د. أياد العنبر
مِما يُحكى بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، أن صدام حسين في إحدى لقاءاته مع وجهاء وشيوخ العشائر في المحافظات الوسطى والجنوب العراقي، كان يحدثهم عن انتصار العراق في الحرب على أميركا التي قادت تحالفا دوليا ضمَّ 33 دولة شاركت لتحرير الكويت من الاجتياح العراقي. وكان من ضمن الحضور رجلا يضج بالبكاء والنحيب! حين سأله رفاقه عن سبب البكاء؟ أجاب: أبكي على حال أميركا، إذا كنا نحن المنتصرون، حالنا حصار ودمار، يا ترى كيف هو حال أميركا المهزومة!
أتذكر هذه الحادثة دوما، كلما سمعت خطابات الانتصار، والتي تكاد لا تفارقنا بسبب كثرة حروبنا التي نخرج منها منتصرين على الدوام! فأنا من جيل شهد ثلاثة حروب بأقل من خمسة وعشرين عاما. فيما بعد عاش ما يشبه الحرب الأهلية بعد 2003، وكانت آخر الحروب في بلدي الحرب ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، ويبدو أنها كانت الحرب الوحيدة التي كنا فيها على حقّ ضد قوى التطرف والإرهاب. وكان من حسناتها توحيد المجتمع العراقي. لكن يبدو أن الحكومة والطبقة السياسية لا تزال تضيّع فرصة الاستثمار بالنصر الحقيقي الذي حققه العراقيون في تلك الحرب.
وبذلك يكون العراقيون من أكثر شعوب المنطقة معايشة للحرب ومأساتها، فهم كانوا حطبها وجربوا وتعايشوا مع خساراتها. ولم يعرفوا معنى الانتصار فيها إلا في الشعارات والخطابات الحماسية للزعيم الأوحد. فالنصر في مفهوم الأنظمة الشمولية أو مجتمعات الزعامات، يكون محصورا بدلالة واحدة، وهي بقاء هذا القائد في سدة الحكم، أو بقاء ذلك الزعيم حيا. ولا يهم ضحايا الحروب من شهداء وأرامل وأيتام وعسكرة المجتمع. وقاست مجتمعاتنا الأمرين، قلق الحرب وخساراتها، وحيرة السؤال عن الجدوى منها؟ فلا أحد يكترث بضحاياها ولا محاكمة لنتائجها.
وفي كثير من مناطق بغداد وفي المحافظات الوسطى والجنوبية تنتشر صور لشهداء الحرب ضد تنظيم داعش. وتكمن المفارقة في واقع تلك المناطق، فهي تعاني من دمار في البنى التحتية، على الرغم من الأموال الضخمة التي خصصت لها. فالفساد وسوء الإدارة كانا عائقا أمام النهوض بالواقع الخدمي للكثير من مناطق العراق.
بالمقابل تركت الحربُ المناطقَ المحررة مدمرة، ناهيك عن ضحايا التنظيم في تلك المناطق من شهداء ومغيبين.
وبالنتيجة تشارك الفساد والحرب في دمار العراق، لكن الخطأ الأكبر ضياع فرصة تحويل الانتصار في الحرب إلى منطلق لتحقيق الإجماع الوطني في رفض الإرهاب والعنف، وعدم قدرة الطبقة الحاكمة على توظيف منجز النصر لإعادة الثقة بين المواطن والدولة. بل حدث عكس ذلك، إذ تحول النصرُ إلى فرصة لظهور طبقة اجتماعية طفيلية من مافيات وتجّار الحروب.
ومن مفارقات النصر على داعش، إن الذين خلقوا الحرب بسوء إدارتهم وفسادهم، وبمشاركة أصحاب الخطاب الطائفي التحريضي ضد الدولة، قد تعالت أصواتهم بالاحتفال بالنصر، وبقوا زعماء كتل سياسية. فلا المجتمع عاقبهم على حماقتهم السياسية، ولا المؤسسات القضائية حمّلتهم مسؤولية التقصير.
