مشرق عباس*
ابتداء جاء تقرير لجنة التحقيق الحكومية العراقية التي تشكلت لبحث عمليات “الإبادة” المنظمة ضد المتظاهرين مطلع الشهر الجاري، منسجما مع الارتباك العام في سلوك قيادات الدولة، وهو الارتباك الذي يتحمل، ومازال، جملة من القراءات الخاطئة لحقيقة ما جرى وخلفياته، وتحديدا تلك “المؤامرة” الغامضة لقلب نظام الحكم التي تم تسويقها بشكل مكثف قبل التظاهرات وخلالها، وتناسى التقرير الحكومي أن يذكر أنها السبب المباشر في كل الانفعال الرسمي الذي قاد إلى المجزرة.
ونسوق في هذا الصدد بدايات تشكل نظرية “مؤامرة قلب نظام الحكم” التي سبقت التظاهرات بنحو شهرين، عندما بدأت مهلة العام التي منحها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لحكومة عادل عبد المهدي تنفذ، وانتهت تحديدا في شهر أكتوبر الجاري، حيث تؤكد المعلومات أن الصدر أبلغ عبد المهدي فعليا في مثل هذه الايام من العام 2018 أنه سيخرج ضده في حال انتهت مهلة العام من دون نتائج حكومية.
ولأن التوقيت هنا في غاية الأهمية، كانت دوائر استخبارية إيرانية ومجموعات عراقية مرتبطة بها وأخرى مقربة من الحكومة، تصوغ نظريات حول “انقلاب أكتوبر” وطريقة خروج الصدر ضد عبد المهدي، ونزعم أن ظهور الصدر في طهران لم يكن يخرج عن هذه الرؤية، وأن تصريحات أدلى بها زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وروجها إعلام الحشد الشعبي باعتبارها كشفا مبكرا لـ”مؤامرة قلب نظام الحكم” تندرج في الفهم نفسه عن طريقة انقلاب الصدر على عبد المهدي.
تحت ضغط “المؤامرة” المزعومة، انبثقت في العراق في شهر أغسطس دوائر سياسية وأمنية وإعلامية مصغرة لوضع خطط التصدي لانقلاب الصدر المنتظر، ومن ذلك إعداد حملات اعلامية مكثفة لمهاجمة المثقفين والإعلاميين والناشطين الذين يتوقع أن يساندوا الصدر في حركته المنتظرة، وكان هدف الحملة هو الربط بين هؤلاء الناشطين وبين السفارة الأميركية وإسرائيل والمملكة العربية السعودية لإحراج الصدر وثنيه عن مخططه الافتراضي!
وفي إطار تلك الخطة المحكمة بدأت التقارير الأمنية تشبك خيوط المؤامرة لتربط بين أطراف لا يجمعها جامع مثل مواقع إلكترونية عراقية ناجحة وصحفيين ومثقفين معروفين، وشخصيات سياسية مغمورة مقيمة في الخارج، وضباط محبوبين في الجيش العراقي مثل اللواء عبد الوهاب الساعدي، وأيضا شخصيات محترمة داخل المنظومة الأمنية والاستخبارية العراقية، ووصل الأمر إلى ربط هذه الخيوط الافتراضية مع شخصيات سياسية وحكومية بارزة.
تدريجيا بدأت التقارير تتزاحم على مكتب عبد المهدي من الدوائر الأمنية المحيطة به، لتصوغ له نظرية متكاملة لمؤامرة إسرائيلية ـ أميركية ـ سعودية ينفذها ناشطون وإعلاميون وضباط ومسؤولون حكوميون، ويقودها مقتدى الصدر نفسه، ومن ثم بعد زيارة الأخير إلى إيران أزيح اسمه من تلك الشبكة “الخطيرة” واستعيض عنه بشخصيات من داخل تياره.
إن الإحساس “بقرب حدوث انقلاب” حكم سلوك وقرارات عبد المهدي والدوائر المصغرة المحيطة به، وهو الإحساس الذي يفسر الآلية الغريبة التي عامل بها ضابطا ناجحا مثل عبد الوهاب الساعدي من دون اعتبار لموقف الشارع منه، كما يفسر التوتر غير المسبوق الذي أحيط بالاستعداد للتظاهرات، ويفسر العنف المفرط وتصريحات الانتصار التي أعقبت التظاهرات.
