د. أياد العنبر*
يتبجح بعض السياسيين ومن يصنفون بالنخبويين، بالقول إن هذه التظاهرات لا تملك مطلبا واضحا، وهي بذلك لا يمكن اعتبارها تظاهرات تسعى لتحقيق هدف محدد، وإنما هي حركة احتجاج يغلب عليها التشتت لا التنظيم.
بيد أن تظاهرات أكتوبر، وعلى خلاف التظاهرات التي شهدها العراق بعد تغيير النظام الدكتاتوري في 2003، حملت شعارا “نريد وطن”، وبذلك اختزلت كافة المطالب تحت عنوان هذا الشعار.
وبالتأكيد لا يدرك عمق وأهمية هذا المطلب، من يعيش خلف أسوار المنطقة الخضراء، ولا من أتى إلى العراق بعد 2003 وحصّن نفسه بالحمايات والسيارات المدرعة، ولا يعرف من مدن العراق إلا الطريق إلى المطار. فالعراق بمفهوم أغلب الطبقة الحاكمة هو ليس وطنهم، وإنما مكانا للعمل؛ لأن عوائلهم وأموالهم موجودة خارج البلاد.
وفي محاولة لخلط الأوراق، يثار تساؤل مضمونه: لماذا المناطق الشيعية أو الشيعة هم من خرجوا للتظاهرات؟ ويروج أتباع الأحزاب التي تهيمن على السلطة، بأن الخطورة الآن هي خروج الحكم من يد الشيعة!
ويبدو أن من يطرح هذه التساؤلات والمخاوف، لم يحدثوا نظام تفكيرهم، إذ ما زالوا يفكرون بالعراق بزمن ما قبل 2014، الذي يمكن اعتباره بداية تاريخ خفوت الأصوات الطائفية، بعد أن هبّ أبناء الوسط والجنوب من الشيعة لتحرير المناطق السنية من تنظيم “داعش” الإرهابي، وكان موقفا للدفاع عن الوطن وليس عن المناطق الشيعية.
فضلا عن ذلك، إذا تماشينا مع فرضية حصر التظاهرات بالمناطق الشيعية، فمحافظات الوسط والجنوب هي أكثر المناطق تضررا من الأحزاب والطبقة السياسية التي تحكم هذه المناطق. استمر حكمها 16 عاما، وماذا قدم النظام السياسي لهذه المحافظات، غير الموت ودمار البنى التحتية؟
فالشيعة منذ 2003 لم يتخاذلوا في المشاركة بالانتخابات لمنح الشرعية لهذا النظام وفي التصويت على دستور 2005، ولم يترددوا في المشاركة بالحرب ضد الإرهاب التي كانت لمناطقهم الحصة الأكبر من السيارات الملغومة والعبوات والأحزمة الناسفة.
في المقابل، لا تزال البصرة تفتقد إلى الماء الصالح للشرب، وتتصدر الناصرية محافظات العراق بأعداد المرضى المصابين بالسرطان، وتشترك بقية المحافظات بدمار البنى التحتية. أما البطالة فهي الصفة التي تجمع أبناء محافظات الوسط والجنوب.
وبعد كل هذا يكون السؤال المنطقي، هو: لماذا تأخر أبناء الجنوب عن الخروج بتظاهرات؟ ورغم كل هذا يطالب الجيل الصاعد من الشباب الشيعية بـ”وطن”.
مطالبة المتظاهرين بـ”وطن” تعدت المطالب الخدمية والمطالبة بتوفير فرص عمل، فالشعارات تعبر عن وطن مفقود ومرتهن تحت إرادات خارجية ويخضع لهيمنة مافيات الفساد، وهذا المطلب غريب على إدراك وفهم من هو داخل منظومة الفساد، ومن يأتي إلى سدة الحكم بتوافق قيادات الإقطاعيات السياسية.
ومن ثم، لا يمكن للكثير من القيادات السياسية تفهّم هذا المطلب. فهو لم يكن حاضرا في أولياتهم عند كتابة الدستور، ولا عند تشكيل الحكومات، وربما يكون حاضرا فقط في الخطابات الانتخابية، كشعار غير قابل للتطبيق.
لم تكن السلطة والنخب الحاكمة الوحيدة التي لم تفهم الشعار الذي رفعه المتظاهرين ـ “نريد وطن”؛ وإنما شاركها بعض النخب الثقافية! إذ يبدو أن الآنا المتضخمة لبعض المثقفين قد جُرحت لأن الشارع لم يستجب إلى نداءاتها التي تطلقها من خلف شاشة الموبايل أو الكومبيوتر، والتي تدعو فيها إلى ضرورة أن تكون وسائل الاحتجاج بطرق أكثر حضارية، وهذا يجوز وذلك لا يجوز! وكأنما مطالب المتظاهرين تتعلق بالتغير المناخي، أو الدعوة إلى تخفيف الضرائب، كما هي مطالب المتظاهرين في الدول الأوروبية.
وهناك من يرفض استقالة الحكومة ويعتبر ذلك مطلبا غير عملي، ولا يغير شيئا على أرض الواقع! ويتجاهل دماء الشباب التي خضبت أرصفة الشوارع، والمسؤول الأول والأخير عنها هو حكومة عادل عبد المهدي.
تعاني هذه المواقف من مشكلة بفهم حركة الاحتجاج من جهة، ونرجسية المثقف الذي يرفض أي حراك اجتماعي لا يكون استجابة لدعواته وتحت قيادته أو بتوجيه منه. إذ يعتقد بعض مثقفينا بأنه يعلب دورا مشابها لتأثير جان بول سارتر، أو ميشيل فوكو، أو هربرت ماركيوز، في تأثيرهم بحركة الاحتجاجات الطلابية في فرنسا عام 1968.
قراءة حركة احتجاجات العراق في أكتوبر 2019، يجب أن تكون ضمن سياق تصحيح مسار التحول الديمقراطي الذي بدأ في 2003. فبعد أن فشلت الطبقة السياسية في ترسيخ الديمقراطية في المؤسسات والحياة السياسية، تحاول حركة التظاهرات إعادة المبادرة إلى الجمهور الذي نزل إلى الشارع مطالبا بإصلاح النظام السياسي وتصحيح إخفاقات التحول الديمقراطي.
ولذلك، نجد المطالب تهدف إلى ضمان تمثيل شعبي عادل من خلال تغيير قانون الانتخابات، وإلغاء المفوضية العليا للانتخابات، وتغيير شكل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي حتى يكون رئيس السلطة التنفيذية منتخب مباشرة من الشعب، بدلا من وصوله للمنصب عن طريق التوافقات والصفقات السياسية.
إذا، لم يطالب المحتجون بوطن رومانسي، وهو الوطن الذي نردده في الأناشيد والهتافات في المناسبات والأعياد الوطنية، والذي يتغنى فيه الشعراء والأدباء؛ وإنما بوطن يحفظ كرامة المواطن العراقي وحقوقه وحرياته.
وقد يكون من باب المبالغة وصف ما يحدث بالعراق بالثورة، لكن يبقى هذا الحكم مؤجلا حتى معرفة النتائج التي ستنعكس على الواقع العراقي. لكن علينا أن نتذكر أن المواطنة بمفهومها المعاصر، لم يتم التعاطي معها كمنظومة حقوق دستورية تنظم العلاقة بين الفرد والدولة، إلا مع الثورتين الفرنسية (1789) والأميركية (1775).
*كاتب وأكاديمي عراقي والمقال عن موقع “الحرة”