عوني القلمجي
لا تعنيني كثيرا الاتهامات التي يوجهها البعض الى حركة المقاومة الإسلامية حماس، سواء فيما يتعلق بعلاقتها بإيران، ووصف معاركها ضد الكيان الصهيوني، بانها تصب في خدمتها، او تعينها في صراعها مع الامريكان حول ملفها النووي، او رفع الحصار الاقتصادي عنها، او حتى مراعاة اجندتها الخاصة، فهذه الاتهامات، بصرف النظر عن صحتها او خطاها، لا تبرر الوقوف ضد حماس في المعركة المشرفة، التي خاضتها نخبتها المقاتلة، خلال الأيام القليلة الماضية ضد الكيان الصهيوني الغاصب، او حتى الوقوف على الحياد. فالخلاف مع حماس او غيرها من فصائل المقاومة، مهما كان شكله ونوعه، لا يرتقي الى مرتبة صراع الوجود مع الكيان الصهيوني. فالأول يمكن إيجاد حل له في أي وقت، في حين ان الثاني لا يمكن حله الا بطرد هذا الكيان من كامل التراب الفلسطيني.
بمعنى اخر، فان رفض سياسة حماس وعلاقاتها بإيران، لا يعطينا حق الوقوف ضد نخبها المقاتلة، او التفرج عليها. فهي فلسطينية أصلا قبل ان تكون لها هوية سياسية قابلة للتغيير او التحول وحتى الزوال. كما ان من حق الجميع الاختلاف مع حماس وعلاقاتها مع النظام الإيراني، الذي لعب دورا سيئا في منطقتنا بعد احتلال العراق. لكن لا ينبغي التفريط باي جهد مقاوم ضد الكيان الصهيوني.
هذه المعركة التي اذهلت العالم كله، اسقطت نظرية الجيش الصهيوني الذي لا يقهر.
والذي حاول الكيان المسخ والاعلام الغربي الاستعماري ترسيخها على مدى سبعين عاما في العقل الفلسطيني خاصة والعربي عامة، اسقطها هؤلاء الابطال في الساعات السبع الأولى من بدء الهجوم.
مما شكل صدمة لحكومة الكيان الصهيوني، دفعها لإعلان حالة الحرب لمواجهة هجوم، يعد الأول من نوعه داخل الأراضي المحتلة. ولتدارك تطوراته، بعد ان فرض المقاتلون الفلسطينيون السيطرة الكاملة على عدد من المستوطنات ومعسكرات الجيش الصهيوني وفرقة غزة العسكرية ليمتد الى القدس وتل ابيب، مخلفا لحد الان أكثر من ألف قتيل بين صفوف جيش الاحتلال، بالإضافة الى أكثر من الفي جريح ومئات الاسرى والمفقودين. ومما يلفت الانتباه، الى ان أمريكا، الدولة الأقوى في كوكبنا، فقدت صوابها جراء الرعب الذي انتابها، على مستقبل وجود الكيان الصهيوني واحتمال هزيمته. وخير دليل على ذلك، تحريك حاملة طائرات باتجاه المنطقة، والتهديدات التي أطلقتها ضد هذه العملية.
إضافة الى توسلها بحلفائها في دول الغرب الاستعماري والمنطقة، لإجبار قادة حماس على وقف الحرب.
اكدت هذه المعركة المشرفة تمسك الشعب الفلسطيني بالثوابت الوطنية والقتال من اجل استعادة حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها إقامة دولته على كامل التراب الفلسطيني. وفي نفس الوقت، مثلت هذه المعركة القيم السياسية غير القابلة للتنازل، او حتى الجدال حولها. ولأنها كذلك، فان الشعب الفلسطيني، يعود ليقاتل من اجلها، مهما طال الزمن وغلت التضحيات. فالاستعمار الفرنسي للجزائر دام 132 عاما. ولكنه هو الذي هُزم في النهاية. الامريكيون ارتكبوا من الجرائم الوحشية في فيتنام الكثير، ولكنهم هزموا أيضا. وهزموا في لبنان والصومال، وأخيرا في أفغانستان. اما المقاومة العراقية، فقد مرغت انف جنود الاحتلال الأمريكي بالتراب في مدينة الفلوجة. وحتى لو تمكن الكيان الصهيوني من الصمود امام مقاومة الشعب الفلسطيني عقودا أخرى من الزمن، إلا انه لن يقدر على اجبار هذا الشعب الجبار على القبول بالأمر الواقع. بمعنى اخر، فان محاولات هذا الكيان المسخ، لأنهاء الشعب الفلسطيني، ستبوء جميعها بالفشل.
هكذا هو الامر دائما. وكما يقال “إذا عجز الشعب الفلسطيني عن المقاومة فالحجر سينطق ليقاوم”.