يمكن القول إن موعد إطلاق “تظاهرات تشرين” والمجهولين الذين ساهموا في تحديد هذا الموعد، كانوا على ما يبدو يدركون بشكل أو آخر حساسية التوقيت، خصوصا أن الأوساط الصدرية كانت تروج لجمهورها الغاضب من المسحوقين والباعة الجوالين وسكان العشوائيات الذين تعرضوا لقطع أرزاقهم أو طردهم ضمن إجراءات حكومية غير مدروسة، بأنهم ينتظرون موقفا نهائيا للصدر من نهاية مهلة العام التي منحت لعبد المهدي.
المفاجأة التي كشفها لاحقا مقربون من الصدر أن الأخير منح عبد المهدي بشكل غير معلن فترة 6 شهور إضافية لإجراء تعديلات في حكومته وإصلاحات ونتائج على مستوى مكافحة الفساد، ويبدو أن ذلك أراح محيط عبد المهدي وبرر صدمتهم بانطلاق التظاهرات على رغم تمديد المهلة.
لقد جاء تقرير اللجنة الحكومية منسجما مع التوقعات العامة، فأمر إطلاق النار الذي خلف حسب تقرير اللجنة 149 قتيلا وأكثر من 4 آلاف جريح (والأرقام مشكوك بدقتها) أصدره ضباط أمنيون، ونفذه جنود بإرادتهم الذاتية، وأن كل ذلك تم بمعزل عن القيادات الأمنية والسياسية العليا في أجهزة الأمن والحكومة.
لكن التقرير يهمل نظرية “المؤامرة” التي حكمت قرار إطلاق النار، ولا يبحث مثلا في تصريحات لافتة أدلى بها رئيس هيئة الحشد الشعبي ومستشار الأمن الوطني فالح الفياض فور عودته من زيارة إلى واشنطن، بأن هناك مؤامرة تم القضاء عليها، متوعدا المتآمرين بـ”القصاص”، كما أن التقرير يهمل تصريحات أدلى بها زعيم العصائب قيس الخزعلي عن تورط شركة “بلاك ووتر” الأميركية بقنص المحتجين، والتقرير لا يدقق أيضا بسيل من الفيديوهات التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي قبل التظاهرات بأسابيع تتحدث عن المؤامرة الإسرائيلية ـ الأميركية التي تستهدف نظام الحكم في العراق!
إن قرار استخدام الرصاص الحي والقناصين ضد المتظاهرين السلميين في بغداد ومدن أخرى، ارتبط بالتوتر الذي سيطر على القرار السياسي والأمني العراقي حول حقيقة وجود “مؤامرة”، وهو قرار لا يتخذ ولا ينفذ خلال ساعات، كما أن قرار القمع العنيف للتظاهرات اتخذ تحت ضغط التقارير المضللة التي حاصرت عبد المهدي من أقرب المقربين له.
بل إن شهادات معتقلين خلال التظاهرات كشفت بدورها عن تحقيقات وعمليات تعذيب ارتبطت بمحاولات يائسة لإثبات وجود “المؤامرة” المزعومة وكشف أطرافها، والحصول على أية علاقة بين المعتقلين والأسماء التي وضعت باعتبارها قيادات في محاولة الانقلاب الفاشلة، فيما تم تغييب العشرات من المعتقلين من الناشطين تحت التحقيق من أطراف مجهولة حتى هذه اللحظة.
إذا كان ثمة مؤامرة حقا ارتبطت بالتظاهرات، فيجب أن تكون مؤامرة التضليل التي ساقتها الدوائر المحيطة برئيس الحكومة، وكل “بروباغندا” التزييف والتضليل التي طبلت قبل التظاهرات وخلالها لهذه المؤامرة، لأن الأجهزة التي ساقت هذه القضية وروجتها وحولتها إلى واقع، هي التي مهدت لقرار القتل الجماعي، وهي التي نشرت القناصين وسوقت لإعدام المتظاهرين، ومهدت لطرد المئات من الصحفيين واقتحام وسائل الإعلام، وهي التي يجب أن تتحمل المسؤولية عن بحر الدم الذي أهدرته القراءات السياسية المرتبكة، والنزعات الأمنية الانتقامية.
*كاتب وصحافي عراقي والمقال عن موقع قناة “الحرة”