مشرق عباس*
أغلق الحزبيون النفق وتمترسوا في مخرجه، لسد الطريق أمام الشباب الذين سطّروا خلال الشهر المنصرم وحتى اليوم أسطورة في إحياء الهوية العراقية الممرغة بسخام الأحزاب والطائفية والفئوية والتدخلات الدولية، وأعادوا للعراقيين آمالهم بوطن يشبههم ولا يشبه الأجنبي.
أغلقوا النفق حتى لا تمضي مسيرة نضال العراقيين من أجل استرداد بلادهم إلى منتهاها وإلى أهدافها، التي بالضرورة ستكشف الأحجام الحقيقية وتفضح المتعملقين زيفا، وتعري عقد العار والتبعية والفساد والتردي.
القوى السياسية العراقية غير مستعدة لتقديم التنازلات، وهذا أمر تم حسمه في اليوم الأول من “انتفاضة تشرين” (أكتوبر) عندما قرر المتخاصمون على المغانم في العراق إبادة المئات من الشباب بدم بارد وباستخدام أكثر أدوات الحرب دموية، وعندما استمروا في التسويف، وتجنب مناقشة الإصلاحات الأساسية التي تتمحور ببساطة مطلقة حول تغيير البيئة السياسية الفاسدة عبر سحب أدواتها القانونية والمليشياوية والاقتصادية، والسماح بقيادة البلد من خلال بيئة أكثر التصاقا بأولويات العراقيين، وكل ذلك في نطاق الدستور الحالي الذي يتوجب أيضا تعديله بعد إخضاعه إلى حوار وتوافق اجتماعي شامل.
والحديث عن القوى السياسية المتضامنة وليس طرفا فيها، ضروري، لأن الأطراف التي ألّفت الحكومة الحالية، وتقاسمت مناصبها ومغانمها هي المسؤولة عن تطبيق خريطة الطريق التي أعدها المتظاهرون كآلية عمل مقبولة وممكنة التحقق، لو أرادت عدم دفع الأمور إلى صدام أكبر.
وبالإشارة إلى خريطة الطريق، وعلى الرغم من تنوع الطروحات في كل ساحات التظاهر، فإن هناك نقاط أساسية متفق عليها حول المرحلة المقبلة تتمحور حول تشكيل حكومة من مستقلين تدير المرحلة الانتقالية بصلاحيات استثنائية تعد لانتخابات جديدة بعد إقرار القوانين الخاصة بالانتخابات والأحزاب وتعيين مفوضية مستقلة، وإشراف أممي وبما يضمن إنتاج برلمان ممثل للشعب.
ويفترض أن يتولى هذا البرلمان مسؤولية تعيين حكومة جديدة وتعديل الدستور وإجراء الإصلاحات المفصلية التي يحتاجها البلد مثل إلغاء الهيئات الخاصة الموزعة حزبيا، وتطهير الدولة من أذرع الأحزاب في المؤسسات وترشيقها، وتوحيد الأجهزة الأمنية، والبدء بحركة نهضة اقتصادية على أسس صحيحة.
واقع الحال أن العراق بحاجة إلى إصلاحات حقيقية تشمل كل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والثقافية والتعليمية.. لكن السؤال يستمر حول الجهة التي لها الحق بالمضي بهذه الإصلاحات المنهجية التي يحتاج بعضها إلى تعديلات دستورية؟
ولأن الأطراف السياسية الحالية، مشكوك في تمثيلها للشارع، ولأنها فقدت شرعيتها عمليا في شهر الدم العراقي الذي أودى بحياة 250 متظاهرا وخلف أكثر من 12 ألف مصاب، فإن استمرار مطالبة هذه القوى نفسها بإجراء الإصلاحات نوع من العبث. الخيار السليم هو الذهاب إلى برلمان جديد يقوم على أسس وقوانين وإجراءات سليمة، تنتجه انتخابات عادلة، تسبقه فرصة زمنية انتقالية كافية لتنظيم الشباب لحركتهم بما يتيح لهم الاشتراك في الانتخابات وتمثيل توجهاتهم، وأن يكون هذا البرلمان بمثابة مجلس تأسيسي جديد ينهي العملية السياسية الحالية ويشرع في بناء أخرى.
ولهذا تحديدا، فإن مطالبة القوى السياسية الحالية بإصلاحات حقيقية، ليس أكثر من مساهمة في منحها المزيد من الوقت لتدبر أمورها، وقد فعلت ذلك عبر التحاصص في مجلس الخدمة الاتحادي الذي يفترض أن إقراره جاء استجابة لمطالب المتظاهرين! وفعلت ذلك عبر فرض محاصصة جديدة مكشوفة على شبكة الإعلام العراقي، وعبر محاولات محمومة لتمرير المناصب الخاصة، من خلال تمرير الآلاف من أسماء الجنود والمتعينين الجدد الذين تم تقاسمهم بالطريقة نفسها.
يبقى القول إن تنوع توجهات ساحات التظاهر وتباينها ليس أمرا غريبا، بل هو دليل حي على نقاء هذه الحركة الشعبية، وبراءتها من أي اتهام يتم تسويقه من الشخصيات السياسية والأمنية الإيرانية والمقربين منها في العراق، كما أنه دليل على وعي شعبي حول موت العملية السياسية وضرورة البدء بإجراءات دفنها ثم إنتاج أخرى بمواصفات مرحلة ما بعد “تشرين” العراقي، وهذا يجب أن يبدأ بخريطة طريق انتقالية بفترات زمنية مدروسة تضمن إنتاج بيئة سياسية قادرة على إحداث التغيير.
ومع هذا فإن الوصول إلى هذا الهدف ليس بالأمر السهل، وليس بلا ثمن، كما أن التعويل على إدراك الوسط السياسي العراقي لخطورة الموقف ليس خيارا صائبا، والحل هو المزيد من الضغط والتمسك بالثوابت إلى حين إجبار القوى المتمترسة على التخلي مرغمة عن مواقعها الحالية وفتح ضوء في نهاية النفق.
*كاتب وصحافي عراقي والمقال عن موقع “الحرة”