وهنا يعيد العراق السيناريو اللبناني؛ فقادة الحرب الأهلية، بات أغلبهم الزعماء السياسيين الآن؛ بالأمس كانوا يتقابلون في جبهات القتال، واليوم يجلسون على طاولة التحاور السياسي. فهم لم يتغيروا ولم يتحملوا المسؤولية التاريخية عن خسارات حروبهم العَبَثية التي كان أبناء الطائفة ضحاياها.
ويبدو أن لعبة الحروب لا تزال تستهوي الكثير من زعامات الشرق الأوسط. فطبولها لم تتحول بعد إلى متاحف التاريخ كما فعل الأوربيون. فثمّة حروب بعناوين “الاستنزاف” أو بـ “النيابة” تلوح في أفق المنطقة.
فالمعركة في سوريا لم تُحسَم بعد لصالح النظام، وبالتأكيد سيعتبر الأمر انتصارا ما دام هو باق كرئيس للجمهورية! ولا يهم حجم الدمار والضحايا وتحوّل سوريا إلى حلبة لصراع الإرادات الدولية والإقليمية.
واللبنانيون متخوفون من حرب جديدة يكون ضحيتها الأولى الاقتصاد اللبناني. وفي اليمن كل يوم يمضي من دون حسم للمعركة بين الأطراف المتصارعة يعني مزيدا من الضحايا الذين تحولوا إلى أرقام في التقارير الدولية من دون أن يكون هناك أفق للحل. وفي الوقت الذي يستنزف استمرار الحرب الاقتصاد السعودي، يعد الحوثيون استهداف المنشآت النفطية السعودية نصرا لهم!
وفي العراق يسعى تجار الحروب إلى جعل العراق ساحة حرب لقوى إقليمية متعادية، فهم يؤمنون بمقولة: لا صوت يعلو على صوت المعركة. وهم بأمان من المسألة ما دامت هناك حرب.
كل هذه العناوين لحروب عبثية نتائجها واضحة للعيان من دكتاتوريات راسخة بالحكم، واقتصاديات منهارة، وغياب للسِلم الأهلي، وهيمنة المافيات السياسية على مصائر البلدان، ودول هشّة يغيب فيها حكم القانون. ولكننا لا نزال نتغنى بالانتصارات، فالمهم أن الحرب تنتهي وزعاماتنا السياسية باقية وتمدد.
مشكلتنا مع الأنظمة لا تزال مستمرة، فلا الدكتاتور كان يفكرنا بنا قبل أن يخوض حروبه لتصدير أزماته الداخلية نحو عدو خارجي، ولا من منحناهم الشرعية ليكونوا حكاما قادرين على تحقيق السلم والأمان.
إذ في كلا الحالتين باتت الحروب قدرا محتوما. فحكامنا لا يفكرون وفق منطق صناعة السلام تحتاج شجاعة أكثر من شجاعة إعلان الحرب؛ لأنهم يدركون جيدا أن حروبهم لن تمس مناصبهم ولن يكونوا أولادهم أو ذويهم من ضحاياها، وهناك من يجهز لهم خطاب النصر والاحتفاء به، ولا أحد يحاسبهم على أخطائهم.
حكايتنا مع الحرب وانتصاراتنا الموهومة عبّر عنها الكاتب الألماني “أريش ماريا ريمارك” في روايته “كل شيء هادئ في الميدان الغربي”، والتي يلخص فكرتها الكاتب والصحفي العراقي الأستاذ علي حسين قائلا: إنه ليس هناك أيّ أمل للمتورطين في الحرب، يصبحون مرضى بطريقة أو بأخرى. وإذا نجا فرد من الحرب فإنه يتضاءل وجوده ككائن بشري، الحرب هي حكم بالإعدام على كل الناس والطبيعة، فهي تفسد إنسانيتنا، وضميرنا!
*أكاديمي وكاتب عراقي والمقال عن موقع “الحرة”