لقد حققت هذه المعركة المشروعة، لأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، انتصارات مذهلة أدخلت الكيان الصهيوني في دوامة من الارتباك والاختلال.
وهذه تعيد للأذهان وصول صواريخ حماس الى تل ابيب، عاصمة الكيان الصهيوني عام 2021، واشعال الحرائق في أرجائها كافة، على الرغم من القبة الحديدية، التي وصفها الإسرائيليون بانها الدرع الذي لا يمكن لاي صاروخ من اختراقه، الامر الذي اجبر الحكومة الصهيونية على غلق مطاراتها بوجه الملاحة الجوية من جهة، واجبار ما يسمى بالشعب الإسرائيلي على الدخول في الملاجئ من شدة الخوف والرعب من جهة اخرى.
اما الانتصارات التي تحققت على الجهة الأخرى، فقد فشلت لحد الان عمليات القصف الجبانة للطيران الصهيوني ضد غزة، رغم وحشيتها.
وكاتب هذه السطور يجزم، بان الذي خطط لهذا الهجوم الكبير والنوعي، قد وضع في الحسبان ردود الفعل الانتقامية، التي درج عليها الكيان المسخ، كلما خسر معركة اقل من هذه المعركة بكثير. وبالتالي، حتى إذا تمكن جيشه من اجتياح غزة، فلن يتمكن من الوصول الى مصانعها العسكرية، التي تمكنها من دخول معاركها القادمة، وفي الوقت الذي تشاء. ومن هذه الانتصارات أيضا تمكن المقاومة الفلسطينية بسلاحها البسيط من معادلة أكبر الة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط .
في الجانب السياسي تحققت انتصارات هامة. حيث استطاع سلاح المقاومة ان يجبر العالم على العودة الفورية الى ملف القضية الفلسطينية ووضعه على جدول اولياته، بعد ان وضع هذا الملف فوق الرفوف العالية، الى درجة كاد العالم وشعوبه نسيان هذه القضية العادلة بالكامل.
في حين ان الراي العام العربي والعالمي قد استنفر قواه ووقف الى جانب الشعب الفلسطيني. حيث خرجت المظاهرات في مختلف دول العالم وقاراته الخمس.
من جانب اخر، فان هذه المعركة قد اعادت الثقة للشعب العربي، من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي، وامنت بقدرته على الحاق الهزيمة الكاملة بالمحتل الصهيوني.
الى درجة لم يعد بإمكان عملاء الصهيونية في المنطقة، والاقلام المأجورة إشاعة روح الياس والخنوع في صفوفه مرة اخرى، او دفعهم الى الاستسلام للأمر الواقع.
لكن اهم هذه الانتصارات السياسية والمعنوية على الاطلاق، تمثلت في تأكيد حقيقة، حاول عملاء الاحتلال تسفيهها.
حيث اثبت المقاتلون في غزة، قدرة الشعوب، مهما كانت صغيرة او ضعيفة، على تحقيق الانتصار ضد اية قوة غاشمة، مهما علا شانها ومهما امتلكت من الة عسكرية عملاقة. وهذا امر مهم جدا، بسبب التراجع الذي حدث لحركات التحرر في العالم، ونجاح اعلام الدول المستعمرة من إشاعة روح الياس، حول قدرة الشعوب على تحقيق الانتصار. خاصة وان الشعب الفلسطيني في غزة لم يتجاوز عدده مليون نسمة، ومساحة غزة لا تعادل حيا من احياء اية دولة عربية صغيره. حيث لم تتجاوز مساحتها 360 كيلومتر مربع.
هذه العملية كانت ضرورية وملحة جدا. فقد شهدت المنطقة في الآونة الأخيرة أكبر مؤامرة لأنهاء القضية الفلسطينية، بتصاعد وتيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، شملت عددا من امارت الخليج العربي ودولا أخرى، مما يدعو الى مجابهة هذا التطور. وليس من قبيل المبالغة القول، ان هذه المعركة البطولية ستسقط حكومات العمالة والمطبعين مع الكيان الصهيوني طال الزمن ام قصر. لتبرز حكومات وطنية لا تقف متفرجة على معركة من هذا الوزن الثقيل. وقد تكون المعركة القادمة في ظل الحكومات الوطنية بقيادة الشعوب، وليس بقيادة الجيوش. إذا تكفي الأنظمة الوطنية بفتح الحدود للمتطوعين للدخول الى الأرض المحتلة بمئات الالاف، عندها تتعطل أسلحة الكيان الصهيوني، لتقتصر المعارك على الاشتباكات القريبة، وحتى المواجهة بالسلاح الأبيض.
ترى هل سيصمد هذا الكيان المصطنع، الذي هزمه بضع مئات من المقاتلين، بأسلحة بسيطة في معارك الأيام الأربعة الماضية؟