابعة إليها أصلا أو الملتحقة بها إضطرارا, فرصة إجهاض مشروع بناء الدولة العراقية إلا بالصيغ التي تجعلها جزءا لا يتجزء من مشروع دولة إيران الكبرى.
لم يكن مشروع الدولة الجديدة يملك الكثير مما يجعله قادرا على الإستمرار سوى العزف على إسطوانة التذكير بالمآسي التي تسبب بها نظام صدام حسين وسوى التخويف بعودته. ولقد كان مقدرا لتلك الإسطوانة أن تنفع لبعض الوقت, لكنها مع غياب كامل لأي إنجاز يذكر, وبتصاعد وتائر الفساد بنسب خرافية, وتآكل ما تبقى من الدولة القديمة, والإنتشار السريع لجرثومة داعش التي إستطاعت بزمن قياسي أن تحتل ثلث الأراضي العراقية مهددةً بسقوط العاصمة بغداد نفسها, ثم نشوء جيل من الشباب الذين لم يعيشوا في فترة صدام حسين, فإن صوت إسطوانة التخويف تلك لم يعد قادرا على التعتيم على منظر الباحثين في القمامة عن لقمة العيش, ولم يعد كافيا لإقناعهم بحالة التردي التي وصلت إلى كل شيء, في وقت إستمرت فيه السلطات الحاكمة في عملية نهب الثروة العراقية وتسريب قسم كبير منها إلى خزينة الدولة الإيرانية التي أنهكتها العقوبات الإقتصادية الأمريكية بعد رفضها العودة إلى مائدة المفاوضات للبحث من جديد في برنامجها النووي.
لقد إنفجر أبناء الجيل العراقي الجديد غضبا وقرفا وكان سهلا عليهم أن يدركوا أن مأساتهم هي جزء من مأساة وطن مختطف من قبل جارهم الإيراني, وأن مأساة فقدانهم للقمة العيش هي في الأصل مأساة سياسية, وإن الخلل الحقيقي إنما هو خلل بنيوي يتحرك في دستور طائفي وفي أنظمة وسياقات إنتخابية تضمن وصول نفس الأحزاب الفاسدة إلى سدة الحكم.
لذلك فإن الجائع والمضطهد والممتهن العراقي الذي خرج أعزلا وعاري الصدر في مواجهة سلطة قاسم سليماني العراقية, والذي قدم حتى هذه اللحظة عددا من الشهداء الذين قاربوا الأربعمائة إضافة إلى أكثر من أحد عشر ألف جريح, هذا الجائع والمضطهد والممتهن يعرف تماما إن الفساد الطائفي والإجتماعي والإقتصادي والذي عم مختلف أوجه الحياة العراقية مدمرا كل منظوماتها وسياقاتها هو فساد نابع من إختلال بنيوي للنظام, وأن القضاء على ذلك الفساد لن يتم عبر إجاءات شكلية وفنية وإنما يبدأ ببساطة من خلال تغيير البنى والدعامات التي أسست ذلك النظام وإستعادة الوطن المختطف من قبل الأحزاب والميليشيات المدعومة من قبل دولة الجنرال قاسم سليماني.
*أكاديمي وسياسي عراقي والمقال عن موقع “الحوار المتمدن”