مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
تتزايد التهديدات التي تمثلها الفئات المهمشة اجتماعياً، وهى كتلة واسعة من السكان، وخاصة الفقراء والمعدومين ومحدودي الدخل، في العديد من الدول العربية، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، والذين يعيشون في بيوت الصفيح والعشش، سواء في أطراف المدن أو الأحياء المنعزلة أو المساكن العشوائية أو مخيمات اللاجئين، على نحو يتمثل في مجموعة من الظواهر، منها قيادة حركات الاحتجاج العفوية ضد الحكومات القائمة، والانخراط في القتال مع الميلشيات المسلحة، والتجنيد في صفوف التنظيمات الإرهابية، والالتحاق بجماعات الجريمة المنظمة، والعمل كأداة لقوى أجنبية، وعرقلة مسار التحولات الانتقالية، وهو ما أبرزته تفاعلات عام 2019، لاسيما في إطار مقومات كامنة لعدم الاستقرار الممتد.
أحزمة الفقر:
يشير التيار الرئيسي في أدبيات النظم السياسية المقارنة إلى أن المهمشين في بعض الدول العربية هم الذين يقطنون أطراف المدن الكبرى وفقراء الريف والعمالة غير النظامية وعديمي الجنسية واللاجئين والنازحين من مناطق تراكم الأزمات وبؤر الصراعات المسلحة، والتي تعاني من عدم كفاية الدخل وسوء نوعية السكن وانخفاض مستويات مخرجات التعليم والتدريب المهني ونقص الرعاية الصحية والوظائف غير الثابتة، بحيث تمثل “أحزمة فقر”. ومن ثم، اتصلت مطالب قوى الحراك الثوري في موجتيه الأولى (2011) والثانية (2019)، في قسم منها، بحقوق الفئات المهمشة نتيجة سياسات الاستبعاد الاجتماعي أو الحرمان الاقتصادي.
اضطرابات الخبز:
غير أن هذه الظاهرة ليست وليدة عقد من الزمن، بل تعود إلى ثلاثة عقود، حيث انخرط المهمشون في موجة الاضطرابات واسعة النطاق التي شهدتها السودان وتونس والمغرب في فترات مختلفة من عقدى الثمانينات والتسعينات، فيما عرف بـ”اضطرابات الحبز” أو “انتفاضات الصندوق”، في بعض الحالات، لأن الإجراءات والقرارات التي اتخذتها حكومات هذه الدول برفع الأسعار وتخفيض الدعم كانت استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي. وهنا، أعلنت الفئات المهمشة عن رفضها واحتجاجها على بعض الممارسات أو السياسات التي تمس مصالحها بشكل مباشر.
وكان المهمشون حاضرين في الاحتجاجات التي شهدتها دول عربية عديدة، لاسيما في ظل ضعف برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الموجهة للمناطق التي يقطنون بها، وتزداد حدتها عندما يتواجد بها أقليات، بل وتتمركز بها مصادر للثروة الاقتصادية، وهو ما يمثل مصدراً لعدم الاستقرار.
وقد أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط أمام الاجتماع الأول لنقاط اتصال الدول العربية المعنية بمجالات التنمية المستدامة، الذي عقد في 28 نوفمبر 2018، على “أهمية تعديل التوجه والمسار التنموي في المنطقة العربية لتكون أكثر انحيازاً للفئات والقطاعات الضعيفة والمهمشة وأكثر تركيزاً على الفقراء وتمكين الشباب والمرأة وسعياً حقيقياً لتحقيق الأمن والسلم الاجتماعيين بمختلف أبعادهما السياسية والاقتصادية والإنمائية”، مشيراً إلى أن “التحديات والصراعات الداخلية والخارجية التي تشهدها المنطقة وكذلك التحديات التنموية الأخرى سواء الاقتصادية أو الاجتماعية تؤكد أننا في أشد الحاجة لتعديل المسار التنموي”.
لقد تمثلت المداخل التي يمكن من خلالها أن يفرض المهمشون تهديداً للاستقرار داخل بعض الدول العربية، مع الأخذ في الاعتبار محورية “المتغيرات الوسيطة”، فيما يلي:
الاحتجاج الجماعي:
1- قيادة حركات الاحتجاج غير النظامية ضد الحكومات القائمة: غالباً ما تحاول الجماعات المهمشة استغلال الفرص والظروف التي تستطيع في ظلها أن تتحدى الحكومات. ويظل العنف أحد الأساليب، وربما الأسلوب الوحيد أحياناً، لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي، وخاصة عندما لا توجد المسالك والقنوات السلمية اللازمة للتغيير أو عندما تتقلص في بعض الدول أو عندما تتزايد حدة التهميش فيما يطلق عليه في بعض الكتابات “هامش الهامش”.
وهنا، تصبح شرائح كبيرة منهم أكثر استعداداً لتبني المواقف الرافضة، وهو ما ينطبق على احتجاجات المناطق الطرفية في تونس ضد حكومة يوسف الشاهد لدرجة أنه تم طرده في أحد جولاته الميدانية في أغسطس 2019 حينما كان مرشحاً لرئاسة الجمهورية. ويعد من أكثر المناطق المهمشة في تونس حى التضامن الذي كان موضعاً للاهتمام من جانب المرشحين في ظل تنامي المشكلات الاقتصادية والاجتماعية به.
كما انتقلت كرة النار من العاصمة العراقية بغداد إلى مدن الجنوب، خلال احتجاجات أكتوبر 2019، نتيجة الخزان الاحتجاجي من المهمشين اعتراضاً على تفشي الفساد وسوء الخدمات وتدخلات إيران. فعلى سبيل المثال، طرح بعض المحتجين تساؤلات حول الأسباب الحقيقية لمعاناة البصرة، التي يوجد بها ما يقرب من 59% من الاحتياطي النفطي العراقي، من نقص في التوظيف وضعف توفير الخدمات العامة.
