علي عبد الأمير عجام*
ليس صعبا ان يؤشر الباحث ومؤرخ الادب من هم الذي طبعوا الشعر العراقي المعاصر بلمسات التحديث البارعة، ولا كتاب القصة ولارواد المسرح او الفن التشكيلي. وفي السياق ذاته ليس من الصعوبة على الباحث او الناقد الموسيقى ان يسمي المطرب الراحل ناظم الغزالي كصاحب “حداثة ” غنائية، بل انه كان “صوت العراق العاطفي” في القرن العشرين، فأغنياته ساهمت في تكوين “هوية عراقية مشتركة” قلما توافق حولها العراقيون المولعون بالاختلاف حد الاشتباك.
وانطلاقا من قراءة سوسيولوجية لأغنيات صاحب “ريحة الورد ولون العنبر”، يمكن تلمس ملامح “الشخصية العراقية”، فثمة في اغنياته انكسار المحب وحيائه (رقة الكلمات واللحن والاداء المفعم بروحية عاطفية)، مثلما في صوته قوة جهيرة اقرب الى الحدة لو ترك لها العنان. وهذا المزيج الذي يبدو متناقضا، هو اقرب الى ملامح الشخصية العراقية التي تجمع انكسارا روحيا لجهة الوجدان و “حدة” في التعبير عن المكنونات النفسية تقارب الفظاظة. ومثلما اغنياته تتعلق بما تدره الحياة من مباهج وآمال (الغزل الحسي اليومي)، فانها ايضا تقارب حدودا من التأمل والعمق الفكري المجرد ( خذ مواله القائم على قصيدة ” لما أناخوا” وغيرها من قصائد الشعر العربي القديم)، وهذا الانتقال من الحياتي اليومي الى التأمل المجرد هو في عمقه الدلالي ، اقرب الى توصيف حال الانسان العراقي المعاصر في مزجه بين وقائع يومية وتأويلات تطاول الاسطورة والمفاهيم الفكرية المجردة.
الخروج من القالب التقليدي
اذا كان الغزالي قد خبر فنون “المقام العراقي” واجادها، فان ذلك عائد الى اعتبارين: الاول وكان قائما على تأثره الكبير بشخصية الرائد محمد القبانجي فكرا فنيا وسلوكا، والثاني في استلهامه وبعمق، لجزيئات تلك الفنون اللحنية والادائية و”توظيفها” في بناء اغنياته وصوغها، حتى بدا وكأنه اضفى روحا شابة على اشكال لحنية “عتيقة” ولكن دون التنكر للبناء الفني العميق في تلك الاشكال.
من هنا يمكن الدخول الى الأثر الكبير الذي تركه الغزالي على ملامح الأغنية العراقية التي أخرجها من قالبها التقليدي، فلم يكن ولعه بالأغنية بحدود الأداء، إنما كان بصدد تنفيذ مشاريع كانت تدور في ذهنه حول “تطوير” الأغنية لحناً وأداءً وقراءة ثقافية واجتماعية، و نجح فيما أراد وأدى الالحان التي قرّبت الأغنية العراقية من الذوق والأسماع العربية التي كانت تجهل الكثير عن أطر الغناء العراقي، وبدا قريبا من تنفيذ “مشروعه” حول تجديد وتطوير معظم “البستات” والأغاني التي كانت ملازمة للمقام العراقي لولا الموت الذي عالجه وهو في قمة مجده وعطائه.
قدرة الغزالي على ان يكون مبتكرا للفرح والامل جاءت عبر مران حياتي طويل، فهو بعد ولادته يتيماً، عرف سبيله الشخصي الى ان يكون على مستوى من الحضور الدافئ بين الناس رغم البؤس الذي يعيشه، وكان ذلك عبر اندراجه سريعا في العمل الوظيفي بعد توقفه عن الدراسة. واحساسه بان مواسم فرح مقبلة لم يكن احساسا من فراغ، فهو شأن شباب جيله ( تلك الايام) بدأ يتلمس معادلة مفادها، ان الخروج من الوضع الحياتي الشقي ممكن عبر العمل وبجدية فضلا عن اهمية التحصيل العلمي، ولأنه كان على ثقة من موهبته وعلى خطه القائم في صقل تلك الموهبة عبر العمل والدراسة، لذا كان احساسه العميق بالتفاؤل يبدو موضوعيا وطبيعيا، ومن هنا جاءت روح المرح الغالبة على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية. وقبل تركه الدراسة واثناء اشتراكه العام 1942 في مسرحية “مجنون ليلى”، غنى الغزالي من دون مؤثرات صوتية فأثار الانتباه الى موهبته الحقيقية: الغناء وليس التمثيل الذي كان يدرسه بمعهد الفنون الجميلة.
وفي سياق وعيه الفني الموسيقي المرهف والرفيع في آن كان الغزالي اول مطرب عراقي يغني رفقة فرقة موسيقية خاصة به فضلا عن كونه ممن وجدوا في “الاوركسترا ” الكبيرة قدرة على اظهار التفاصيل النغمية في الالحان، وشكلت الفرقة الموسيقية التي اصبحت ملازمة لحفلاته داخل البلاد وخارجها تجمعا لأفضل موسيقيي العراق وعازفيه فكان رفقته: جميل بشير، منير بشير، غانم حداد، سالم حسين، خضر الياس، روحي الخماش فضلا عن واضع الحان عدد من اغنياته، الملحن ناظم نعيم.
وفي شكل الاداء ، وضع الغزالي لمسات ظلت دالة عليه لجهة حركاته وايماءاته اثناء الغناء، وجاءت تلك الحركات منسجمة مع النسيج الوجداني والنغمي للأغنيات ولم تكن استعراضات خارجية، وبدت تلك الايماءات تعبيرا صادقا عن التفاعل الانساني والوجدانـي الذي يبديه الغزالي مع جمالية النغم وتأثير المفردة الغنائية.
*جزء من دراسة مطولة نشرت على موقع الكاتب والجزء الثاني حسب الرابط