علي جاسم العبادي
ملاحظة
أُهدِي هذه المقالات إلى الدماء الزكية والأرواح الطاهرة للشهداء الفلسطينيين، الذين أزهقتهم أيادي الإرهابيين الصهاينة من يهود أوروبا وأمريكا، منذ “وعد بلفور” البريطاني المشؤوم (سنة 1917) وحتى يومنا هذا.
إِنَّ المواجهة الجديدة شبه العسكرية وغير المتكافئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي بدأت فجر يوم السبت (7 تشرين الأول/أكتوبر 2023)، ومضى عليها أسبوع مأساوي، هي ليست من صنع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قِطَاع غَزّة المُحاصَر التي أَسمَتْها “عملية طوفان الأقصىٰ”، بل هي أساسًا من صنع الكيان العنصري الصهيوني الإسرائيلي. وهذا الكيان الإجرامي لم يكتفِ بتدمير فلسطين وإبادة الشعب الفلسطيني والثقافة الفلسطينية على مدى (106) سنوات، بل فرض حِصارًا صارمًا وظالمًا وخانقًا من البرّ والبحر والجوّ منذ سنة (2006)، ولا يؤمن بأيّ شيءٍ ٱِسمه “السلام العادل والدائم”. والعصابات الصهيونية الإسرائيلية الحاقدة على البشرية حاذقة جدًّا بلعبِ دور الضحية التاريخية والتظاهر بحبّ السلام لتحقيق أهدافٍ مرحلية بِٱتجاه الهدف الأبعد، وهو السيطرة التامة على المنطقة العربية والإسلامية وٱستنزاف مواردها البشرية والمادية وحرمانها من فرص التقدم المدني والحضاري والٱِستقرار والرفاهية.
وحسبما أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قِطَاع غزّة، يوم السبت 14 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فإنّ عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على القِطَاع ٱِرتفع إلى (2215) شهيدًا، بينهم (724) طفلًا، و (458) ٱِمرأة، فضلًا عن إصابة (8714) مواطنًا بجراح متنوعة، فيما تم تسجيل (2450) طفلًا، و (1536) ٱِمرأة بين الجرحى. وأوضحت وزارة الصحة الفلسطينية في غَزّة، أن الٱِحتلال الإسرائيلي قتل (324) مواطنًا، منهم (126) طفلًا و (88) ٱِمرأة، بالإضافة إلى إصابة (1018) مواطنًا، خلال يوم الجمعة فقط. وأكّدَت وزارة الصحة الفلسطينية في غَزّة بأنّ (66%) من ضحايا العدوان الإسرائيلي من الأطفال والنساء (المصدر 1).
وحسب إحصاءات متحفِّظَة جدًّا، فإنّ الحروب العنصرية الإسرائيلية لإبادة الشعب الفلسطيني، منذ سنة النكبة العظمى (1948) وحتى بداية سنة (2023)، أدّت إلى قتل أكثر من مئة ألف (100,000) شهيد فلسطيني (المصدر 2). وجرائم الإبادة البشرية التي تشنُّها إسرائيل بصورة منتظَمة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل تُضاف إلى جرائم أخرى بشعة، مثل الٱِعتقال التعسفي والسجن بلا محاكمة والتعذيب والتهجير والنفي ومصادرة الأملاك الفلسطينية وهدم القرى والبيوت وتغيير أسماء المدن والمناطق والمضايقة والتهديد وكافة أشكال الٱِضطهاد الإرهابي والعنصري.