وقود الحرب:
2- الانخراط في القتال مع الميلشيات المسلحة: تواصل ميلشيا الحوثي المتمردة استغلال مختلف الشرائح المجتمعية اليمنية، وخاصة الأسر الأشد فقراً، لتجنيد أبناءها في جبهات القتال. وتتصدر فئة المهمشين من ذوي الأصول الإفريقية، حيث تنتهز الميلشيا تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه هذه الفئة من السكان، وخاصة الشباب والأطفال للاستعانة بمجندين جدد مقابل مبالغ مالية زهيدة ومساعدات إغاثية، بحيث يستخدموا في البداية في النقاط الأمنية عند مدخل العاصمة، قبل أن يتم الدفع بهم إلى جبهات القتال في محافظات أخرى مثل حجة وذمار والمحويت والحديدة وتعز وإب.
وفي هذا السياق، أشارت وسائل إعلامية يمنية وعربية، في 16 أكتوبر 2019، إلى زيارات قام بها مشرفون تابعون للحوثي لعدد من التجمعات التي تسكنها الفئات المهمشة في مناطق مختلفة بالعاصمة صنعاء، ومنها تجمع سعوان شرق العاصمة، وتجمع الخرائب في منطقة مذبح، وتجمعى الرماح والربوعي في منطقة الحصبة في شمالها، بهدف الضغط على أسر محددة، وإجبارها على إخضاع أبناءها لدورات ثقافية طائفية، تمهيداً للزج بهم في جبهات القتال.
وقد كشفت إحصائية صادرة عن جمعية “أحفاد بلال” – وهى متخصصة في تنمية وحماية الفئات المهمشة والأشد فقراً- أن الميلشيا الحوثية استقطبت خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 800 مجند من تجمعات المهمشين (والتي يطلق عليهم الأخدام، ويزيد عددهم عن المليون نسمة) في المناطق السابق ذكرها، معظمهم من المراهقين والأطفال، لاسيما بعد النقص في صفوف الحوثيين ورفض عدد من القبائل إرسال أبنائها للجبهات وفرار أسر أخرى إلى المدن الخاضعة لسلطة الحكومة الشرعية خوفاً من اعتقالهم وإجبارهم على العودة.
حواضن الإرهاب:
3- التجنيد في صفوف التنظيمات الإرهابية: يمكن للإرهابيين تجنيد عناصر جديدة من المواطنين المهمشين داخل الدولة المراد استهدافها. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” يحاول تجنيد مواطني الجزائر المهمشين بحيث يستعيد نفوذه مرة أخرى في أعقاب الضربات التي تعرض لها من قبل الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية الجزائرية، حيث يحاول في هذا السياق استغلال انشغال النواة الصلبة للدولة بتجاوز حقبة حكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة والاستعداد لإجراء الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 ديسمبر 2019.
اقتصاديات الحدود:
4- الالتحاق بجماعات الجريمة المنظمة: كشفت الاحتجاجات التي شهدتها بعض الدول العربية عن حالة من الترهل والضعف الأمني، انعكست على عدم قدرة الدولة المركزية فى السيطرة على كامل إقليمها سواء بشكل كامل مثلما حدث فى حالات كل من ليبيا واليمن وسوريا والعراق والصومال، أو حتى جزئي على بعض المناطق الحدودية مثل تونس، وبعض المناطق الطرفية والهامشية في الجزائر.
وقد ساهمت ظاهرة عدم القدرة على السيطرة الحدودية فى انتشار شبكات وعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتى أصبحت تحقق مكاسب ضخمة، وهو ما جعل احتمالات المخاطرة قليلة فى مواجهة المكاسب الضخمة التي تتحقق، على نحو ساهم فى تعميق وانتشار هذه الجماعات المصلحية بشكل أوسع من فترات سبقت، وذلك بالإضافة للامتدادات القبلية والعشائرية العابرة للحدود، والتى تمارس دوراً مهماً فى نشأة مثل هذه الجماعات.
ركيزة الفوضى:
5- العمل كأداة لقوى أجنبية: والتي تهدف إلى إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في الداخل، حيث تستغل بعض القوى الإقليمية سوء أوضاع الأقليات المهمشة في دول عربية تعاني من أزمات حادة، وهو ما تقوم به تركيا من تهديد للاستقرار في كل من سوريا والعراق عبر الاستعانة بوكلاء لها.
متاهة الانتقال:
6- عرقلة مسار التحولات الانتقالية: يواجه المجلس الانتقالي السوداني تحدياً لا يمكن التقليل منه في حال تجاهل “تجمع الهامش” في مناطق الحروب والصراعات والمناطق الأقل تنمية المتمثلة في مناطق دارفور وشرق السودان والنيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة، لاسيما أن هناك عدداً كبيراً من تلك المناطق شارك في الاعتصام الذي أدى إلى الإطاحة بنظام البشير في 11 إبريل الماضي، فضلاً عن أنه لا يمكن حصر تمثيل الهامش في الحركات المسلحة فقط.
مقاربة شاملة:
خلاصة القول، إن السياسات التي تتبعها الحكومات في بعض الدول العربية لمعالجة مشكلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وخاصة في مناطق الأطراف أو الهوامش تبقى، في بعض الحالات، معالجات جزئية ومحدودة، لأنها لم تعبر عن منظومة تنموية شاملة، وهو ما يتطلب تعزيز مقاربات مكافحة التهميش في المنطقة العربية، لأن المهمشين يشكلون قوة ضاغطة قابلة للتدحرج ككرة الثلج متى توافرت الظروف والعوامل المساعدة.