ما هو جوهر الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
في غمرة الأحداث والتفاصيل المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني على مدى (106) سنوات، ينسىٰ أو يتناسىٰ أو يتجاهل أو يجهل البعض حقيقة وأصل الصراع الدائر وأسبابه. ولدوافع متعددة، يقفز البعض قرنًا كاملًا من الزمن ويتساءل بكل براءة عمّا يجري الآن قائلًا، لماذا يلجأ مقاتلو “حماس” إلى إطلاق صواريخ مشابهة للألعاب النارية ولا تُؤذِي اليهود الصهاينة وإنما تؤدّي إلى مجازر بشعة ترتكبها إسرائيل بحجة الثأر والٱِنتقام وردّ العدوان والدفاع عن النفس وغيرها من الذرائع المألوفة لدى العدو الصهيوني؟ أَلَيسَ من الأجدر بالفلسطينيين في قِطَاع غزّة والضفة الغربية أن يقبلوا بالحلول السلمية والتفاوض المستمر مع الجانب الإسرائيلي لتحقيق السلام العادل والدائم، وذلك بما يُسمّى “حَلّ الدولتَين” – أي تأسيس دولة فلسطين ودولة إسرائيل؟ أَلَا تَجنِي “حماس” على نفسها عندما تواجه أقوى جيش في المنطقة العربية والإسلامية، وهو الجيش العدواني الإسرائيلي؟ وكيف يواجِه الفلسطينيون قوة إسرائيلية غاشمة بينما كلّ أعصاب الحياة في غزّة والضفة الغربية تعتمد على موافقات العدو الإسرائيلي بالسماح بالماء والكهرباء والوقود والهاتف والإنترنت والعلاج الطبي والأغذية والمواصلات البرية والبحرية والجوية والمصارف، إلخ؟ وإذا كانت “حماس” تُصِرُّ على تحرير كل التراب الفلسطيني بينما “السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية” مُلتزِمة بِٱتفاقيات السلام مع إسرائيل وتوافق على الحلول الجزئية والتنازلات الجوهرية، أَ لا يعني هذا أن “حماس” غير واقعية في أهدافها لأنها مستحيلة، والعالم كله يقف ضدّها؟ وكلّ هذه التساؤلات تبدو معقولة ومشروعة سوى أنها تنطلق من مبدأ الرضوخ للأمر الواقع على علّاته، على أساس أنّ إسرائيل هي التي خَلقَت هذا الواقع بالقوة الإرهابية المُفرِطة، وعلينا أن نتعامل معه كما هو، ويجب أن ننسى منطق العودة إلى الوراء قبل (100) سنة.
ولكن، عندما يَشهد الطفلُ الفلسطيني بعمر (10) سنوات ثلاثَ حروب إسرائيلية ضد أهله في غزّة ويشهد بنفسه الرعب والصدمة العصبية والدمار والخراب في كل مكان حتى في مدرسته التي يلجأ إليها إذا كانت قريبة من بيت أهله. وعندما يستيقن المراهق والشاب اليافع أن جنديًّا إسرائيليًّا وصاروخًا وقنبلة إسرائيلية ستقتله في أي وقت. وعندما يعيش الرجال والنساء والشيوخ والأطفال في مخيمات بائسة ومزرية وتحاصرها وتخنقها قوات الٱِحتلال الإسرائيلي من كل جانب. وعندما تكون نسبة (50%) من القوى العاملة عاطلة عن العمل. وعندما تكون كلمة “مستقبل” و “حياة طبيعية” لا معنى لها في قاموس المواطن الفلسطيني اللاجئ في وطنه. وعندما يرى الفلسطينيون أمريكا وأتباعها في حلف الناتو وهم يضخّون الأسلحة الفتاكة إلى إسرائيل لقتل أكبر عدد منهم. عندما تكون هذه هي حياة الفلسطيني على أرضه وفي وطنه فلسطين على مرّ السنين، ولم يبقَ له شيء يعيش من أجله، فلا بد أنه يَتمثَّل في كل ساعة ما قاله الشاعر العراقي أبو الطيِّب المُتَنبِّي:
فَـطَـعْـمُ المَوتِ فِي أَمْرٍ صَغيرٍ
كَـطَعْـمِ المَوتِ فِي أَمْرٍ عَظيمِ
وعلى هذه الأساس البسيط فإنّ الفلسطيني مُضطرٌ أن يقاوم الٱِحتلال الإسرائيلي الغربي بكافة الوسائل المتاحة لديه، وهي خيارات قليلة جدًّا، ويكون الموت “في أمرٍ عظيمٍ” أفضل من الموت “في أمرٍ صغيرٍ”. وإذا كان الأمر كما قال الشاعر العراقي ٱِبنُ نُبَاتةَ السَّعْدِيّ:
مَنْ لمْ يَمُتْ بِالسيفِ مَاتَ بِغَيرهِ
تَــعَــدَّدَتِ الأسبابُ والمـوتُ واحِــدُ
أي أن إسرائيل هي التي دفعت وتدفع الفلسطينيين نحو هذه الزاوية الميتة على مدى (75) سنة الماضية، وعندما يحتجّون ويصرخون تواجههم القوات الإسرائيلية بالعنف المفرط والوحشية.
وَلِكُلِّ مَن يَحتَجُّ ضد الفلسطينيين وَيَنعت “حماس” بأنها “منظمة إرهابية”، كما نَعتوا بالأمس منظمة التحرير الفلسطينية بالإرهاب، نقول له بأعلى صوت، إنّ الإسرائيليين بطبيعتهم وأصلهم إرهابيون مُحترِفون وغزاةٌ وهمجٌ وقوّات ٱِحتلال عسكري أجنبي، جاؤوا من مراكز الجرائم المحترِفة والدعارة في أوروبا وأمريكا، وعليهم أن يعودوا إلى البلدان التي جاؤوا منها اليوم قبل الغد. ونُذَكِّرُ العصابات الإسرائيلية الحاكمة بما قاله الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي: